وعلى الرغم من أن الترحيب الذي تلقاه الرئيس الفرنسي في بكين كان أفضل حالاً نوعاً من من ذلك الذي تلقاه في موسكو من بوتين الذي أجلسه بعيداً على الطاولة المشهورة، فإن الترحيب في الصين لم يكن حارّاً في نفس الوقت.

منذ اندلاع الحرب الأوكرانية تتجه أنظار العالم إلى بكين. هذا ليس سرّاً، ففي ظلّ حالة الجمود النسبي للعمليات العسكرية على الأرض وتساوي كفّتَي الميزان للأطراف المتحاربة، يصبح دور قوة بحجم الصين حاسماً لنتيجة الحرب. فقد أثارت الأحاديث حول عزم الصين على تزويد روسيا بالأسلحة موجة من الخوف والرعب في الغرب. ومن هنا فليس من قبيل المصادمة أن يتهافت القادة الأوروبيين على بكين، في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة فيه التكشير عن أنيابها وإرسال رسائل خشنة إلى الصين تحذّرها من مغبّة أي دور قد تلعبه في الحرب لصالح روسيا.

تأتي زيارة الرئيس ماكرون للصين مؤخراً ضمن هذا السياق، وهي محاولة لانتزاع موقف من الصين ضد روسيا أو على الأقل محاولة الحصول على تطمينات بأن الصين لن تدخل الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح روسيا. وعلى الرغم من أن الترحيب الذي تلقاه الرئيس الفرنسي في بكين كان أفضل حالاً نوعاً من من ذلك الذي تلقاه في موسكو من بوتين الذي أجلسه بعيداً على الطاولة المشهورة، فإن الترحيب في الصين لم يكن حارّاً في نفس الوقت.

يدلّ على ذلك الشكلُ الذي خرج فيه المؤتمر الصحفي بين الزعيمين والذي كان على النمط الشيوعي التقليدي، بمعنى أن الأسئلة الصحافية في أثناء المؤتمر غير مسموح بها.

بطريقته المعتادة، ألقى الرئيس الصيني تشي بيانه المُعَدّ مُسبَقاً وهو ينظر إلى الكاميرات بشكل ثابت محافظاً على الوقت المعطى له بحيث كان بيانه قصيراً ومقتضباً.

على العكس من ذلك، كان خطاب ماكرون مرتجَلاً واستغرق ضعف زمن خطاب نظيره الصيني. وقد سبب هذا الارتجال ضيقاً لمضيفه الرئيس الصيني الذي بدا عليه التململ، وصدرت عنه تنهيدات تعبر عن عدم ارتياحه ورضاه.

بالمجمل، سعى الرئيس ماكرون لتحقيق أهداف استراتيجية لسياسته الخارجية التي اتسمت بالتردد وعدم الجدية. ففي الوقت الذي باتت فيه فرنسا تفقد كثيراً من مناطق نفوذها خصوصاً في القارة الإفريقية، يحاول ماكرون من خلال التقارب مع الصين الظفر بإنجاز على مستوى السياسية الخارجية يبعد عنه لعنة الوصم بالفشل، ولكن يبدو أن الرئيس الفرنسي رجع من بكين بخُفَّي حُنَين.

فلم يستطع ساكن الإليزيه أن ينتزع أي موقف حاسم من نظيره الصيني في ما يتعلق بالحرب الروسية-الأوكرانية، فقد أصر الرئيس شي على موقفه من أن جميع الأطراف لديها مخاوف أمنية مشروعة، وأن الصين مستعدة جنباً إلى جنب مع فرنسا لمناقشة الأطراف من أجل الخروج بحلول عقلانية وهادئة. ففي مؤتمرهما الصحفي أكّد شي وجوب "استئناف محادثات السلام في أقرب وقت ممكن، مع الأخذ في الاعتبار المخاوف الأمنية المعقولة لجميع الأطراف في ما يتعلق بميثاق الأمم المتحدة، والبحث عن حل سياسي، وبناء إطار أمني أوروبي متوازن وفعال ومستدام".

بطبيعة الحال، وعلى عادة الفرنسيين الذي لا يقبلون الهزيمة، سيحاول ماكرون المراهنة على بعض الإنجازات التي تحققت والتي لا يبدو أنها حقيقية في حال النظر إليها بطريقة موضوعية بعيداً عن بروباغندا الدعاية السياسية. من هذه الإنجازات المتواضعة تلك الدعوة التي ألقاها الرئيس الصيني تشي بضرورة حماية الأطفال والنساء في أثناء الحرب. وهي الدعوة التي جاءت بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خلفية دوره في نقل الأطفال الأوكرانيين بشكل غير قانوني إلى روسيا.

الأمر الآخر يتعلق بالصفقات التجارية التي وقّعها الفرنسيون مع نظرائهم الصينيين بما في ذلك بيع 160 طائرة من طراز إيرباص. ووفقاً للإليزيه، وافقت الحكومة الصينية على شراء 150 طائرة من طراز A320 Neo و10 طائرات من طراز A350، وهي عملية تسليم كانت جزءاً من صفقة إيرباص سابقة بقيمة 36 مليار يورو تم الإعلان عنها العام الماضي. وهو أمر يتناقض مع تأكيد الإليزيه لاحقا أن الصفقة جديدة وقيد التفاوض.

بغضّ النظر عن طبيعة الصفقات التجارية التي وقعت، فإن البعد الاقتصادي في الزيارة لا يبدو أنه يقلّ أهمية عن البعد السياسي. فمع دخول الاقتصاد الدولي مرحلة عدم اليقين جراء ارتفاع نسب التضخم والفائدة، تحتاج فرنسا وباقي الدول الأوروبية إلى إبقاء الخطوط مفتوحة مع بكين لتَجنُّب الوقوع في حالات ركود قد يكون لها تداعيات كارثية على استقرار القارة العجوز خصوصاً أن إرهاصات الأزمات الاقتصادية تُطِلّ برأسها على أرجاء القارة كافَّةً في ظل الحرب التجارية التي تخوضها مع روسيا وتداعيات قطع إمداد الغاز والطاقة.

في المقابل، يبدو أن الجانب الصيني ليس في وارد تفويت فرصة استثمار هذا التداعي الأوروبي على بكين، تحديداً عندما يتعلق الأمر بفرنسا، وهي الطرف ربما الأكثر انتقاداً للسياسة الأمريكية من أي طرف أوروبي آخر، وترغب دائماً في شق طريق أوروبي مستقلّ عن الولايات المتحدة. تحتاج الصين أكثر من أي وقت مضى إلى إحداث شرخ في التحالف عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا. ولا يمكن أن يكون لاعب أفضل من فرنسا المشاغبة للقيام بهذا الدور، كيف لا وهي تحمل على كاهلها إرث شارل ديغول وسياسية "الكرسي الفارغ" في الناتو؟

بالنسبة إلى الصين، لا يصدر موقفها الداعم إلى حد كبير لروسيا من معاداة الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة. بل يصدر عن قناعة بأن هذه الحرب تخدم مصالحها الاستراتيجية. فمن ناحية، تشغل الغرب في حرب على حدوده الشرقية وتستنزف موارده الاقتصادية والعسكرية، ومن ناحية أخرى تجعل روسيا أكثر مرونة في تَقبُّل النفوذ الصيني في حديقتها الخلفية وبعض المنظمات الإقليمية مثل مجموعة بريكس. إنها لحظة يبدو أن الصين تستغلها بحرفية دبلوماسية لزيادة نفوذها ومكانتها الدولية، فلا إشكالية في بكين من تَحمُّل "ثقل دم" ماكرون إذا كان ذلك سيخدم بالأخير مصالح الصين الاستراتيجية.

مؤخراً ظهر الدور الصيني على الساحة الدبلوماسية الدولية لامعاً عندما استطاعت أن تجمع بين السعودية وإيران من جديد بعد قطيعة دامت سنوات، إذ كانت وساطتها محلّ إعجاب وتقدير عديد من دول العالم. دول متزايدة تذهب باتجاه التعامل مع الصين بعملتها المحلية اليوان مثل روسيا والبرازيل. ويوجد توجه بأن يتم تداول النفط بين الصين والدول المصدرة له أيضاً باليوان، وهو الأمر الذي قد يشكّل تهديداً حقيقياً لهيمنة الدولار. وعلينا أن لا ننسى أيضاً مشروع طريق الحرير الجديد وكيف استثمرت الصين مئات المليارات في البنى التحتية لعشرات الدول. وبنظرة سريعة سوف نرى كم أصبح حجم النفوذ الصيني في القارة الإفريقية على سبيل المثال من خلال عديد من المشاريع الضخمة عبر القارة.

بالمحصلة، قد تكون زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للصين خدمة لبكين أكثر منها لباريس، فالصين ليست بوارد التساوق مع الأوروبيين في ما يتعلق بالحرب الأوكرانية. كل ما في الأمر أن الصين مستفيدة من الحرب الجارية الآن مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الخطوط الحمراء المتعلقة باستخدام الأسلحة النووية. ومن هنا فزيارة ماكرون للصين ما هي إلا ذَرّ للرماد في العيون إلى حد بعيد.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي