زهرة

بعد ذلك اليوم لم أعد أنا تلك المرأة التى تُسعَد حين يلثمنى بين أحضانه، أو يهمس فى قلبى بحبه، شعرت ببرد قارس وقشعريرة فى بيته، ولم أعد أكن أى مودة لذلك المكان الذى جمعنا، اجتاحت قلبى مشاعر غريبة لم أعتدها باتت تنمو فى تجويف قفصى الصدرى، يبدو أننا نسلك طريقين مختلفين فى الحياة والرؤية على عكس ما كنت أظنه. 

تموضعت على تلك الأريكة ثم تحسَّستُ حافتها بحثًا عن «ريموت كنترول» التلفاز لأغيِّر القناة وأخرج من عروض تذكِّر بعَلاقتنا قبل أن يتحول أندش إلى شخص مجهول الهُوية. سألنى صباحًا إذا ما كنت أرغب بالذهاب رفقته إلى المدرسة لأنه اعتاد أن أقود العربة بصحبته إلى هناك، أخبرته بعدم رغبتى وسأذهب وحدى. لاحقًا لم أدرِ كيف انتهت الأمور، فأى قصة تحمل فى داخلها عناصر استمرارها وعناصر تراجعها، وإذا ما خنقَها أحد الطرفين بعناصر التراجع لن يستطيع الآخر وحده أن يكفل لها التنفس بعناصر الاستمرار.

أن تسير منعزلًا تحيط بك كل أصواتك المكتومة، وسحابة من الغموض تُجرِّدك من كل مواصفاتك الإنسانية لتحيلك عاريًا حتى من جسدك وأنت مكبل بلا أصدقاء، خيرٌ من أن تكون برفقة الظلام وحيدًا بلا معطف يقيك صراخ الريح.

أنا هناك متوارية فى طريق الآثام أبحث عن مرشد يدلُّنى إلى طريق الخلاص.

فى غيابى، ترتب عليه أن يستقل المترو وحيدًا مع خيلائه إلى المدرسة التى تعوَّدتُ على كل ركن فيها، كنت مع أندش أدرِّس الموسيقى وهو يدرِّس تأريخ الفن، التهمنا كتب التأريخ، غنينا أغانى مطربنا المفضل ميگيل بوفيدا على ضوء الشموع، نغنى ونرقص الفلامنكو على أغنيته تريانا. 

لا أخفى حزنى وأنا أسمع ممَّن حولى بأنِّى ملونة أو قادمة من أرض الأساطير، من جذور بعيدة ولو بشكل غير مباشر أو تلميح من بعيد، لكن وجوده بجانبى خفَّف علىَّ ذلك الإحساس المزعج الذى كان يرهقنى دومًا، هو شخص ماهر باستدراجى للفرح والخيبة فى وقت واحد.

هذه المرة أستشعر من بعيد كلّ ما يهمسون به عنى وحدى، شعرت بماء بارد يتسلل من أعلى عمودى الفقرى إلى قدمىّ، لم أعد أشعر بدفء المكان، صار كل شىء هنا باهتًا وماسخًا، لا أحد يتوارى من ظلاله ليشارك الآخرين يقينهم. 

الكلام صندوق البراءة والآثام، وكلما كثر الكلام تكاتفت أردية الخديعة وشدَّت من أزرها على أوصالنا، علينا أن نختبئ خلف سكوتنا، فالصوت فضيحة لا تُكتم.

كانت تمر أيامنا ببطء شديد، هذا المساء كنا جالسين فى الصالة، لم نتبادل الحديث منذ ساعتين على الرغم من عدم انشغالنا بشىء واضح، توجَّهَ لى فجأة بسؤال: 

■ إحساسك بالانتماء إلى ذلك العالم يستحق التوقف عنده كثيرًا، هذا الانتماء الجينى لم أستطع فهمه وأنتِ لم تتذكرى من أسرتك إلا بعض خيالات لذاكرة مشوشة، كيف يتسنى لطفلة صغيرة بعمرك لم تتعدَّ ثلاث سنوات أن تثقل كاهلها بإرث هذه الذاكرة؟، لم أفهم بعد كيف تفكرين يا سارة؟ عشت معك كل هذه السنوات، لم تستيقظ بداخلك تلك المرأة الشرقية ولا لحظة من الزمن، كنتِ الابنة الشرعية لكايسا بكل ما تحمله المفردة من معنى. 

اضطررت للرد عليه لأنه لم يفهم قط سبب ثورتى على عنصريته الفجة: 

- معك حق أنى لم أُشعرك يومًا بالانتماء إلى ذلك العالم، ولا تعتقد أن سبب انتفاضتى يعود إلى كونى جزءًا منهم أو لأن لدىّ جينومًا أبى أن يُقهر، بل هو خوفى وهلعى من تلك الصورة المخيفة التى كشفتَ عنها وأنت تعبِّر عن تلك الكراهية والطبقية حيال أناس ليس لهم أى ذنب سوى حملهم هُويات جاهزة للإدانة. هذه الصدمة اقتلعت كل غاباتنا التى كنا نسرح فى مساحاتها، شعرت بفأسك تهوى على حديقة بيتنا وذئابك تفترس سكينتنا، وبقيت عالقة هناك وحدى عارية ممزقة الأوصال وأنت تصرخ من بعيد: «ما بك لا تستجيبين لندائى؟». هى لوحة تضم كل ما عشناه معًا ومن هم حولنا، عالمنا محشور بتلك اليافطة، حتى ذكرياتنا التى أفرطنا بجنوننا فى التمتع بكل شىء فيها، فجأة أراك تنقضُّ دون مقدمات على أطفال مذعورين فى زاوية اللوحة لمجرد اختلاف ألوانهم، تحولت إلى أحد وحوش غويا.

■ كل ذلك يستيقظ فجأة يا سارة لمجرد وجهة نظر أعترف أنها متعجِّلة بعض الشىء ولكنها واقعية جدًّا؟!

■ حين تكون هادئًا ومسترخيًا وتعبِّر عن رأيك هذا هو إحساسك الحقيقى الأقرب لك، أمَّا حين تكون منفعلًا وثائرًا وتحت تأثير ضغوطٍ ما فهو محضُ هراء وصراخ لا أكثر.

لم أعد أشعر بالانتماء إليه، وكانت دوامة غربتى تكبر كل يوم، حتى تقاطيع وجهه تحولت فجأة إلى وديان من الجليد، تكدست رمال من الغربة فى شوارع قلوبنا وبدت تهرول حولى صورٌ لم أرَها بنفسى ولكنى كنت أتابعها من على شاشات التلفاز، لم يزل منظر تلك الليلة قبل ثلاثين عامًا، حين طوَّقتنى سيدة شقراء طويلة صلبة القوام وقاسية الروح ترتدى ملابس الشرطة لتضعنى فى المقاعد الخلفية لعربة وتتركنى أبكى كيفما شئت، كنت أنتظر من أمى التى انتزعتنى منها أن تقفز لاستعادتى، والرجل الذى معها، وهو كما أظن زوجها أو ربما أبى، أن يحاولا أو يمثِّلا أى نوع من ردود الأفعال لاستردادى، لم أذكر من ذلك المشهد سوى شخصين يقفان جنبًا إلى جنب وعويلهما يملأ الأفق. بقيت وحيدة أبكى العالم فى المقاعد الخلفية، كنت أشعر بأنِّى كتلة ضئيلة صغيرة فى هذا الكون الفسيح، وحين كنت أستنجد لم أرَ أحدًا ينتبه لصراخى، كنت أشعر بخوف جعلنى أتبوَّل على نفسى كثيرًا، هذا ما كنت أحس به، ثم نظرت حولى لأرى عربة أخرى يفتح بابها شرطيان آخران ليقودا طفلين آخرين، هما أخواى الأكبر سنًا منى، ويدفعانهما إلى الداخل، بكيا هما أيضًا وحاولا الخلاص من قبضة الشرطيين، لكن دون جدوى. تلك هى المرة الأخيرة التى كنت فيها جزءًا من هذه الأسرة، عوالم حمضها النووى تهالكَ من فرط فجيعته. عصفت الريح فى أثناء الليل، ضربتْ على جدران الغرفة التى نمتُ فيها وحيدةً فى أول ليلة، كانت تعْوِلُ مثل شخص ينوح، وثارت ثائرة أشجار الغابة حتى اقتلعت بعض الشجيرات وتساقطت مرمية، شعرتُ بذعر كبير فى تلك الليلة الطويلة، من فرط حزن الغابة، سمعتُ عويلًا يشبه عويل أمى التى نهشتُها وقطَّعتُها إربًا فى مخيلتى مرات عدة لأنها لم تحسن الاحتفاظ بى، وأبى المزعوم الذى لم يجد فى نفسه الشجاعة بأن يقاوم استلابنا منه.

لا أقوى على استعادة تلك الذكريات ما لم أكن ثملة، وهو أمر يتكرر باستمرار. وحين عُرضت للتبنى فى دار الرعاية تقدَّمت كايسا لرعايتى كأم بديلة هى وزوجها الذى رحل مبكرًا وتركنا وحيدتين. 

هذا هو الكابوس الذى يخيم على حياتى ولا أملك الفرار منه. منذ صرختى الأولى وأنا أشعر بوحشة تحاصر أعوامى لا تنفك تتركنى أبحث عن نفسى فى حافظة بياناتى الشخصية. لقد نشأت على فكرة الإيمان بأن للقدر دورًا فى مقبل الأيام، والقادم دومًا أفضل مما مضى، بَيْدَ أنى لم أعد أحتمل تلك الفكرة الرعناء ولم أعرْ للقدر أى أهمية، وهذه الآلية التى أنا مأسورة فى خرابها إيجاز مخادع لما نحن عليه، أقدارنا المزعومة تنتج ألاعيب تدفع بنا للرقص عكس التيار، ويا له من قدر ذلك الذى يقتلعنى من قلب الصحراء ليغرسنى عبثًا فى غابات التنوب!

حصريًا: مقطع من رواية «زهرة» الصادرة حديثًا عن دار سطور ببغداد 

تاريخ الخبر: 2023-06-17 21:21:45
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

رسميا.. فيفا يعلن استضافة قطر ثلاث نسخ من كأس العرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 12:25:56
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 60%

رسميا.. فيفا يعلن استضافة قطر ثلاث نسخ من كأس العرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 12:25:52
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 61%

تأجيل أولى جلسات محاكمة "مومو" استئنافيا بسبب إضراب كتاب الضبط

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 12:25:50
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية