د. محمد الباز يكتب: إمام التفكير.. نصر أبوزيد يحاكم سيد قطب

- القبض على سيد قطب أنهى تعاطف «أبوزيد» مع الإخوان

- قطب وضع النظام الإسلامى فى علاقة تعارض تام مع الثقافة الغربية

- الرغبة فى السيطرة الكاملة سبب خلاف الإخوان وثورة يوليو

كان طبيعيًا أن يقع نصر حامد أبوزيد فى غرام سيد قطب. 

لكن أى سيد قطب وقع نصر فى غرامه واعترف بأنه كان مفتونًا به؟ 

باعترافه هو لكمال الرياحى صاحب كتاب «نصر حامد أبوزيد.. التفكير فى وجه التكفير» قال: قراءتى فى الفكر الدينى قبل الجامعة كانت لا بأس بها، وكانت بتأثير فكر الإخوان المسلمين، الذى تأثرت به فى صباى الأول، كتابات سيد قطب ومحمد قطب بصفة خاصة، كنت مفتونًا بكتابات القطبين عن القرآن والفن، وتفسير سيد قطب «فى ظلال القرآن» كان مدهشًا ومذهلًا بالنسبة لى. 

سيد قطب الذى يتحدث عنه نصر أبوزيد هنا، والذى اعترف بإعجابه به، ليس قائد التنظيم الإرهابى الذى خطط لقلب نظام الحكم واغتيال الشخصيات العامة، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر فى العام ١٩٦٥، وليس الإخوانى المتطرف الذى أراد أن يُخضع العالَم لحكمه، وإلا فالقتل باسم الله. 

كان نصر يتحدث عن سيد قطب الذى دخل إلى القرآن من زوايا مختلفة، وأهمها التصوير الفنى، وما يؤكد أنه كان فقط واحدًا ممن قرأ لهم نصر، فلم يكن أسيرًا له، ما قاله بعد ذلك عن قراءاته المتعددة. 

يقول نصر: إلى جانب فكر الإخوان كنت قارئًا نهمًا للعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ، كما كنت على وعى بالأزمات التى أحدثتها بعض الكتب الجسورة مثل كتاب على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وكتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى»، بل وعاصرت أزمة خالد محمد خالد فى كتابه «من هنا نبدأ»، كل هذا غيّر توجهاتى فقررت أن أكون ناقدًا أدبيًا. 

يضع جابر عصفور أيدينا على نقطة النور التى عثر عليها نصر حامد أبوزيد، فكشفت له الخلل فى أفكار الجماعة، وكانت كلمة السر هى سيد قطب نفسه. 

يقول جابر: يبدو أن القبض على سيد قطب بسبب تآمره ضد نظام عبدالناصر الذى كان مقربًا فى بداية قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، وما انتهى إليه تنظيمه من نهاية مأساوية وما تكشف من أفكاره الإرهابية، ساعد نصر على التخلى عن تعاطفه مع الإخوان المسلمين، واستبدال التيارات العقلانية فى الحضارة الإسلامية بفكرهم السلفى، الأمر الذى جعله أكثر تقبلًا للاختلاف وداعية لحق الاختلاف على السواء، وكان ذلك فى مسار سرعان ما باعد بينه وسلفية الإخوان الذين كان صديقًا لهم قبل أن يدخل الجامعة، ويتعرف عن قرب على أفكار أمين الخولى، ويقترب من أفكار حسن حنفى التى ظل يضعها موضع المساءلة طوال سنوات تلمذته المباشرة عليه، فأصبح عقلانى الهوى، ويميل إلى وضع الأفكار الجديدة موضع المساءلة، أقرب إلى أهل العقل والاجتهاد منه إلى أهل التقليد والنقل. 

لم يرفض نصر أبوزيد أفكار سيد قطب والإخوان فقط، ولكنه أدرك كذبهم الكامل، وأعتقد أن أهم ما توصل إليه أن أفكار سيد قطب فى كتابه «معالم فى الطريق» لم تكن طارئة من تجربة السجن أو التعذيب فى المعتقل، إنما هى موجودة فى خطابه منذ البداية، لكنها كانت على الهامش. 

هذه تحديدًا الشرعية التى تستند إليها جماعة الإخوان ومن وراءها الجماعات الأخرى، حيث ترجع عنفها وتطرفها إلى أنه مجرد رد فعل على ما حدث لأفرادها فى السجون من تعذيب، بل يزيد الإخوان ويقولون إن عنف الجماعات يأتى ردًا على عنف الدولة، غافلين أو متغافلين عن أنه لا يمكن المساواة بين الدولة والجماعات من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ما تمارسه الدولة هو إنفاذ للقانون وتطبيقه. 

نصر هنا لا يتحدث كسياسى، بل يتحرك كباحث فقط، وقد مكنته أدواته من الوصول إلى حقيقة سيد قطب، فهو لم يتحول إلى كل العنف الذى بدا عليه فى كتاباته بسبب ما لاقاه فى السجن طبقًا لما يقول دراويشه، لأن الدماء كانت تتسرب بالفعل من كتاباته وتحديدًا كتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» الذى صدر فى العام ١٩٤٩، أى قبل أن يدخل السجن، فقد قادته أحداث حياته إلى كل هذه الكراهية لكل شىء. 

هذه الفكرة أشار إليها نصر بعد ذلك بالتفصيل، معترفًا بأنه توصل إليها عندما دخل الجامعة وبدأ يدرس قضايا ومشكلات معاصرة مع أساتذة تجديديين حداثيين، فقد بدأ يدرك البُعد السياسى فى دعوة الإخوان المسلمين والتيار الدينى. 

يقول نصر: البُعد السياسى كان على الهامش فى الماضى، والحث على العمل والعدل الاجتماعى كان هو المتن، لكن تغيرت الأوضاع وتحولت النظرة إلى الإسلام من عقيدة وشريعة- بما تحويه من عبادات ومعاملات- إلى أن أصبح الإسلام دينًا ودولة. 

مبكرًا كنت أرى هذه الفكرة وأميل إليها، ولا يعنى الانحياز لها والاعتقاد فيها بالنسبة لى إنكارًا لما جرى فى السجون على إطلاقه، لكن الجماعة الإرهابية استطاعت من خلال آلتها الإعلامية الجبارة رسم صورة لم تكن حقيقية أبدًا لما جرى، استعطفت بها الجماهير لتدعمها، وسيطرت بها على الشباب فجذبتهم إليها، مبررة كل ما تفعله بأنه ليس أكثر من رد فعل على ما قامت به الدولة، رغم أن ما تقوم به الدولة فى النهاية هو تطبيق القانون. 

وعى نصر أبوزيد بما كان عليه سيد قطب قبل انضمامه إلى الإخوان، وبعد أن أصبح قياديًا فعلًا فيها، جعله يُقدّم لنا دراسة مهمة فكك من خلالها أفكار وأطروحات «إمام التكفير»، وهى الدراسة التى جاءت ضمن كتابه المهم «نقد الخطاب الدينى»، وهو فى الوقت نفسه الكتاب الذى كان سببًا فى مشكلته الكبرى وقاده إلى تكفيره والتفريق بينه وبين زوجته. 

رصد نصر ملامح التغير فى خطاب قطب قبل انضمامه لجماعة الإخوان وبعد انضمامه إليها، يقول: القارئ لكتابَى «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» ١٩٤٩، و«معركة الإسلام والرأسمالية» ١٩٥٠، يدرك مدى انشغال الكاتب بقضايا الواقع الملحة، ومحاولته البحث عن حلول لها فى الإسلام، لكنه أيضًا- القارئ- يستطيع بسهولة أن يجد فى الكتابين نفسيهما الأصول العامة التى سيطرت على خطاب قطب بعد ذلك. 

من ذلك مثلًا- كما يقول نصر- أن قطب وضع النظام الإسلامى فى علاقة تعارض تام مع الثقافة الغربية، وأنه نعى الانفصام الذى وقع فى الغرب بين الكنيسة والعلم، وهاجم ممثلى الدعوة، إلى التحرير الفكرى والعقلى، خاصة سلامة موسى وطه حسين، ورفض التراث الفلسفى العقلى فى الثقافة الإسلامية على أساس أن للإسلام فلسفته الأصلية الكامنة فى أصوله النظرية من القرآن والحديث، أما فلسفة ابن سينا وابن رشد وأمثالهما ممن يطلق عليهم فلاسفة الإسلام فليست سوى ظلال للفلسفة الإغريقية لا علاقة لها حقيقةً بفلسفة الإسلام. 

ويرصد نصر أن قطب عندما قارن بين علماء الأصول والمذاهب الفقهية من حيث موقف كل منهم من إشكالية النص وعلاقته بالمصالح المرسلة، وقف مع المالكية لأنهم يجمعون بين المصلحة والنص، ورفض اجتهاد «الطوفى» لتقديمه المصالح المرسلة على النص، كما رفض موقف الشافعية الذين لا يعتدون بها. 

بعد انضمام قطب إلى الإخوان فيما بعد تراجع عن هذا الموقف المعتدل من علاقة النص بالواقع، لحساب موقف ثابت لدى الخطاب الدينى المعاصر بشكل عام وهو «لا اجتهاد مع النص». 

كان لدى قطب فى فترته الأولى إلحاح على القضايا الساخنة فى الواقع، وهى القضايا التى كانت شاغل كثير من القوى السياسية والاجتماعية، بل كانت شاغل الخطابين المصرى والعربى على مستوى الفكر والأدب والسياسة. 

ويدلل نصر على ذلك بما قاله قطب فى كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية» من أن الاستعمار يدرك أن قيام حكم إسلامى سيرد الدولة إلى العدالة فى الحكم والعدالة فى المال، فيقلم أظافر ديكتاتورية الحكم واستبداد المال، والاستعمار يهمه دائمًا ألا تحكم الشعوب نفسها، لأنه يعز عليه حينئذ إخضاعها، فلا بد من طبقة ديكتاتورية حاكمة تملك سلطات استبدادية، وتملك ثروة قومية، هذه الطبقة هى التى يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها. 

ويرصد نصر ما يراه قطب من أن عدالة توزيع الثروة فى الإسلام تتحقق بمجموعة من الإجراءات التى لا تتعارض مع الحكم الشيوعى أو الاشتراكى، بل إن هذه الإجراءات كفيلة بأن تقدم للبشرية مجتمعًا من طراز آخر، هو المجتمع الإسلامى، الذى- كما يقول قطب-: قد تجد فيه الإنسانية حلمها الذى تحاوله الشيوعية، ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام والشراب، وتحاول الاشتراكية، ولكن طبيعتها المادية تحرمه الروح والطلاقة. 

وبذلك كما يرى نصر، فإن قطب لا يرى تعارضًا بين الشيوعية والاشتراكية وبين الإسلام، إلا فيما يتصل بالحقيقة فى جانبها الروحى، وهذا قريب إلى حد كبير من طرح الميثاق الوطنى لثورة يوليو الاشتراكية العربية، بل إن الإجراءات التى يطرحها قطب لتحقيق عدالة الثروة فى الإسلام لا تختلف كثيرًا عن تلك التى تحققت فى مرحلة الستينيات. 

ويسأل نصر: كيف حدث التحول فى أولويات الخطاب الدينى عند قطب؟ وكيف عبر هذا التحول عن عداء واضح لكل إنجازات يوليو، وصل إلى حد التجهيل والتكفير، وهى الإنجازات التى كانت مطلب ذلك الخطاب القطبى؟ 

ويجيب نصر: علينا أن نكون على بصيرة من أن التحول كان فى الأولويات لا فى المنطلقات، فقد أصبحت الأولوية لقضية العقيدة التى لم تكن بالقطع غائبة عن قضية العدل، وأصبح ما يقوله قطب يتضمن رفضًا قاطعًا لطرح أى اجتهادات تقدم على أساس أنها من قبيل التضليل عن الهدف الأسمى وهو إقرار المجتمعات البشرية بالعقيدة، وأصبح من واجب أصحاب الدعوة الإسلامية أن يرفضوا السخرية الهازلة فيما يسمى الفقه الإسلامى فى مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه كل شريعة سواها. 

دعوة سيد قطب هذه- كما يرى نصر- كانت موجهة ضد فريق من علماء الدين- بعضهم كان من الإخوان- تعاونوا مع رجال يوليو، لكن الأهم من ذلك أنها تعتمد على مبدأ الحاكمية، فلا اجتهاد ولا تشريع إلا بعد الإقرار به وسيادته بوصفه لب العقيدة وجوهرها، وكما اختفت قضية العدل الاجتماعى، أو تأجل الفصل فيها إلى ما بعد الإقرار بالحاكمية، كان من الطبيعى أن يختفى العدل السياسى نهائيًا، فمفهوم الحاكمية ذاته ينفى التعددية الفكرية والسياسية، ويُعادى الديمقراطية، يقول قطب: إن هناك حزبًا واحدًا لله لا يتعدد، وأحزابًا أخرى كلها للشيطان وللطاغوت. 

وفى قول فصل يذهب نصر إلى أن طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة يعكس ظروفًا شبيهة بتلك التى طرح فيها المفهوم أول مرة- لدى أبوالأعلى المودودى- مع الفارق طبعًا بين الظرفين فى الزمان والمكان وتعقّد الواقع، ولكنه الصراع على سلطة الحكم ولجوء أحد طرفى الصراع الأرضى إلى صراع دينى، يسمح له بتزييف وعى الناس وتخديرهم للوصول إلى السلطة، ومن الخطأ البين تصور أن الصراع الذى وقع بين الإخوان والثورة كان صراعًا حول الدين أو العقيدة، بل كان صراعًا حول السلطة السياسية، أو حول الحاكمية، بمعنى حكم المجتمع والتحكم فى إدارة شئونه. 

ويصل بنا نصر إلى المساحة الأهم، وهى المساحة التى نجد فيها أبوالأعلى المودودى حاضرًا بشكل لا يحتاج إلى إثبات، فمن المصدرين معًا «قطب- المودوى» يتلقى خطاب الجماعات الإسلامية، لا من الخوارج ولا من غيرهم، كما يوحى بذلك أحيانًا ممثلو الخطاب الرسمى المعتدل.

وفى وضوح يرصد نصر أبوزيد مفارقة جديرة بالتأمل، فقد سكت الأزهر ورجاله إزاء كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق» حين صدر، ثم توالت الردود بعد سجن المؤلف ومصادرة الكتاب، وجمعتها الدولة فى كتاب آخر بعنوان «إخوان الشيطان»، وتتركز الردود كلها فى تحميل الخوارج فكر المعالم. 

ويبين نصر أن الأمويين هم الذين طرحوا مبدأ الاحتكام إلى القرآن حين رفعوا المصاحف على أسنة السيوف، وخدعوا جماهير المؤمنين الطيبين الذين أنهكهم القتال، ومن يجرؤ على رفض الاحتكام إلى كتاب الله إلا أن يكون مظنونًا فى دينه وعقيدته؟، وأفاق الجميع، والخوارج خاصة، على حقيقة أن تحكيم القرآن يؤدى بالضرورة إلى تحكيم الرجال، فالقرآن كما شرح لهم الإمام على «إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال»، لذلك فإن مبدأ لا حكم إلا لله الذى أعلنه الخوارج، وبسببه أطلق عليهم اسم «المحكمة»، كان ردًا على حكم رجال بأعينهم فى قضية محددة، هى قضية الخلاف السياسى بين الطرفين المتصارعين. 

وينفى نصر بذلك عن الخوارج التشويه المتعمد الذى يمارس ضد فكرهم من أحقاب بعيدة فى كتب الفرق والمقالات، وإن كان لا ينفى عنهم مثاليتهم التى دفعت سلوكهم إلى التطرف فى أحيان كثيرة، فقد كانوا على وعى بأن للنصوص مجالات فاعليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى لا تتعلق بها هذه الفاعلية. 

يخرج نصر من ذلك إلى أن استدعاء مفهوم الحاكمية- بالمعنى الأموى لا الخارجى- فى خطاب المودودى لم يكن إلا فى سياق الصراع على السلطة بين المسلمين والهندوس فى شبه القارة الهندية عشية الاستقلال، وقد أسهم المستعمر البريطانى، دون شك، فى تعميق الصراع حتى أصبح انفصال المسلمين هو الحل الأمثل، وهو حل روجت له الدوائر الاستعمارية منذ منتصف القرن التاسع عشر. 

هناك وعلى أرض الصراع بين المسلمين والهندوس، انقسم المسلمون فيما بينهم، فانحازت الأقلية إلى الحل الديمقراطى، بينما أصرت الأغلبية على الانفصال، وكان من أهم مبرراته فى الخطاب الدينى اعتبار الدين- لا الأرض ولا القومية ولا التاريخ ولا الثقافة- أساس أى تجمع بشرى، وما دام الإسلام طريقة فى الحياة تغطى جميع المجالات، فمن الضرورى أن يكون لمسلمى شبه القارة الهندية وطنهم المستقل، حيث يمكن أن ينظموا حياتهم وفقًا لتعاليم الإسلام. 

يصل نصر إلى ما نريده فى محاكمته لسيد قطب، حيث يقول: وإذا كان للمودودى بعض العذر فى الحكم على مجتمعه بالجاهلية تأسيسًا على طبيعة العقائد الهندوسية، فإن متابعة قطب له فى تجهيل مجتمعه لا تفسير لها إلا فى مفهوم الحاكمية ذاته، وعلينا ألا ننسى أن المودودى ويتابعه قطب يحكم على كل المجتمعات والأنظمة التى لا تقر بالحاكمية بأنها مجتمعات وأنظمة جاهلية. 

حاول كثيرون مناقشة مفهوم الحاكمية، ومنافاته لصحيح الدين، لكن نصر أبوزيد يذهب بنا إلى مساحة مختلفة تمامًا، فهو يبحث عن النتائج الاجتماعية بشكل عام والسياسية بشكل خاص التى تترتب على طرح مفهوم الحاكمية كما يراه قطب، بالإضافة إلى ما يؤدى إليه من إهدار لدور العقل ومصادرة الفكر على المستويين العلمى والثقافى. 

ويصل من اجتهاده الخاص إلى أن هذا المفهوم- الحاكمية- ينتهى إلى تكريس أشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعية وتخلفًا، بل إنه ينقلب على دعاته أنفسهم، إذا أتيح له أن يتبناه بعض الساسة. 

ويضرب نصر لما يقوله مثلًا واضحًا، فقد كان الخلاف بين الإخوان ونظام يوليو حول الحكم، ولم يكن الإخوان يقبلون بأقل من سيطرتهم الكاملة- باسم الإسلام وتحقيقًا لحاكمية الله- على شئون المجتمع، كان الانفراد بالحكم إذن هو جوهر الخلاف، وهذا ما يفسر طبيعة الصدام ومداه، هذا بالإضافة إلى أن رجال الحكم فى الستينيات كانوا يدركون خطورة السماح بإثارة الحساسيات الدينية فى مجتمع يتضمن أقلية مسيحية لا يستهان بها. 

الأخطر، كما يذهب نصر، أن طرح مفهوم الحاكمية من منظور دينى يتجاوز مجرد كونه يقدم غطاءً أيديولوجيًا لنظام سياسى يزعم الخطاب الدينى أنه يسعى إلى تغييره بنظام إلهى يحقق للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، إن التغطية الأيديولوجية تمثل وجهًا ربما كان غير مقصود من خطورة المفهوم، أما الوجه الأشد خطرًا فهو الوجه المعلن المقصود، حيث يزعم الخطاب الدينى أن النظام الذى يقوم على حاكمية البشر يؤدى إلى استعباد بعضهم للبعض الآخر باحتكار حق التشريع لهم وتنظيم حياتهم، وهو الحق الذى لا يصح أن يكون إلا لله بوصفه سبحانه الخالق والرازق والمهيمن والمسيطر والعالم القادر الحكيم، إن الإنسان يجب ألا يخضع بالعبودية والطاعة والامتثال إلا لله، وما سواه من البشر ينازعونه السلطان والحاكمية طواغيت جاء الإسلام ليحرر البشرية من سطوتهم وسلطانهم. 

ويضع نصر أيدينا أخيرًا على ما يريد أن يقوله، فما يعنيه فى سياق الحاكمية أن الخطاب الدينى يجعلها أساسًا ينسحب على مجالات التشريعات التى تحتاج فى استنباطها إلى الاجتهاد والتأويل، وتحتمل الخلاف حسب اختلاف المصالح، وحسب اختلاف العوائد والعادات كما أدرك الفقهاء، وهذا من شأنه أن يؤدى- فى أحسن الفروض مع افتراض كل النوايا الحسنة فى الخطاب الدينى- إلى العبودية لأحكام بعض البشر بالخضوع لاجتهاداتهم. 

وهذا هو نفسه فى النهاية التقليد الذى نهى عنه الإسلام وحرمه بعض الفقهاء وقارنوه بالشرك، وبعبارة أخرى كما يقول نصر: إذا كان الخطاب الدينى يستهدف بمفهوم الحاكمية القضاء على تحكم البشر واستعبادهم لبعضهم البعض، فإن هذا المفهوم ينتهى على المستوى التطبيقى إلى تحكيم بشر من نوع خاص، يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل وأنهم وحدهم الناقلون عن الله. 

غدًا.. من أين لنصر أبوزيد كل هذا التسامح؟ 

تاريخ الخبر: 2023-04-04 21:22:38
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

نجاح باهر لمهرجان بني عمار زرهون في دورته ال13 - Culturedumaroc

المصدر: Culturedumaroc - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-10 03:24:44
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية