ما فعله الآب يفعلُه الإبن على مثاله (يوحنا ٥ : ١٩)
ما فعله الآب يفعلُه الإبن على مثاله (يوحنا ٥ : ١٩)
إنّ يسوع المسيح ، ابن الله القدّوس المجهول من الناس في ألوهيته ، مشى مع الخطأة المعروفين من قبل الكتبة والفريسيين وعلماء الشريعة نحو يوحنا المعمدان في نهر الاردن ، ملتمساً معمودية التوبة ، وهو لم يرتكب أي خطيئة . لكنّه فعل ذلك لكي يتضامن مع الخطأة ويحمل خطاياهم ، ويتفهّمهم ، ويحاورهم حوار الحقيقة والمحبة ، من أجل أن يهديهم إلى نور الله الخلاصي ، وفي نهاية رسالته سيموت على الصليب ليفتدي ويخلص البشرية الخاطئة من ظلام خطاياها .
في رسالة يسوع كان الحوار بين السماء والأرض ، وبين الله والبشر بالظهور الإلهي ” هذا هو إبني الحبيب الذي عَنهُ رَضِيت ” ( متى ٣ : ١٢ )، وكانت الدعوة إلى الحوار مع الله والناس ، والبشرية مع بعضها .
لقد أقام يسوع حوار المحبّة مع العديدين من الخطأة والمرضى كما يروي لنا الإنجيليون الأربعة وكشف لهم الحقيقة :
تحاور مع نيقوديمس رئيس اليهود الذي قصده يسوع ليلاً خوفاً من إنتقاد الفريسيين وملامتهم له . كان الحوار بينهما وجدانياً وشفافياً إلتماساً للحقيقة . فطلب نيقوديموس من يسوع التعليم الصحيح ” لأنّ الله أرسله معلّماً “. فحاوره يسوع عن الولادة الجديدة ، الولادة الثانية من الماء والروح من أجل الدخول في شركة مع الله والناس ( يوحنا ٣ : ١ – ٦ ).
تحاور مع زكا العشار الغارق في ثروته وظلمه والخاطئ والمعروف من قبل جميع الناس ، فدخل يسوع بيته وجلس إلى مائدته، مرتضياً إنتقاد الفرّيسيين في الخارج وتذمّرهم . فكان الحوار بينهما حوار توبة كاملة بلغها زكّا ، ما جعل يسوع يقول امام الجميع علناً : ” اليوم حصل الخلاص لهذا البيت ، فهو أيضاً ابن إبراهيم . لإن ابن الإنسان جاء ليبحثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصه ” ( لوقا ١٩ : ٩ )
تحاور مع المرأة الكنعانية في نواحي صور وصيدا ، حواراً قاسياً وجارحاً ولكن بطوليًاً ، إذ اندهش يسوع من إيمان هذه المرأة الوثنيّة التي جاءت فسجدت له وقالت : ” أغثني يارب ” فأجابها يسوع : ” لا يَحسُنُ أن يؤخذ خُبز البنين فيُلقى إلى صغار الكلاب ” . فقالت : ” نعم يارب ، فصغار الكلاب نفسُها تأكُل من الفتات الذي يتساقط عن موائدِ أصحابها ” . فأجابها يسوع : ” ما أعظمَ إيمانٓكِ أيّتُها المرأة ، فليكُن لكِ ما تريدين ” . فَشُفيت إبنتها في تِلكَ الساعة . نعم ، أصرّت هذه المرأة على أنّ يسوع قادر على شفاء ابنتها ، فكان الشفاء ( متى ١٥ : ٢١ – ٢٨ ).
تحاور مع السامرية على بئر يعقوب ( يوحنا ٤ : ١ – ٢٧ ) ، حواراً عميقاً إتّسّمَ بالصبر بالرغم من أنَّ المرأة رفضت أن تسقيَ يسوع ماءً من جرّتها بسبب العداوة بين السامريين واليهود . وبدأت الحوار معه بشيء من السخرية والكذب . لكنَّ يسوع واصل الحوار بهدوء وصبر فاكتشفت أنه هو النّبي والمسيح المنتظر، وذهبت إلى المدينة فقالت للناس : ” هلّموا فانظروا رجُلاً قال لي كُلَّ ما فعلتُ . أتُراهُ المسيح ؟ “شهدت عنه أمام أهل السامرة ، فتقاطروا إليه وآمن به الكثيرون .
تحاور مع الأعمى والأبرص، حوار رحمة وشفاء ، وكلاهما منبوذان من المجتمع ، فأدرك الأعمى أنّ يسوع يستطيع أن ينعم عليه بالنظر. فلمّا ناداه قائلاً : ” رُحماكَ ، يا ابن داود ، يا يسوع “، سأله يسوع : ” ماذا تريد أن أصنع لك ؟ ” قال له الأعمى : ” رابُوني ، اي يا معلّم ، أن أبصر ” . فقال له يسوع : ” إذهب ! إيمانك خلَّصكَ ” . فأبصرَ من وقته وتبعه في الطريق .(مرقس ١٠ : ٤٦ – ٥٢ ) . وكذلك الأبرص التمس الشفاء من يسوع ، فجثا وقال له : ” إن شئت فأنت قادِرٌ على أن تُبرِئني “. فأشفق عليه يسوع ومدَّ يدَهُ فلمسهُ وقال له : “قد شئتُ فأبرأ ” (مرقس ١ : ٤١ ) .
ربُّنا يسوع المسيح يدعونا إلى حوار المحبّة لبلوغ الحقيقة ، فلنسمع له . فالحوار يؤدّي إلى الخلاص ممّا نعاني منه في حياتِنا اليومية ، الزوجية منها والعائلية والإجتماعية ، في الكنيسة والعائلة والمجتمع ، وبين الشعوب والأمم . الحوار لا يتمّ بالعنف والحرب والإرهاب والسيطرة وفرض الاّراء ، بل ، بالصبر والهدوء اولاً ، ثم بالفكر والقلب واللسان. عالم اليوم الذي أصبح مع العولمة والتقنيّات الإعلاميّة ” قرية كبيرة ” ، أصبح في الواقع بحاجة ماسّة إلى حوار المحبّة لكشف الحقيقة وبلوغها .
نرفع صلاتنا اليوم إلى الله ، لكي نعيش حياتِنا المسيحية بإيمان بحسب تعاليم معلمنا يسوع ، ونمارس أعمالنا في خدمة الكنيسة والمجتمع بتجرد وشفافية وإخلاص للخير العام . ولكي نحافظ على وحدتنا ونتضامن معاً لمواجهة الأخطار المحدقة بنا ، وندعو إلى نبذ العنف والحروب في العالم وحلّ السلام بالحوار والوفاق . أعطنا أيها المسيح الإله أن نقتدي بك ونسمع صوتك الداعي إلى مواصلة حوار المحبّة والحقيقة الذي بدأته ووضعت أسسه خلال رسالتك على الأرض ، لتصل بنا إلى السماء .