فى الأسبوع الماضى، عادت جلسات الحوار الوطنى إلى الانعقاد، حيث جرت المناقشات، كما هى العادة، بدأب وحماس، ومن بين تلك الجلسات برزت الجلسة المعنية بمناقشة موضوع «قانون حرية تداول المعلومات».
من حسن الحظ، أن معظم أعضاء مجلس أمناء الحوار من ذوى الصلة المباشرة والعميقة بالمجال المعلوماتى؛ فعدد كبير منهم باحثون أو كتاب أو أكاديميون أو صحفيون، ومن حسن الحظ أيضًا أن مقررة لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة هى الدكتورة نيفين مسعد، التى تمتلك قدرة وحسًا ومعرفة جعلت من إدارتها لهذا الملف المهم إدارة سلسة وفعالة فى آن.
ورغم ما بدا فى الظاهر من أن ثمة فريقين بين المشاركين؛ أحدهما يطالب بإلحاح بتوجه أكثر انفتاحًا فى المجال المعلوماتى الوطنى، وثانيهما يشير إلى «قلق ومخاوف» من درجة انفتاح «كبيرة» يمكن أن تزيد المخاطر على «الأمن القومى»، فإن خلاصة المناقشات اتجهت فى العموم إلى ضرورة تعزيز الحالة المعلوماتية، والإسراع فى إصدار قانون حرية تداول المعلومات كخطوة أولى فى هذا السياق. وقد برز عدد من الحقائق خلال النقاش، لا يبدو أنها قابلة للدحض أو إثارة الاختلاف؛ ومنها أن «قانون حرية تداول المعلومات» هو حق إنسانى وسياسى، وأن هناك حاجة مُلحة لإصداره، ليس فقط لتلبية الاستحقاق الدستورى، والاتساق مع الالتزامات الوطنية الواردة فى المعاهدات والمواثيق الدولية التى وقعت عليها مصر، ولكن أيضًا لخدمة المصلحة الوطنية، حيث ظهر التوافق على أن الحالة المعلوماتية الشفافة مصلحة عامة وضرورة عملية.
ومن بين تلك الحقائق أيضًا، أننا نمتلك نحو 8 مشاريع لهذا القانون، وأن تلك المشاريع صدرت عن جهات حكومية، أو شبه حكومية، أو منظمات مجتمع مدنى، أو أحزاب وناشطين سياسيين، وأن بينها بعض المسودات التى تتسم بقدر من الكفاءة، وتنبنى على جهود بحثية عميقة ومُقدرة.
أما ثالثة تلك الحقائق، فتتعلق بالاتفاق على أن الحالة المعلوماتية الوطنية الراهنة تعانى ارتباكًا من شيوع الأخبار الكاذبة، وانتشار التضليل والتزييف، وأن ذلك يحد من قدرة الجمهور والمؤسسات على معرفة القدر اللازم من الحقائق لاتخاذ القرارات السليمة. فإذا كانت تلك الحقائق بالفعل محل اتفاق كبير، وإذا كانت الأسباب التى تم الدفع بها لتسويغ التأخر فى إصدار هذا القانون قد تمت معالجتها، وخصوصًا ما يتصل منها باستكمال البنية التشريعية اللازمة لإصداره، فقد غدا الباب مفتوحًا لاتخاذ القرار بأن يصدر هذا القانون.
لكن إصدار «قانون حرية تداول المعلومات» لا يعنى بالضرورة معالجة الحالة المعلوماتية الوطنية، والوصول بها إلى الدرجة التى يمكن من خلالها خدمة مسارات العمل العام على النحو السليم؛ إذ إن ذلك يستلزم أيضًا جملة من السياسات التى لا تدعمها إرادة سياسية. فالحالة المعلوماتية الإيجابية والبناءة والسليمة، والتى تتسم بالقدر اللازم من الإتاحة والشفافية، ينبغى أن تتأسس على ركيزتين أساسيتين؛ أولاهما إدراك الدولة أن فرض السيادة الوطنية الكاملة على المجال الاتصالى أضحى أمرًا تاريخيًا يتعلق بفترات سابقة مرت عليها عقود.
وثانيتهما أن كل قيد أو حظر على حرية تداول المعلومات «غير المُصنفة سرية بالضرورة» يفتح الباب لآلاف من الممارسات المعلوماتية الضارة والمؤذية، والتى يمكن من خلال تفشيها حرف اتجاهات المواطنين والمؤسسات عن الحقائق، وفتح الباب أمام منصات ومصالح كارهة ومعادية لرسم تفاصيل «واقع فائق مواز»، يعيش من خلاله المواطنون فى عالم من الزيف والتضليل، وهو أمر يؤثر حقًا فى الأمن القومى، ويُصعب جهود صيانته.
ولذلك، فستظل القدرة على حماية الأمن القومى، مع الحفاظ على استحقاقات حقوق الإنسان، ومنها الحق فى المعرفة والحصول على المعلومات، والتعبير عن الرأى، مطلبًا شديد الحيوية فى أى مجتمع رشيد، وستكون الحكومة والمؤسسة التشريعية معنيتين بمعالجة هذا المطلب. وسيظل هذا التدبير الحكومى معنيًا بحماية أمن الدولة والمواطنين، والخصوصية، والكرامة الإنسانية، والوحدة الوطنية، والتماسك الأهلى، والآداب، وحقوق النشء والفئات المهمشة والضعيفة، بموازاة إتاحة الحصول على المعلومات اللازمة، لإبقاء الناس والمؤسسات فى النور، واتخاذ القرارات السليمة، ومحاربة الفساد، وكشف الهدر وعدم الكفاءة. وسيكون من المناسب جدًا تعيين الحدود التى يمكن أن تعتبر فيها الدولة أن ممارسة معلوماتية ما يمكن أن تمس سلامتها، وتؤثر سلبًا فى المصلحة العامة، من دون إفراط أو تفريط. وفى كل الأحوال، ستتصاعد الشكوك فى مقاربة الدولة كلما كان هذا السلوك انتقائيًا وقائمًا على الكتمان والتعتيم، وسيسود الاعتقاد فى سلامة منطلقات هذا السلوك كلما كان مستقيمًا ومتسقًا وشفافًا.
* نقلا عن "المصري اليوم"
