عودة إلي تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية
عودة إلي تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية
ما تزال فصول الحرب الروسية الأوكرانية تتواصل وسط إصرار أطرافها علي عدم التفريط في حسمها لصالحها.. والمقصود بأطرافها روسيا والصين في جانب, والولايات المتحدة وتابعوها الأوروبيون في جانب.. ولا تتعجبوا لعدم ذكري أوكرانيا, لأنه بات في يقين الكافة أن تلك الحرب تم تأجيجها بين أمريكا وروسيا لحساب حسم القطب المهيمن علي العالم, وأن أوكرانيا قبلت أن تستخدم في دور اللاعب بالوكالة عن أمريكا وتابعيها الأوروبيين, بغض النظر عن الهلاك والدمار الذي أصابها.
وأمامنا اليوم ثلاثة مشاهد مهمة تفرض نفسها أمام تداعيات هذه الحرب.. أولها حرب تقويض هيمنة الدولار الأمريكي علي الاقتصاد العالمي, وثانيها تهميش أمريكا للمبادرة الصينية للسلام والمصالحة في أوكرانيا, وثالثها والتي لا تقل خطورة عن سائر تداعيات الحرب الفورات الشعبية التي انفجرت في فرنسا والتي تهدد بالامتداد إلي سائر دول أوروبا لتعكس رفض واحتجاج شعوبها للتمادي في مساعدة أوكرانيا دون أي بارقة أمل في تحقيق انتصار عسكري أو سياسي.
** المشهد الأول يتمثل في إعلان بوتين الرئيس الروسي أن روسيا قررت البدء في ا ستخدام اليوان الصيني في المدفوعات الدولية بدلا من الدولار الأمريكي.. وهذا قرار له مدلوله الاستراتيجي بالغ الأهمية, فنحن نعرف أنه منذ بضعة أشهر أعلنت روسيا التمرد علي الدولار واليورو وإحلال الروبل الروسي بدلا منهما في معاملاتها الدولية, وتزامن مع ذلك إعلان الصين إحلال اليوان الصيني في معاملاتها… فلماذا تجيء روسيا اليوم لتعلن استخدام اليوان الصيني دونا عن الروبل الروسي في معاملاتها؟.. إن ذلك القرار له مدلول خطير بما يعكسه من اتحاد روسيا مع الصين في جبهة واحدة قوية في مواجهة المقاطعة والعقوبات الغربية, وفي التحول من هيمنة الدولار الأمريكي واليورو, وردا علي أية شكوك تتصل بالعلاقات الروسية الصينية الوثيقة في ذلك الصراع العالمي.
في هذا الشأن أسوق إليكم ما أفادت به مونيكا كراولي المساعدة السابقة لوزير الخزانة الأمريكي حيث قالت: مهما حاولنا لا يمكننا توضيح مدي التداعيات الكارثية التي ستنجم عن التخلي عن الدولار الأمريكي كعملة الاحتياط العالمي, فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان الدولار هو العملة المستقرة والآمنة عالميا, وذلك نتيجة دعم مجموعة من الأمور بدأت بغطاء الذهب, لكن جاء الرئيس نيكسون -الرئيس الأمريكي رقم (27) في عداد الرؤساء الأمريكيين (1969-1974)- لينهي ارتباط الدولار بنظام غطاء الذهب, ومنذ ذلك الحين وطوال الخمسين عاما الماضية فقد الدولار قوة غطاء الذهب وحلت معها قوة اقتصاد الولايات المتحدة, علاوة علي أنه ظل العملة المستخدمة في تجارة النفط عالميا.. أما إذا انتهي كل ذلك فسيعني نهاية الدولار.
هناك عاصفة عاتية تتشكل الآن, فعملة الدولار وما تمثله من الاحتياط العالمي والتي كانت دوما بمثابة امتياز حقيقي لأمريكا بدأت تتعرض للاهتزاز علي أثر السياسات الأمريكية المتهورة وانعكاساتها النقدية والمالية التي أدت إلي خفض قيمة الدولار.. علاوة علي ذلك هناك علامات الضعف السياسي التي تتبدي علي مؤسسة الرئاسة الأمريكية في عهد جو بايدن, وعلي رأسها حرب أوكرانيا, وما أسفرت عنه من تشكيل جبهة أعداء لأمريكا بقيادة الصين وروسيا مع احتمال انضمام المملكة السعودية لتلك الجبهة التي أعلنت أنها تفكر جديا في استخدام عملات أخري عوضا عن الدولار الأمريكي في تداول تجارتها… وإذا حدث ذلك فسوف يحدث انهيار كامل للنظام الاقتصادي العالمي والنظام الاقتصادي الأمريكي وسوف يرسل التضخم إلي عنان السماء.. والأهم والأخطر من ذلك كله أن أمريكا ستفقد حتما هيمنتها الاقتصادية علي العالم ومكانتها كقوة عظمي في النظام العالمي.
** المشهد الثاني قدمه البرلماني والسياسي البريطاني جورج جالاوي في كلمته التي وجهها إلي اجتماع دول تحالف ناتو في لندن بتاريخ 25 فبراير الماضي تحت عنوان الفرعنة آخر علامات السقوط والانهيار معلقا علي موقف الولايات المتحدة من التقارب الصيني الروسي حيث قال: وزارة الدفاع الأمريكية -البنتاجون- أصدرت تحذيرا للصين قبل أن يتقدم الرئيس الصيني بمبادرة السلام المقترحة لوضع حد للنزاع الروسي الأوكراني.. ويقول التحذير بأنه ستكون هناك عواقب خطيرة علي الصين إذا هي وطدت علاقاتها مع روسيا.. انظروا إلي هذه الغطرسة والغرور -ناهيكم عن الغباء- الذي تظهره دولة عظمي هي أمريكا وهي تهدد دولة عظمي هي الصين بأمور خطيرة تحاق بها إن هي أقدمت علي تدعيم علاقاتها بروسيا, أي رخص وانحطاط ما يمثله ذلك المسلك؟.. لعلكم تذكرون أنه بدءا من عهد ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر ومن جاءوا بعدهما تركزت سياسات الولايات المتحدة علي عزل روسيا والصين عن بعضهما البعض قدر المستطاع.. لكن الغريب أن سياسات الولايات المتحدة ومجموعة دول حلف شمال الأطلنطي خلال العقود الماضية نجحت في جعل روسيا والصين متحدتين ومترابطتين سياسيا واقتصاديا وعسكريا.. والآن هل يعتقد أحد أن الصين سوف تنصاع لأوامر أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي؟!!.. إن أيام توجيه أوامر للصين من أي كيان أو دولة أجنبية قد ولت بغير رجعة وانتهت.. وليست الصين وحدها التي رفضت الانصياع للصلف والغطرسة الأمريكية, إنما هناك مجموعة كبيرة من الدول تتضمن جنوب أفريقيا والهند وإيران ودولا عديدة في أمريكا اللاتينية وآسيا, وحتي الدول العربية وعلي رأسها السعودية.. إن العالم يصرخ نحن لسنا ضد روسيا أو الصين.. ألم تدرك الولايات المتحدة أنها من الآن وصاعدا لن تكون القطب الأوحد الذي يملي إرادته علي العالم؟!!.. وحتي العالم الغربي الذي مايزال يخلق تحالفات مع دول لا تنتمي إلي العالم الغربي مثل أستراليا ونيوزيلندة, آن الأوان أن يدرك أن كل تلك التحالفات لا تشكل أكثر من 13% من تعداد سكان العالم, بل إن تلك النسبة تتضمن ملايين عديدة من شعوبها ترفض تماما تلك السياسات الاستبدادية وما تفرزه من مؤامرات وتؤججه من حروب.
** وهذا يقودنا إلي المشهد الثالث, وهو ما يعكس رفض واحتجاج شعوب أوروبا إزاء المصير المهلك الذي تقودها إليه سياسات حكوماتها.. ونبدأ بفرنسا, حيث تعم شوارع مدنها الرئيسية الاحتجاجات والمظاهرات المصحوبة بالعنف وقطع الطرق وسائر أشكال العصيان المدني رافضة جميع الأوضاع الداخلية والخارجية ومطالبة بطرد الرئيس ماكرون عن السلطة.. وهناك مخاوف جدية كبيرة أن تنتقل حمي الاحتجاجات إلي باقي العواصم الأوروبية, والأمر بات مسألة وقت مادامت الحرب الأوكرانية مستمرة والمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأوروبية لأوكرانيا تزيدها اشتعالا وتأثيراتها المدمرة تستفحل يوما بعد يوم علي حياة هذه الشعوب.. ناهيك عن التهديد الذي بات يتردد بصراحة من جانب روسيا بأنه في حالة انفلات الزمام وإصرار الحكومات الأوروبية علي دعم أوكرانيا فمن المحتمل أن تنتقل الحرب لتستعر بين روسيا ودول أوروبا.