عزيزي القارئ، حدثتك في المقال السابق عن القدرة الموسيقية التعبيرية لألحان الكنيسة القبطية المصاغة بأسلوب الميليسما، والأن سأستكمل معك في هذا المقال عن القدرة التعبيرية لألحان الكنيسة القبطية المصاغة بأسلوب الدمج الذي يسمى Syllabic، هذا الأسلوب البسيط الذي يسبح به كل الشعب.

i) التعبيرية بأسلوب الدمج Syllabic:
إذا كان الأسلوب الميليسماتى Melismatic قد وضعته الكنيسة المصرية القبطية الأرثوذكسية للتعبير عن معانى الكلمات والمفاهيم الروحية والطقسية، فإن أسلوب الـ Syllabic المسمى بالدمج، يعد أيضاً أداة للتعبير. فبينما فى الاسلوب “الميليسماتى” يعتمد في التعبير على نغماتٍ عديدةٍ لحرفٍ لفظى واحد، يكون على النقيض فى هذا الأسلوب “السيلاباتى” الدمجى حيث يكون لكل حرف لفظى نغمة واحدة فقط، بل وأحياناً يندمج معاً حرفين لفظيين وربما ثلاثة فى نغمة واحدة.وهذا الأسلوب الدمجى -الذي عادة ما تكون ايقاعاته سريعة نشيطة- إستخدمه الكنيسة في التعبير عن المفاهيم والعقائد وذلك من خلال لحن بسيط تقل فيه الزخارف اللحنية، بحيث تكونمن السهولة التى تُمكِّن جميع المؤمنين الحضور من أدائها بإتقان وفهم ومن هنا تكون المشاركة لكل الشعب الموجود بصحن الكنيسة.

ومن الألحان التعبيرية بأسلوب الدمج السيلاباتي:

– لحن %hir3n3 : وهو مرد أنجيل أعدته الكنيسة القبطية ليتم التسبيح به في أيام الصوم الكبير،
ويعد من الألحان المميزة للصوم الكبير فهو مرد للإنجيل معناه “سلام الله الذي يفوق كل عقل، يحل في قلوبكم بالمسيح يسوع ربنا”. والحقيقة أن هذا اللحن وضعته الكنيسة ليكون نموذجاً “للنسك النغمي” فهو لحن قليل النغمات كما أن له صورة “الزهد الإيقاعي” فأشكاله الإيقاعية أيضاً بسيطة للغاية يمكن لأي طفل أن ينقرها بأصبعه وهو يدندن هذا اللحن “المتقشف” الذي لا يحوي أية تغيرات مقامية ولا إيقاعية. وكأن الكنيسة تعلم أولادها النسك والزهد والتقشف ليس في الطعام فقط ولكن من خلال موسيقاها الروحية من خلال ألحان تعبيرية بأسلوب سيلاباتي دمجي غاية في البساطة. فبالرغم من أن مطلع كلمات اللحن هي” سلام الله الذي يفوق كل عقل” والذي عبرت عنه الكنيسة في اللحن الفرايحي المبهج جداً ” `povro `nte 5hir3n3 ” بنغمات حادة سريعة مركبة تحلق في سماء الروح بطبقات موسيقية مرتفعة وبتحولات مقامية عبقرية من خلال أسلوب ميليسمي، ذات الكنيسة الأن تُعبر عن نفس السلام بلحن صارم نغماته قليلة متقطعة في حدة، متمركزة في منطقة وسطى ليست بالحادة ولا بالغليظة.

أيضاً إذا ماتم المقارنة بين هذا اللحن ” %hir3n3 ” وهو مرداًللإنجيل في الصوم الكبير وبين مرد الإنجيل ” Ge {{Peniwt” الذي يتم الترنم به في سبوت وآحاد الصوم الكبير، هذا اللحن الممتلئ بالشجن والدفيء العجيب بالرغم من أنه مقام كبير، لذا فإن له طابع آخر وأسلوب في الصياغة اللحنية مختلفة عن ” %hir3n3 ” بالرغم من أن كلاهما يتم الترنم به بعد قراءة الإنجيل، وهو أيضاً مختلف تماماً عن مرد إنجيل الميلاد ” Ovciov a42ai ” له طابع مختلف تماماً، فهو يعبر عن المعنى “نجم أشرق في المشارق والمجوس تبعوه” لذلك فهو “يرفع القلب” إلى فوق حيث النجم الذي أشرق، أما لحن “%hir3n3 ” فهو “يأخذ الجسد لأسفل” ليعلمه كيف ينحني ويضرب مطانية سجوداً وتذللاً للإله الخالق.

لذا كان من البديهي أن الجزء الثاني من ” %hir3n3 ” والذي يبدأ بكلمة ” Aiernobi ” – ومعناه “أخطأت أخطأت يا ربي يسوع المسيح إغفر لي..لأنه ليس عبد بلا خطيئة ولا سيد بلا غفران”- أن يكون له نفس الصياغة اللحنية التي للجزء الأول، ليس فقط من باب التمسك بمبدأ “التقشف الموسيقي” و “النسك النغمي” وإنما لأن الجملة الإنشائية “أخطأت أخطأت” هي الأخرى جديرة بأن يكون لحنها ممتلئ إنسحاقاً وخضوعاً، فمن هذا الذي يستطيع أن يقول “أخطأت أخطات يا ربي” بصوت صداح جهوري إذ سيبدو بذلك وكأنه يتباهي بخطاياه، لذا كان من المناسب أن يكون لحن ” Aiernobi ” “أخطأت” به مسحة من التذلل التي تعبر عن كلمات اللحن من جهة وعن الجو الصيامي الذي يقال فيه اللحن من جهة أخرى.

إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية العبقرية في ألحانها التعبيرية، تقدس صوماً وتنادي بإعتكافٍ ليس في قراءتها فقط ولكن في نغمات ألحانها أيضاً.

عزيزي القارئ، أتمنى أن أكون قد إستطعت أن أشرح لك القدرة التعبيرية لأسلوب الدمج الـ Syllabic في ألحان الكنيسة القبطية، والتي لا يعرفها الكثير على مدى القرون الطويلة الماضية ، وفي المقال القادم سوف أستكمل هذا الحديث الشيق فإلى أن ألقاك اتركك في رعاية ملك الملوك ورب الأرباب.