المشكلة السكانية والتجربة الفنلندية


في الأسبوع الماضي، تحدث الرئيس السيسي عن المشكلة السكانية في مصر، ورغم أن مقاربة الرئيس لهذه المشكلة، وإظهار اهتمامه الكبير بها، ليس أمراً جديداً، فإنه، في هذه المرة، ألمح، أو أوعز، أو فتح الباب أمام محاولة لـ "تقنين حرية الإنجاب"، عندما رأى أنها "ليست مطلقة".لطالما أظهرت الدولة المصرية إدراكاً واضحاً لأزمة السكان وتداعيات نسب النمو السكانية العالية والقياسية، وارتداداتها القاسية على الموارد المحدودة، وقدرة الحكومة على توفير الخدمات المناسبة للمواطنين.لقد حدث هذا مبكراً جداً منذ العهد الناصري، وهو أمر لم يحد عنه أيضاً الرئيسان السادات ومبارك، وصولاً إلى العهد الحالي، لكن هذه المخاوف والتحذيرات والتقديرات الواضحة لخطورة أزمة الزيادة السكانية لم تنعكس أبداً في "سياسات سكانية"، ولم تتبلور في قوانين أو قرارات، بينما تم التعويل في إنجاز مهمة مقاربتها على وسائط التوجيه والتوعية؛ وعلى رأسها بطبيعة الحال وسائل الإعلام.

في شهر أكتوبر الماضي، كتبت مقالاً، نُشر في هذه الزاوية نفسها، بعنوان "كيف أخطأنا في معالجة المسألة السكانية"، وفي هذا المقال تمت الإشارة إلى تجاوز عدد سكان مصر 104 ملايين نسمة، بنسبة زيادة لا تزال من بين الأكثر ارتفاعاً على المستوى العالمي، بحيث ترفدنا بعدد مماثل لمواطني بعض الدول في منطقتنا العربية سنوياً، وهو أمر يزيد الأعباء على الإنفاق الحكومي، ويضغط على كفاءة الخدمات العامة، ويخفض مستويات جودة الحياة.وقد لفت المقال الانتباه إلى عدد من الأخطاء التي نقع فيها في مقاربتنا للمسألة السكانية؛ وأهمها اعتقادنا أن الإفراط في التركيز على دور وسائل الإعلام وعملية التوعية وحده، يمكن أن يقود إلى التأثير في الجمهور، ويخفض أعداد المواليد.

مادة اعلانية

كما أشار أيضاً إلى ضرورة وجود نهج سياسي وقانوني ينعكس في قرارات وقوانين تعالج الإفراط في الإنجاب، أو تحفز على السيطرة على معدلاته، بما يخدم المصالح الوطنية.لقد كانت الصين أهم دولة واجهت مشكلة الزيادة السكانية في العالم، لكنها لم تكتف في مواجهتها لهذه المشكلة بالتوعية والإلحاح الإعلامي على المواطنين، إذ سن الحزب الشيوعي قانون الطفل الواحد، عام 1979، وأتبعه بحزمة من الإجراءات والعقوبات، ضمن ما عُرف آنذاك بـ "سياسة تخطيط الأسرة".

في تلك السياسة تم إلزام المواطنين بإنجاب طفل واحد، مع فرض ضرائب تصل إلى 50% من الدخل، أو الطرد من الوظيفة، أو الحرمان من صور الدعم الأخرى، في حال تم إنجاب أكثر من طفل.وبحلول العام 2013، كانت الصين أحرزت نجاحاً باهراً في سياسة الحد من النمو السكاني، وبموازاة ذلك ارتفع دخل الصينيين، وتحسنت مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وخرج مئات الملايين من الفقر، وتعزز أداء الخدمات العامة، فبدأت الدولة في التخفيف من قيودها على الإنجاب.

وفي العام 2016، وجدت الدولة أن معدلات المواليد المنخفضة يمكن أن تؤثر في خطط التنمية، لأنها تزيد من أعداد المسنين، وتقلل من أعداد الشباب القادرين على العمل، فرفعت معدل الإنجاب المسموح به إلى طفلين، وأطلقت برامج توعية وحزم تحفيز على إنجاب الطفل الثاني.ولمشكلة السكان جانب آخر غير الجانب الذي نعرفه، فثمة 82 دولة في العالم تعاني من تراجع المواليد بشكل لا يعوض الوفيات، ما يؤثر على قوة العمل الوطنية؛ كما هو حادث في كوريا الجنوبية، وروسيا، وألمانيا، واليابان، والدول الإسكندنافية.ولكي تواجه تلك الدول هذه المشكلة عمدت إلى برامج وخطط وطنية، وتعديل للوائح لمنح إجازات رعاية أطفال للوالدين.لقد نجحت الصين في معالجة مشكلتها السكانية مرتين؛ إحداهما عندما حدت باستخدام الأدوات القانونية من الزيادة، وثانيتهما عندما عززت مستويات الإنجاب بالأدوات ذاتها، وفي المرتين كان الهدف تحقيق المصالح الوطنية عبر سياسات تخطيط سكانية ناجعة، أثمرت في النهاية عن تراجع الصين إلى المركز الثاني عالمياً في عدد السكان مقارنة بالهند.

وثمة تجارب أخرى ملهمة في مجال معالجة الأوضاع السكانية غير المواتية؛ ومن بين تلك التجارب تجربة بعض المدن الفنلندية، التي قررت منح حوافز ما بين 200 يورو إلى عشرة آلاف يورو لكل أسرة تنجب طفلاً جديداً، عندما وجدت تراجعاً ملفتاً في عدد السكان، بسبب إحجام السكان عن الإنجاب، مما أثر في القدرة السكانية، وقوة العمل المطلوبة لإدامة الأعمال وتحقيق الازدهار، وهو الأمر الذي انعكس في زيادة معدلات الإنجاب في بعض المدن بالفعل.يعطينا هذا مثلاً واضحاً على ما يجب أن تفعله دولة لمواجهة مشكلتها السكانية، سواء كانت تلك المشكلة تتعلق بزيادة الإنجاب أو تراجع معدلاته.

وعندما نحاول الاستفادة من تلك التجارب في تخطيط السياسة السكانية لمعالجة الوضع في مصر، علينا أن ندرك أن هناك أدوات قانونية تُستخدم لحض الناس على لجم معدلات الزيادة السكانية، بموازاة أدوات أخرى تستهدف تعزيز الإنجاب.وأن ندرك أيضاً أن السياسات التحفيزية يمكن أن تكون فعالة مقارنة بالوسائل التقييدية والعقابية، خصوصاً في دولة مثل مصر، التي تعرف المسألة السكانية فيها أبعاداً دينية واجتماعية بدت متجذرة وعصية على التغيير لقرون طويلة.

ولعل أفضل ما يمكن أن نفعله في هذا الصدد أن نتأسى بالتجربة الفنلندية السكانية، مع الأخذ في الاعتبار بأن هدفها كان تحقيق النمو السكاني بينما هدفنا هو لجمه، وهو أمر حاولت الحكومة فعله عندما أعلنت في شهر فبراير الماضي عن مقترح صرف مبلغ استثماري تحفيزي لكل أم تحافظ على إنجاب طفلين فقط عندما تبلغ 45 سنة من عمرها.وفي شهر مارس، حددت الحكومة هذا المبلغ بألف جنيه شهرياً، تصرف عند بلوغ المرأة سن الـ 45 دفعة واحدة، ويسقط حقها في المبلغ إذا أنجبت طفلاً ثالثاً.لا يبدو أن تلك السياسة وجدت تفاعلاً أو اهتماماً؛ إذ إن إرجاء صرف المبلغ لسنوات طويلة، مع تغير سعر العملة باطراد، لم يكن مغرياً للمُخاطبات بالمقترح، خصوصاً الأقل تعليماً والأكثر احتياجاً.من الممكن أن تعدل الحكومة هذا المقترح، عبر الاقتداء بالتجربة الفنلندية، بأن يتم صرف مبلغ شهري لكل أم تلتزم بسياسة الإنجاب التي تقرها الحكومة، طوال فترة هذا الالتزام، وهو أمر سيكون أقل تكلفة من استقبال المواليد الذين يحمّلون الدولة بأعباء أكبر.سيعارض البعض الاقتراح بداعي أنه يستلزم توفير موارد ضخمة تدفع بانتظام، وأن نتائجه قد لا تكون مضمونة، لكن تلك المبالغ ستكون في كل الأحوال أقل من الأعباء التي ترتبها الزيادة الإنجابية، كما أن حرص الأزواج في الطبقات الأكثر احتياجاً خصوصاً على استدامة الحوافز ستكون كبيرة وملموسة وناجعة، في ظل تزايد الغلاء والأعباء الاقتصادية.

وعندما تستفيد أسرة ما من تلك الحوافز التشجيعية على تنظيم الأسرة، سيكون من السهل والمسوغ لاحقاً أن تتقبل، ومعها المجتمع، فرض عقوبات عليها في حال تراجعها عن هذا الالتزام.

* نقلا عن "الوطن"

تاريخ الخبر: 2023-09-12 21:11:04
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 76%
الأهمية: 86%

آخر الأخبار حول العالم

أخنوش يمثل الملك في القمة العربية بالمنامة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 18:26:05
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

الغلوسي: هل من حكماء لإنهاء أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة؟

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 18:26:09
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 57%

الغلوسي: هل من حكماء لإنهاء أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة؟

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 18:26:14
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 64%

مبابي يغيب عن مواجهة سان جرمان أمام نيس بداعي الإصابة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 18:25:51
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 68%

مبابي يغيب عن مواجهة سان جرمان أمام نيس بداعي الإصابة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 18:25:58
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 64%

أخنوش يمثل الملك في القمة العربية بالمنامة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 18:26:00
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية