لماذا نحن متأخرون؟!


هذا سؤال مُلِحّ، ومع ذلك فإننا لا نجد أحدًا من المسؤولين يعترف به أو يطرحه على نفسه بصراحة وبشفافية، ويسعى إلى البحث عن إجابة عنه، ومن ثم علاج شىء منه فى نطاق سلطته، رغم أننا نحتل درجات متأخرة عالميًّا فى سائر المجالات تقريبًا؛ وكأن لسان حال كل مسؤول هو: كل شىء تمام بلا نقصان! وذلك على الرغم من أن هذا السؤال هو مسألة بديهية.

فقد سبق أن سأله كل المفكرين وأصحاب المشروعات الإصلاحية فى العصر الحديث بدءًا من الإمام محمد عبده وحتى الآن؛ بل هو السؤال نفسه الذى سأله شكيب أرسلان سنة 1930 قائلًا: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟! وقد يكون من الجرأة محاولة الإجابة عن هذا السؤال العويص فى هذه العُجالة، ولكنى سأحاول هنا فحسب تقديم علامات على الطريق الذى يمكن أن نسلكه.

مادة اعلانية

لا أعنى بهذا السؤال البحث عن أسباب آنية جاهزة لتبرير أسباب تأخرنا كمصريين وكعرب فى النهاية. لا أسأل عن تبرير لحظة آنية، إنما أسأل عن أسباب لحظة تتكرر باستمرار؛ ولذلك فإن السؤال يمكن إعادة صياغته على هذا النحو: لماذا نحن متأخرون على الدوام؟! فتأخرنا يتواصل لا عبر عقود، وإنما عبر قرون عديدة، منذ القرن الثانى عشر الميلادى وحتى القرن الرابع عشر.

وهو العصر الذى شهد وفاة ابن رشد وابن عربى ومن بعدهما ابن خلدون، وشهد من قبلهما أفول الفكر التأويلى لدى المعتزلة؛ فكان ذلك كله شهادة بوفاة العقل التأويلى فى علوم الدين (المعتزلة)، ووفاة العقل الفلسفى (ابن رشد)، والتصوف الفلسفى فى أسمى صوره (ابن عربى)، والمعرفة الإنسانية (ابن خلدون وأقرانه).

بل شهد فى الوقت ذاته أفول عصر العلم الذى أنتج لنا علماء مبدعين فى شتى المجالات: فى الطب والكيمياء والفلك والرياضيات؛ إذ كان رحيل هؤلاء نذيرًا بأفول الحضارة العربية، وكأنهم كانوا يلفظون أنفاسها الأخيرة مُحمَّلة بحكمة هذه الحضارة التى دامت قرونًا عديدة، فلم نجد بعدهم إلا تنهدات متفرقات من حين إلى آخر.

لو تساءلنا: هل رحيل هؤلاء هو السبب فى أفول الحضارة العربية؟ فإن سؤالنا يصبح سؤالًا ساذجًا؛ لأن السؤال هو: لماذا لم يتواصل وجود أمثال هؤلاء فى كل المجالات؟ كما أننا لا يمكننا القول بأن الدين أو الإسلام تحديدًا (باعتباره الدين السائد فى الأمة) هو السبب فى تأخرنا.

ذلك أن بعض الدول التى تدين بالإسلام- مثل ماليزيا- قد قطعت شوطًا بعيدًا على صعيد التقدم فى شتى المجالات، فضلًا عن أن الأمم- غير الإسلامية، قد تقدمت بمسافات بعيدة لا نطمح حتى فى الاقتراب منها. فالمشكلة ليست فى الدين، وإنما فى الوعى الدينى، أعنى فى تأويل الدين نفسه فى علاقته بالحياة الدنيا، ومن ثم فى حدود هذه العلاقة.

وقد لجأ بعض أصحاب المشروعات الإصلاحية إلى تبنى مواقف مؤسسة على علاقتنا بالغرب: فرأى البعض أن التقدم مرهون باتباع النموذج الغربى للحضارة المعاصرة، بينما رأى البعض الآخر التوفيق بين حضارة الغرب وتراثنا، بحيث نأخذ عن الغرب ما يتفق مع قيمنا وأخلاقنا وموروثنا الحضارى، وما إلى ذلك. لكن الموقف الأول اغترابى، بينما الموقف الثانى تلفيقى، وكلاهما لا يتطرق إلى عمق المسألة أو أساسها.

فالحقيقة أن هذه المشروعات فى معظمها نظرت إلى الإصلاح من خلال مقارنة وضعنا بتقدم الحضارة الغربية، فى حين أن الحضارة المعاصرة لم تعد حكرًا على الغرب، وعلى نظمه السياسية والاجتماعية والقيمية؛ ولم تكن الحضارة يومًا ما حكرًا على نُظم سياسية بعينها.

ولذلك فإن السؤال الأهم والأساسى الذى ينبغى أن ينشغل به كل مشروع إصلاحى هو: ما الذى يصنع الحضارة ذاتها؟ ذلك هو السؤال، وهو يعنى أننا ينبغى أن ننشغل دائمًا، لا باستدعاء صورة حضارتنا السابقة التى تجاوزها الزمان، وإنما بفهم الشروط التى أنتجتها، والتى تُنتج دائمًا الحضارة فى كل زمان ومكان؟ ولو فتشنا عن هذا الأمر بعمق لوجدنا أن هناك شرطًا أساسيًّا هو: التعليم. فالتعليم هو الذى يصنع العلم.

وهو الذى يصنع المعرفة والوعى القادر على تغيير الواقع وتشكيل كل النُظُم. غير أن التعليم غير ممكن- أعنى لا يمكن تصوره- من دون حرية الفكر والتأويل والإبداع؛ فعلى هذا قامت الحضارة العربية فى أزهى عصورها، وعلى هذا قامت الحضارات منذ الحضارة اليونانية وحتى الحضارات الحديثة والمعاصرة فى الشرق والغرب. والواقع أن هذا هو الأساس البعيد الذى ينبغى أن تقوم عليه فلسفة التعليم فى أى بلد متحضر.

أما ما يتعلق بالتعليم نفسه ومناهجه، فتلك مسائل تفصيلية يمكن أن نأخذ فيها بالأساليب المعاصرة التى أخذت بها البلدان المتقدمة التى قطعت شوطًا بعيدًا فى هذا الشأن، بمنأى عن «طنطنة» جودة التعليم الشكلية فى بلدنا الذى لا نظير له فى نُظم التعليم المتطورة، وهو أمر قد تناولته بالتفصيل فى مقالات عديدة بكثير من الصحف العربية والمصرية، بما فى ذلك هذه الجريدة الرصينة.

أما شكل نظم الحكم أو مسمَّاها، فلا يهم كثيرًا، وإنما المهم هو غايتها وأساليبها التى تؤدى إلى تحقيق تلك الغاية، وهى: العدالة. غير أن العدالة لا تعنى فحسب سلطة القانون وتطبيقه على جميع الناس سواسية، وإنما تعنى أيضًا تحقيق التوازن بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقانونية. وإذا وضعنا فى اعتبارنا فلسفة التعليم بالمعنى الواسع سالف الذكر، وأضفنا إليها قيمة العدالة باعتبارها قيمة عليا للدولة، فإننا نستطيع أن نضع المعادلة التالية البسيطة كغاية لأى مشروع يسعى إلى النهضة، وهى: التعليم + العدالة = الحضارة.

* نقلا عن " المصري اليوم "

تاريخ الخبر: 2023-06-15 21:18:36
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 95%
الأهمية: 87%

آخر الأخبار حول العالم

يتضمن "تنازلات".. تفاصيل المقترح الإسرائيلي لوقف الحرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 21:25:50
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

قتل طفل في مصر ونزع أحشائه بسبب "الأنترنت المظلم"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 21:25:52
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 66%

الدورة الـ16 للمعرض الدولي للفلاحة بمكناس ..توافد غير مسبوق للزوار

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-27 21:25:07
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 63%

قتل طفل في مصر ونزع أحشائه بسبب "الأنترنت المظلم"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 21:25:57
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 69%

يتضمن "تنازلات".. تفاصيل المقترح الإسرائيلي لوقف الحرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-27 21:25:42
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 65%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية