محمد الباز يكتب: إمام التفكير التغريبة الإجبارية.. تذكرة خروج بلا عودة لنصر أبوزيد

 

- فوجئ بتخلص جامعة القاهرة من كل كتبه فى مكتبة الجامعة، ورفض عميد كلية الآداب حينها إجراء تحقيق فى الواقعة 

فى العام ١٩٩٦ صدر قرار المحكمة النهائى بالتفريق بين نصر أبوزيد وزوجته ابتهال يونس. 

وفى سبتمبر من العام ١٩٩٩، أى بعد خروج نصر من مصر بأربع سنوات، أقام دعوى قضائية ضد وزير العدل، قال فيها إن حكم التفريق بينه وبين زوجته بحجة الارتداد هو حكم غير قانونى. 

تم تحديد يوم ٨ من نوفمبر لنظر الدعوى، وتم إيقاف حكم التفريق بحكم محكمة، لكن ظل حكم الردة معلقًا برقبة نصر. 

لم يكن هناك ما يمنعه من العودة إلى مصر هو وزوجته دون أن يعترض طريقهما أحد، لكن نصر هو الذى قرر ألا يعود، فلم يكن القرار سهلًا عليه، وحتى يصبح متاحًا، فقد استغرق التفكير ما يقترب من سبع سنوات، عندما جرت وقائع زيارته الأولى إلى مصر فى ديسمبر ٢٠٠٢. 

لكن لماذا خرج نصر من مصر؟ 

فعليًا لم يطلب منه أحد ذلك، ولم يجبره أحد عليه. 

لن أجيب بالنيابة عنه، ولكن ما رأيكم أن نسمعه وهو يتحدث إلى محمد شعير فى حوار نشرته «أخبار الأدب» فى العام ٢٠٠٦ خلال إحدى زيارته إلى القاهرة؟ 

كان السؤال: لماذا اخترت أن تخرج، هل كما صرح رئيس جامعة القاهرة بحثًا عن الشهرة والمال؟ 

أجاب نصر: الأسباب فى حالتى لا تخفى على أحد، حكم جائر بالردة بكل ما يترتب عليه من نتائج فى مجتمع مسلم، يجعل من المستحيل على إنسان عادى أن يحيا حياة طبيعية، فما شأنك بأستاذ جامعى لا يستطيع أن يمارس التدريس تحت الحراسة، فى حالة السماح له بذلك، ارتبط بحكم الردة حكم التفريق، بفك رباط الزوجية، ومن عجائب أمر الثقافة المصرية أن قليلين جدًا هم الذين تنبهوا للحكم. 

أستاذة جامعية تستأمنها الدولة على تعليم أبنائها فى الجامعة، ويخوّل لها القانون المصرى أن تمنح درجتى الماجستير والدكتوراه، لكن نفس القانون لا يستأمنها على حياتها الخاصة، فيسمح للأغراب بادعاء حق حمايتها من زواج يرونه صار باطلًا، لم يتنبه كثيرون لدلالة هذا الحكم بالتفريق على تناقضات الأوضاع القانونية فى مجتمعنا. 

قال بعض الناس إن قرارنا بالخروج كان هروبًا وتخليًا، وهو خلاف فى وجهات النظر، لكن المضحك ما قرأته أخيرًا من تفسير رئيس جامعة القاهرة الحالى- كان الدكتور على عبدالرحمن- للأمر كله بأنه البحث عن الشهرة والمال فى الخارج، كأن الرجل لا يعلم تاريخ المؤسسة التى عُيّن رئيسًا لها ولا يدرى ما حدث ويحدث لبعض أساتذتها، فعدم علمه مصيبة، وتفسيره على أساس عدم العلم أعظم. 

حتى هذا الوقت لم يكن أحد يعرف على وجه التحديد بما يصف نصر تغريبته، فكان السؤال: ماذا تُصنّف نفسك فى حالتك هذه خارج الوطن «منفى- مهاجر- مغترب»؟ 

أجاب نصر: من الصعب على الإنسان أن يضع توصيفًا لوضعه فى الخارج، أعتقد أننى مغترب، لست مهاجرًا أو منفيًا، وهو اغتراب إجبارى، يسميه البعض منفى اختياريًا، وهو فى تقديرى اسم غير دقيق، لأن المفهوم الكلاسيكى للمنفى أزالته ثورة الاتصالات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا توجد فى حالة اغترابى أى سمة من سمات الاختيار الحر، لا يمكن أن يسمى الاختيار تحت وطأة الضرورة «حرية»، لم يكن فى نيتنا- أعنى ابتهال يونس وأنا- ولا فى خططنا أبدًا أى تصور للهجرة، بل دفعنا إلى ذلك دفعًا، فلم يكن من المعقول أن تستمر حياتنا تحت الحراسة المشددة التى فرضتها علينا التهديدات، ولم يكن من المعقول أن نذهب للجامعة وندرس ونلتقى طلابنا محاطين بحراس مسلحين، كان الاختيار بين أن نبقى حبيسى المنزل، أو أن نعيش حياة طبيعية فى مكان آخر، من ناحية أخرى لا يمكن للباحث أن يعيش تحت الحصار ويواصل عمله البحثى، فلما تأكدنا أن التدريس مهمة صعبة آثرنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه. 

لم يهرب نصر إذن من مصر، فالمثقف بالنسبة له ليس رجلًا عسكريًا يحارب فى ميدان قتال، وحتى لو كان فالانسحاب أحيانًا حكمة. 

يقول: إذا كان عملى هو البحث العلمى والكتابة، فأى مكان يوفر لك الظروف المناسبة أفضل من أى مكان يعوقك عن أداء دورك حتى يقضى الله أمره وتتحسن الأحوال. 

لم يجد على نصر شىء وهو فى منفاه بهولندا، كان يعيش هناك كما يعيش فى مصر تمامًا بين كتبه وتلاميذه، فى قاعة الدرس، وفى قاعات المؤتمرات والندوات، وأحيانًا فى لقاء صحفى أو حوار تليفزيونى، كان يعمل معظم الوقت فى بيته حتى المساء، ثم يشاهد التليفزيون ويتابع الأنباء حتى يصيبه إغماء النوم. لكنه كان يتمناها عودة لائقة، وهو ما لم يتوافر له أبدًا. 

من اليوم الأول لنصر فى غربته وهو يحلم بالعودة. 

سأله محمد شعير عن شروط العودة التى يحلم بها، فقال: لا شروط عندى بعد أن بلغت الثالثة والستين، فبعد غياب هذه السنوات يصعب أن يبدأ الإنسان من جديد ومع طلاب تم تكوينهم دون مشاركة منه، لكننى عائد بعد الخامسة والستين لوطنى ولأهلى ولأصدقائى ولأبحاثى ودراساتى فأمامى الكثير لأنجزه إن مد الله فى العمر، سيكون بيتى مفتوحًا ومكتبتى متاحة لمن يريد التواصل معى من الشباب من داخل الجامعة أو من خارجها. 

لم يشعر أحد بوطأة الغربة على نصر كما شعر بها هو، وبين يدى قطعة أدبية رائعة ورائقة، كتبها فى مدينة لايدن مقر إقامته فى ١٠ مارس ١٩٩٧ الساعة ١٠.٣٠ صباحًا، ونشرها ضمن مقال مطول عنوانه «حياتى» فى مجلة المعرفة العدد الصادر فى فبراير ٢٠٠٤. 

يقول نصر فى وصلة اعترافات حزينة ودامية: 

«ألم أم نزيف؟ وغربة تلك أم ضياع؟ وهذا الاشتياق العارم للوطن أم للذكريات؟ ولماذا نعيش فى المكان بلا بهجة ولا ألم، بلا حماس أو غضب، كأنك رسم وضع فى إطار أو صورة لا تنتمى إلى سياق؟ تمضى الحياة رتيبة مملة من المسكن (وليس البيت) إلى الأتوبيس إلى المكتب صباحًا ومن المكتب إلى الأتوبيس إلى المسكن مساء، تلتقى بزملاء يبتسمون لك دائمًا، تتبادل معهم أطراف الحديث بود وبحماس أحيانًا، لكنك لا تنتمى إلى عالمهم ولا ينتمون إلى عالمك، ما يحرقك يبدو لهم مجرد أمر مؤسف، فلا يبقى لك إلا أن تراقب من نافذة مكتبك كيف تعرى الرياح الأشجار من أوراقها وتذروها، وكيف تكافح الشمس كفاحًا مضنيًا لتقاوم السحب وتنظر من خلال ثقوبها التى سرعان ما تسدها الرياح فيسود اللون الرمادى بلاد الأراضى الواطئة». «تخايلك دائمًا مآذن وحقول، وبيوت تنبعث منها روائح وأدخنة، رائحة العجين الطازج فى الفرن مختلطة برائحة العشب المشبع بالندى قبل الشروق، فى الأحلام تناوشك صور الأحبة صامتة وحزينة، وأحيانًا تراهم يجاهدون لكى يرقوا مطلعًا صعبًا، أو كى يهبطوا منزلًا زلقًا، وأنت عاجز عن مساعدتهم، فتستيقظ مثلًا بالحزن يكاد يضغط رئتيك فتعجز عن التنفس». 

«تسأل شريكتك: ما الأمر؟ 

فلا تجد شىء.. (لا شىء) جوابًا» 

«تسألك كأنها لا تدرى، كما تسألها أنت أيضًا أحيانًا وكأنك لا تدرى، يحاول كلانا أن يجد للاكتئاب والألم أسبابًا موضوعية فى التفاصيل اليومية للحياة، متجاهلين أننا نعيش (كالنطف) فى أنبوب من أنابيب التلقيح الصناعى، مع فارق بسيط جدًا أننا لسنا فى انتظار الخروج من الأنبوب إلى الرحم، لقد لفظنا الرحم لفظًا نهائيًا، فصار مصيرنا الأبدى الحياة فى الأنبوب، هل يمكن أن يعيش الإنسان فى أنبوب بعد الخمسين؟». 

«أيتها الشريكة العزيزة، يا حبى الذى نزفت على صدره آلام يتمى كلها حين التقينا، مَن يفتح صدره الآن لكلينا كى يلتئم جرح يتمنا الآن معًا؟ مَن يعتذر لنا معًا عن خطيئة الوطن الذى لفظ حبنا وسعى فى فراقنا فلم يترك لنا خيارًا إلا أن نختبئ ونخبئ حبنا فى أنبوب نكاد نختنق فيه معًا؟، أعلم أنك ما زلت تحلمين بأن يأخذ العدل مجراه فيعتذر لنا الوطن، الذى طردنا ونعود إلى عشنا وأهلنا وأصدقائنا، وأعلم أنه ليس من حقى أن أصادر الأمل وأفسد عليك الانتظار لكن الثلاث والخمسين سنة التى مضت من العمر- عمرى- علمتنى أن العدل الذى يتأخر عن موعده هو والظلم سواء، وهل حقًا سنعود- إن عدنا- لأهل وأصدقاء؟»

«كثيرًا ما ترنمت بالحب قائلًا: للحب أجنحة كثيرة، وكثيرًا ما ترنمت بعشق الوطن: الأرض والناس، الطبيعة والبشر، فما الذى قلص فضاء الحب ليصير أنا وأنت فقط؟ وما الذى اختصر الوطن فى ذكريات المكان؟ كيف اختفى البشر هكذا- الناس أصدقاء وأعداء- من خريطتى الحب والوطن؟ أم ترى صرت أنت وحدك الوطن، فإذا أصابك الوهن- أى وهن- بدا لى أن كل شىء يتبدد؟ كيف أفعل بك ذلك، وأحملك كل هذا العبء الثقيل، وأنت مثلى فى حاجة لصدر يضمك ويحتويك فى غربة المكان؟ هل نصير أغنية تغنى ذاتها بلا مغنى أو مستمع؟ وهل ثمة ظلم أبشع من هذا؟». 

«فى اغتراباتى السابقة- أمريكا واليابان- كان الوطن يلازمنى فى اليقظة والحلم: الجامعة، الطلاب بوجوههم المتعبة والمرهقة والمترقبة فى الوقت نفسه، الزملاء والأصدقاء والأهل، كان للاغتراب هدف وغاية، فكان للألم لذة، لذة ترقب العودة، فى هذه التغريبة الثالثة لا شىء سوى وجوه الموتى فى الأحلام- الكوابيس، أبى وأمى وشقيقتى يأتون متعبين مرهقين يحاولون الصعود أو النزول فيعجزون، وأعجز عن مساعدتهم، فأستيقظ محبطًا لأبدأ يومى، لا شىء فى اليقظة سوى الألم، ألم بلا لذة، لأنها غربة بلا أمل، أين الجامعة ووجوه الطلاب، فضلًا عن الزملاء والأصدقاء والأهل والأحباء؟ لا شىء من الوطن سوى المكان وذكريات المكان، هل لذلك الغياب علاقة بالغياب الذى يمثله الاغتراب فى مكان- مجرد مكان- آخر؟» 

إحساس لا يمكن أن يشعر به إلا من مر به وجربه، لكن ورغم هذا الحزن المبكر، فإن نصر ظل يمسك بجمر الوطن لا يريد أن يفلته من بين يديه. 

كل ما قام به كان ينطلق من أرضية غربته وتجربته، الورقة البحثية الأولى التى نشرها بعد أن ترك مصر كانت عن «ابن رشد»، وقتها وفى العام ١٩٩٨ كان العالم الإسلامى يحتفل بالذكرى الـ٨٠٠ لوفاته، كان نصر ينظر إليه طوال الوقت على أنه رجل تنوير، وجد تربة خصبة لتنميته فى الغرب وليس العالم الإسلامى، ولأنه كان يشبهه تمامًا، كان سؤال نصر هو: لمَن ينتمى ابن رشد؟ مَن هى أمه البيولوجية؟ وكانت النقطة التى أراد إثباتها هى أن الطفل الذى ولد مسلمًا تخلى العالم الإسلامى عنه ودفع به للمنفى. 

كان الموت هاجسه الذى لم يغادره، يقول: أخبرت ابتهال لو توفيت فى المنفى، فعليها ألا تعيد جثمانى للوطن لدفنه، بعد أن أصدرت المحكمة حكمها بأننى مرتد، شعرت وكأن أمى نبذتنى، كيف سأرقد فى سلام وقد عاملتنى بهذا الظلم؟ وبعد فترة وجيزة من وجودى بالمنفى، قمت بزيارة إحدى جامعات واشنطن، وهناك قابلت أحد المصريين يحضر الندوة التى كنت موجودًا بها، سألنى: هل أنت جاد؟ هل أخبرت ابتهال ألا تعيد جثمانك للوطن؟ أجبت نعم، فقال: لا بد أن يشعر كل مصرى بالغضب تجاهك، فأجبت فورًا: أنت ترى مصر كمقبرة، لكننى أراها وطنًا. 

فى نهايات العام ٢٠٠٢ فكر نصر فى أن يزور مصر للمرة الأولى، يتحدث هو عن هذا الحلم: لم يعرف أحد شيئًا عن عودتى سوى ابتهال وعائلتى، لم أنتظر من جامعة القاهرة دعوة لعودة لائقة، وكم كان مريحًا أن أتصرف بنفسى، وأخطط شكل زيارتى الأولى، وهى الزيارة التى جددت ثقتى، وسمحت لى بالتركيز بشكل أوضح على واقعى. 

عاد نصر مرة أخرى فى يوليو ٢٠٠٣، ليتسلم معاشه وبقية حقوقه، فى هذه المرة قضى ثلاثة أيام بقريته قحافة، تعرف ابتهال فى البداية بأمر سفره، لكنها كانت مرعوبة من فكرة ذهابه إلى هناك بمفرده وتركها بالقاهرة. 

يصف نصر ما جرى: عدت للقاهرة، حين رأتنى ابتهال انفجرت قائلة: للعامين الماضيين كنت تتحدث دون انقطاع عن الموت، ثم تقرر أنه حان الوقت لزيارة مصر، وحالما تصل إلى هنا بالطبع تريد أن تزور قحافة من دونى؟ كيف يجب أن أفكر؟ الإجابة الوحيدة التى جاءت إلى ذهنى أنك تريد أن تموت هناك فى سلام؟ كانت تتحدث وهى ترتجف بشكل واضح، أكدت لها: لا.. لقد وصلت لاستنتاج خاطئ، أردت زيارة قريتى فى سلام بمفردى، لا يوجد شىء أكثر من هذا. 

كان نصر يعرف أن عودته مستحيلة، لكنه لم يتوقف عن المحاولة. 

قبل أسبوعين من صدور الحكم النهائى بالتفريق بينه وبين ابتهال، كان قد حصل على لقب أستاذ، يظل يجدد كل عام إجازته ويدفع قسط معاشه. 

لكن حدث ما عكر صفوه تمامًا، فعلى الرغم من منصبه الرسمى كأستاذ، فإن جميع كتبه تم التخلص منها من مكتبة جامعة القاهرة، اتصل به صحفى مصرى بعد فترة وجيزة من نفيه، حين اكتشف اختفاء كتبه من أرفف المكتبة. 

سأله الصحفى: ما هو تعليقك؟ 

رد نصر: لا أصدقك، أنت تكذب لتحصل على تعليق منى، لا أصدق أن جامعة القاهرة يمكنها أن تفعل ذلك. 

لكن كان هذا هو ما حدث، وفى إحدى زيارات ابتهال إلى القاهرة واجهت عميد كلية الآداب، ودار بينهما هذا الحوار: 

ابتهال: ماذا يحدث هنا؟ 

العميد: إنه أمر مروع، لكن لا أعرف عنه شيئًا. 

ابتهال: حسنًا أنت لا تعرف شيئًا، عليك أن تجرى تحقيقًا. 

رفض العميد أن يجرى تحقيقًا، فقالت له: هل تخبرنى أنه على الرغم من عدم موافقتك على هذا التصرف، فأنت ترفض أن تجرى تحقيقًا؟ لو أن الكتب تمت إزالتها من المكتبة يجب ألا تقول: لا أعرف مَن قام بذلك وتترك الأمر هكذا. 

وقبل أن يبتلع العميد ريقه، واجهته ابتهال بالحقيقة، قالت له: دعنى أخبرك شيئًا عن أبوزيد، نحن هنا لا نتحدث عن زوجى، نحن نتحدث عن الأستاذ أبوزيد، لماذا لا تقوم برفد كل الأساتذة الذين منحوه درجتى الماجستير والدكتوراه؟ وبينما تفعل ذلك، لماذا لا تغلق القسم الذى تخرج فيه؟ 

ولم يجد العميد سوى الصمت ليعتصم به. 

كان حلم العودة يقتل نصر، أخبر العديد من أصدقائه بكلية الآداب: أنا مستعد لدفع نفقات دعوتى الخاصة للاشتراك فى فعالية رسمية، كل ما أحتاج إليه هو أربع وعشرون ساعة من جذب الانتباه، فقط أريد أن تكون عودتى شيئًا يجعلنى فخورًا، دعوة من الجامعة أن أشارك فى فعالية مهمة، ثم سنرى كيف ستسير الأمور بعد الزيارة الأولى، ألم يحن الوقت بعد؟ 

كان هذا فى العام ٢٠٠٠ أى بعد مرور خمس سنوات على رحيله، لكنه لم يتلق إجابة، يقول: أعرف أنه كانت هناك جهود مبذولة من بعض زملائى بالقسم لإعادتى، لكن لم تثمر هذه الجهود عن شىء، الحقيقة القاسية التى يجب أن أواجهها هى أن جامعة القاهرة لا تريدنى، بعض الأشخاص بالقسم كانوا بالطبع ودودين وداعمين لى، ورئيس القسم الحالى كان صديقًا مقربًا. 

جرت بينهما مكالمة قاسية أدرك نصر أنه لن يعود بشكل لائق أبدًا. 

رئيس القسم: لقد مددت إجازتك للعام الثامن، على الرغم من أن القانون يسمح لخمس سنوات حدًا أقصى. 

نصر: نعم، هذا لطيف، أشكرك جدًا. 

رئيس القسم: الشعب المصرى يقدر جهودك فى عدم الصمت إزاء آثار الفساد الحكومى، خاصة بعد أن وصل داخل أسوار الجامعة، إننا سعداء بكل ما أنجزته وأنت بالمنفى. 

نصر: نعم أفهم ذلك، لكن لماذا هو مستحيل أن تدعونى لأكون عضوًا محكمًا فى لجنة تحكيم الرسائل العلمية؟ 

رئيس القسم: لا.. هذا ليس مستحيلًا، لكن الأمر أنه لا يوجد رسالة تحكيم الآن تنتمى لتخصصك. 

نصر: هل هذا صحيح؟ واحدة من طالباتى تستعد للمناقشة. 

رئيس القسم: فعلًا. 

نصر: نعم بالفعل، لقد تواصلت معى، بل أرسلت لى رسالتها قائلة: أنا خجلة من إرسال هذه الرسالة لك، إنها ليست ما كنت أتمنى كتابته، لكنك لم تكن هنا، فلنتظاهر أن هذه مسودة وأنا على استعداد لكتابتها مرة أخرى، هذه طالبتى، أقل ما كان على القسم فعله هو دعوتى، أنا المشرف السابق، لأكون عضوًا باللجنة المحكمة، هذا هو التقليد الأكاديمى المتبع، أدرك أن عودتى للقاهرة ستكون صعبة حاليًا، لكنك تخبرنى بالعكس، أريد منك أن تصارحنى، وتحدثنى بأمانة، لا تجعل الأشياء تبدو جيدة فقط لأننا صديقان. 

رئيس القسم: أنا آسف، هذه جامعة شنيعة، وهذا قسم شنيع، يجب أن تكون سعيدًا أنك لست معنا. 

نصر: فلتكن صريحًا معى، ولا تعطنى أعذارًا، ولا تخبرنى بهذا الهراء. 

رئيس القسم: توجد عوائق أمنية تجاه عودتك للجامعة فى هذا الوقت. 

بعد هذه المكالمة التى أفقدت نصر أى أمل فى العودة، كتب معترفًا: ينتابنى الحزن حين أنظر للمستقبل، وأتأمل الحقيقة المحتومة، وهى أننى لن أطأ بقدمى جامعة القاهرة، إلا لسبب قهرى من قبيل إمضاء بعض الأوراق، لقد توقفت عن التفكير فى أننى سأحصل يومًا ما على دعوة لائقة للاشتراك فى الحياة الأكاديمية لجامعة القاهرة، مع مرور الوقت أجد نفسى أكثر غضبًا، إن جامعة القاهرة فشلت كمؤسسة أكاديمية فى إحدى مهامها وهى طرح ونقاش الأفكار، هذا المكان المقدس لم يعد موجودًا. 

رغم كل ما مر به فإن نصر ظل متماسكًا، كان دائمًا ضد لعب دور الضحية، لكن نفسه كانت تغلبه أحيانًا، يقول: تعجبت من نفسى حين أدركت أننى أنزلق ببطء لهذا الدور، وجدت نفسى مكتئبًا، أنتظر رد الجامعة بلايدن لتخبرنى باختيارى لمنصب كرسى أستاذ دائم، وفى انتظار رد جامعة القاهرة لتشركنى مرة أخرى فى الحياة الأكاديمية، أنتظر وأنتظر، ثم بدا لى أن كل هذا الانتظار يمتص طاقتى النفسية، والتى كان من الممكن أن أستلهمها لأستعيد السيطرة على حياتى مرة أخرى، حان الوقت أن آخذ منعطفًا جديدًا لأستعيد ببطء طاقتى. 

يعتقد أصدقاء نصر أنه عاد إلى القاهرة مرة أخرى، لكننى على يقين أنه لم يعد، حتى بيته فى ٦ أكتوبر لم يمكث فيه سوى شهرين بعد أن قرر أن يعود نهائيًا إلى مصر، فقد كانت تذكرته خروج بلا عودة. 

ما لفت انتباهى فى تجربة تغريبة نصر أنه كان مقتنعًا بما يفعله، لم يكف عن البحث والدراسة، صحيح أنه فى كل ما كتبه بعد خروجه من مصر كان يدافع عن نفسه، لكنه لم ينس رسالته العظمى، وليس عليك إلا أن تقرأ صرخته التى بعث بها إلينا بعد خروجه من مصر مباشرة. 

استمعوا إليه وهو يقول: «يا أبناء وطنى مسلمين ومسيحيين، يا مبدعى مصر، يا أدباءها وفنانيها ومثقفيها وكتابها وصحفييها الباقين على العهد، يا أساتذتى وزملائى وطلابى، يا كل المحامين الذين نهضوا يحاولون الدفاع عن نضارة وجه الإسلام، أعلم أننى لست وحدى، فقد لقيت من مساندتكم ودعمكم ما هو جدير بكم، وعلىّ أن أرد الجميل فأثبت لكم أننى جدير بدعمكم ومساندتكم، والسبيل الوحيد هو الاستمرار فى العمل، البحث والكتابة، فى أى مكان من أرض الله الرحبة الواسعة، صوتى سيكون دائمًا معكم فى كل معارك الحق والعدل والشرف، وستصلكم كتاباتى واجتهاداتى الفكرية من أى مكان أكون فيه، فليس الوطن مجرد مكان نعيش فيه، بل هو بالأحرى حلم يعيش فينا، لقد صار الدفاع عن نضارة الإسلام منذ الآن أكبر من أن يكون همًا أكاديميًا، صار مسألة حياة أو موت، أن نكون أو لا نكون، وإذا كان شعار العالم (أنا أفكر فأنا موجود) فليكن شعارنا (أنا أفكر فأنا مسلم)». 

الحلقات المتبقية من زيارتى الجديدة إلى نصر حامد أبوزيد ستُنشر فى كتاب سيُصدر قريبًا

تاريخ الخبر: 2023-04-20 00:21:03
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

بعد 3 سنوات من الحكم العسكري.. تشاد تجري انتخابات رئاسية الي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:22:07
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 64%

بطائرات مسيرة.. استهداف قاعدة جوية إسرائيلية في إيلات

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:22:16
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 62%

5 نصائح للوقاية من التسمم الغذائي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:23:47
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:23:48
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

"لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-06 06:22:22
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 51%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية