وَنَذيمُهُم وَبِهِم عَرَفنا فَضلَهُ ... وَبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشياءُ
مَن نَفعُهُ في أَن يُهاجَ وَضَرُّهُ ... في تَركِهِ لَو تَفطَنُ الأَعداءُ
فَالسلمُ يَكسِرُ مِن جَناحَي مالِهِ ... بِنَوالِهِ ما تَجبُرُ الهَيجاءُ
يستغرب المتنبي من ذم الناس لأعداء ممدوحه فلولا هؤلاء الأعداء - كما يعتقد المتنبي- لم يعرف فضل ممدوحه، ولوعلم أعداؤه أن تركه مضراً هل حاربوه، فممدوحه رجل لا يظهر معدنه الأصيل شجاعة وكرماً إلا بوجود الخصوم وإثارة غبار الهيجاء.
من الصعب أن تُستكمل الهوية أياً كانت دون وجود الآخر مهما تعددت تسمياته، عدواً كان أوخصماً أو منافساً، وأسوأ ماتقدمه لخصمك أن تحرمه من وجود العدو، كما قال ذات يوم المستشار السياسي لغورباتشوف بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة إذ قال مخاطباً الغرب: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو". العدوانية هي غريزة متجذرة في الذات الإنسانية ولا يمكن نزعها ولا قمعها بشكل كامل بل يتم تحويرها لأشكال يمكن قبولها وهي ترتكز على نوازع وميول متجذرة في الإنسان، كما يقول فرويد. لذا فكما يعتقد فرويد أنه من العبث محاولة التخلص من العدوانية، ولكن يمكن صرفها في قنوات تمنع تحولها إلى حرب. هذه العدوانية تأتي من جذر حب النفس وهو الحب الغرائزي الذي يفسر به الجبان سبب جبنه والشجاع سبب شجاعته،
كما عبر عنها شاعر الإنسانية الحكيم أبو الطيب بقوله:
أرى كلنا يبغي الحَياةَ لنفسهِ
حريصًا عليها، مُسْتَهامًا بِها صَبَّا
فَحُبُّ الجَبانِ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ التُّقَى
وَحُبُّ الشُّجَاعِ النَّفْسَ أوْرَدَهُ الحَرْبَا
وهذا الذي قصده أبو الطيب في أن دافع غريزة العدوانية عند الشجاع هو حب الذات ولذا جشم نفسه المخاطر، وخاطر بها فقط لإشباع غرائز النفس الإنسانية، وهي ذات الغريزة التي ألجأت الجبان لادعاء التقوى. دارون يرى أن إرادة الحياة هي أساس الأخلاق والحالات النفسية الحسنة والقبيحة منها، بينما يرى نيتشه أن إرادة القوة هى الباعث الأول للأخلاق الكريمة، وجاء تفسير المتنبي النسبي لتفسير حب النفس جامعاً جميلاً بينهما.
ابن خلدون صنف دوافع الحرب إلى دافعين: دافع العدوان ودافع العدل، فحروب المنافسة والعدوان والطمع وهي الأغلب يقابلها وهي الأقل حروب الجهاد سواء كان جهاد الطلب أو جهاد الدفع، وكلا الحالتين تفترض وجود العدو. تقسيم الآخرين إلى أعداء وأصدقاء طبيعة إنسانية وسلوك نفسي من الصعب نزعه، وما يفرق مجتمع البشر عن مملكة الحيوان أن الأخير ليس لديه وسيلة لحل أي مشكلة في الغابة إلا العنف، ويرى كل جنس غيره عدواً له، بينما الإنسان المخلوق العاقل يستطيع أن يمارس عداوته بأشكال متعددة آخرها العنف. لا نحزن أو نهتم أو نتضايق من وجود العدو والخصم المنافس فهو نعمة محفزة مادام بعيدا عنا مفارقاً لنا. العدو كالنار تحتاجه لتشعر بالدفء، متى ما حافظت على المسافة الإنسانية اللازمة بينك وبينه، ومادام تحت نظرك بعيداً عن قلبك، فإن اقتربت منه احترقت. لا يضيركم ما تسمعونه من نقد وما تقرأونه من تهكم وتجريح من خصومنا المعروفين لأنه لايعدو إلا أن يكون حافزاً لمزيد من التنمية والنجاح والتقدم والحفاظ
على المكتسبات. إضاءة:
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ".
