ورقة حول: مقارنة التجربة الليبيرية بالحالة السودانية وجدوى تكوين حكومة "أمر واقع"


ورقة حول: مقارنة التجربة الليبيرية بالحالة السودانية وجدوى تكوين حكومة “أمر واقع”

مهدي رابح

1-            مقدمة:

في البدء يجب التشديد على ان هذه المساهمة المتواضعة لا تتضمن استنتاجات نهائية انما قصد منها المشاركة في العصف الذهني الحالي والهادف لإيجاد مخرج للحرب الدائرة وما تخللتها من انتهاكات مروعة وفقدان للأرواح والممتلكات الخاصة والعامة وما تسببت به من كارثة إنسانية مهولة وعصية علي الحصر راح ضحيتها الملايين قتلا واغتصابا وتشريدا ومازال ملايين اخرين يواجهون شبح الموت تحت القصف وبالرصاص الحي او جراء للمجاعة او نقص الخدمات العلاجية.

كما يجدر الإشارة أيضا إلى أن ما يحدث اليوم يجب النظر اليه في سياق ارث طويل من عدم الاستقرار السياسي والأمني والظلم الاجتماعي وتشوه البنية السياسية والاقتصادية وتمزق للنسيج المجتمعي والذي دفع اثمانه الكبرى سودانيو الهامش في المقام الاول، فقد راح ما بين حرب الجنوب ودارفور وجنوب كردفان وغيرها خلال 67 عاما من عمر الدولة السودانية ما يقدر بـ2 مليون ضحية من المدنيين وملايين ضحايا الانتهاكات في بيئة ظلت محفزة ومشجعة للإفلات من العقاب، ولم يقدم فيها خلال ما يقارب السبعة عقود من المسؤولين من هذه الجرائم لسوح العدالة واليات المحاسبة الا القليل جدا. هذا القدر المرعب من الانتهاكات التي تعرض لها السودانيات والسودانيون منذ استقلال دولتهم يعطي خصوصية للحالة السودانية يجب وضعها في الحسبان في أي حل قادم.

سأبدأ أولا بمقتطف من مقال ما وجدته ضمن بحثي عن بعض المعلومات اثناء عملية الاعداد لهذه المداخلة وانقله هنا ببعض التصرف… كما سأذكركم به لاحقا خلال هذه الورقة لأهميته:

(في تلك المرحلة، بعد سقوط الاف القتلى من المدنيين وارتكاب الأطراف المتحاربة عديد الانتهاكات  الجسيمة في حقوق الانسان وجرائم الحرب من قصف للمناطق السكنية ونهب الممتلكات والاغتصابات الممنهجة، وهجرة الملايين تاركين مستوطناتهم الاصلية، أصبح كل واحد من الأطراف المتصارعة يسيطر علي منطقة جغرافية معينة ويعمل علي استغلال مواردها الطبيعية بشكل مكثف لتمويل الحرب واثراء زعمائه من امراء الحرب، بينما قوضت مؤسسات الدولة بصورة شبه كلية ولم يتبق منها الا اسمها لان الحكومة أصبحت عاجزة عن تقديم أي شكل من اشكال الخدمات ناهيك عن توفير سلعة الامن).

الإجابة على السؤال المطروح في عنوان الجلسة يتضمن الوضع في الحسبان بعض الجوانب الأساسية التي لا يمكن تجاوزها للوصول الي طرح موضوعي متماسك، وهي طبيعة هذه الحكومة الانتقالية المذكورة ومهامها والعمليات او الاليات التي ستؤدي الي تكوينها ونطاق صلاحياتها واطارها القانوني أو الدستوري، وهو ما يستدعي التوسع في هذه القضية لاحقا في دراسات مكملة أخرى.

وهو ما يتطلب أيضا التمهيد بوصف صريح ودقيق وان كان موجزا للوضع الحالي، ثم الغاية المراد تحقيقها من تكوين هذه الحكومة ومن ثم كيفية الوصول الي هذه الغاية وعلاقة المجتمع الدولي والإقليمي بكل ذلك

2-            الوضع الحالي:

المداخلة المذكورة سابقا- والتي تعمدت فيها حذف اسم الدولة والفاعلين وبعض المعلومات الأخرى- قد تبدو للوهلة الاولي وكأنها وصف لما يحدث في السودان اليوم بينما هي في حقيقة الامر هي مجتزئة من مقال في موقع Frontline World يصف الوضع في ليبيريا في المراحل المتقدمة من الحرب الاهلية والتي امتدت ل 14 عاما، من 1989م الي 2003م تحديدا.

اجمالا يمكن ان نؤكد بان التجربة الليبيرية، وللأسف الشديد، لديها بعض أوجه الاختلاف والعديد جدا من اوجه التشابه مع تجربتنا الحالية ولعل أهمها هو الخلفية التاريخية للظلم الاجتماعي الذي شكل اصل الصراع علي السلطة والموارد واستغلال نخبة لأجهزة الدولة لتحقيق مصالحها علي حساب الأغلبية وحجم الانتهاكات الجسيمة التي مورست ضد المدنيين وتعدد القوي الحاملة للسلاح (رسمية، شبه رسمية واخرى) ذات الطموحات السياسية وانعدام السقف الأخلاقي لزعمائها وعسكرة الفضاء المديني ما نتج عنه تحويل العاصمتين الخرطوم ومنروفيا بالتحديد الي ساحات معارك محتدمة وفقدان الدولة السيطرة علي مساحات واسعة داخل حدودها الجغرافية وعدم قدرتها على القيام بمهامها وسيطرة كل طرف من اطراف الصراع علي أجزاء واسعة من البلاد ولجوء كليهما للحواضن الاجتماعية القبلية والاثنية واستنفارها للمشاركة في الحرب بل وكما ظهر مؤخرا عمليات تجنيد للأطفال أيضا.

بينما يمكن اجمال أوجه الاختلاف في ضعف المجتمع المدني الليبيري مقارنة بالسوداني الذي استطاع عبر انتفاضات وثورات شعبية سلمية الإطاحة بثلاثة حكام عسكريين ديكتاتوريين حكموا السودان لمدة 54 عاما تراكمية، كما ان المؤسسات الديموقراطية كالأحزاب والنقابات والاجسام المطلبية اكثر خبرة ونضجا وربما الاختلاف الأخير المهم هو محدودية الفاعلين الدوليين والاقليميين السلبيين في ليبيريا مقارنة بالسودان وهي فرضية في حاجة الي مزيد البحث لإثباتها بصورة لا يرقي اليها الشك.

درجة التعقيد للواقع الحالي وحجم التعتيم والتضليل والدعاية الحربية التي فرضها الطرفان علي الفضاء العام يجعل من فهمه وتحليله بصورة كاملة وواضحة عملية شبه مستحيلة وربما الدراسات المقارنة بالأخص باستخدام الحالات الشبيهة وما اعقبها من ترسيخ للسلام وتدشين لعمليات الإصلاح والدمقرطة Democratization، بما فيها من نجاحات واخفاقات قد تفتح بعض الافاق نحو المقاربات المتاحة والممكنة لإيجاد حلول للازمة الحالية, بما فيها كيفية تكوين حكومة/ سلطة انتقالية معترف بها خارجيا وذات قبول واسع داخليا وتمتلك السلطة والصلاحيات الكافية لتنفيذ حزمة المهام الموكلة اليها.

لتوضيح الحجة سأتناول المشكل الليبيري بإيجاز وتسلسل زمني مبسط:

احد اهم جذور الازمة الليبيرية هو ازمة الهوية التي تسببت فيها النخبة التي تم إعادة توطينها من أمريكا (بدأت باستيطان عدد لا يتعدى المئة من المحررين من الاستعباد في أمريكا الي ليبيريا في القرن التاسع عشر ثم  استقرار اعداد اكبر علي قطعة ارض تم شراؤها بواسطة حكومة الولايات المتحدة عام 1920م) وتعاظمت اعدادهم لاحقا وتوسعوا في المساحات التي يسيطرون عليها حتي اعلنوها دولة مستقلة عام 1947م، وهو ما جعل منهم طبقة تسيطر علي السلطة والثروة وتضطهد السكان الأصليين بل تحرمهم من حقوق سياسية أساسية كحق الوصول الي السلطة عبر الترشح والتصويت في الانتخابات… فأصبحت احد المسائل المركزية في الصراع تتعلق بتعريف من هو الليبيري في المقام الاول.

قام الجنرال دوي بانقلاب عام 1980 علي الرئيس تولبرت واقام نظاما قمعيا ذوطابع اثني قائم على شرعية احقية استعادة حقوق السكان الاصليين مستهدفا بالقمع الليبيريين المستوطنين وأصبحت الثارات والصراع بين المكونين هو إحدى اهم المحركات للحرب التي اندلعت إثر التمرد عليه عام 1989.

خلال 14 عاما من الحرب الاهلية 1989-2003م التي اتسمت بدرجة كبيرة من الوحشيّة وتخللتها حربان يفصل بينهما عامان فقط من الهدوء النسبي 1997 و1998 تم التوقيع علي سلسلة من اتفاقيات السلام كان اهم سماتها هو تقاسم السلطة بين زعماء الأطراف المتحاربة، اتسمت بزيادة قبضة هؤلاء مع تقدم الزمن مما ادي الي استمرار الحرب بما ان الاتفاقيات التي شجعت الأطراف المتصارعة علي السعي للسيطرة علي مزيد الأراضي والموارد وللحصول علي مزيد السلطة السياسية في الاتفاقات التي تليها، او ما يسمى بسياسة “السلطة مقابل البنادق” Power for Guns. وهو ما ادي أيضا الي بزوغ مزيد من الحركات المسلحة الجديدة الطامحة في الحصول علي نسبة من السلطة والموارد بدورها.

ويمكن حصر تلك الاتفاقيات غير الناجحة في، كوتونو 1993، اكوسومبو 1994 وتعديلاتها في أكرا 1995, ثم ابوجا 1995 وتعديلاتها في 1996.

تم انتخاب امير الحرب شارلس تيلور في انتخابات تخللتها عيوب كبيرة عام 1997م وحنث بتعهداته بتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم واقام نظاما قامعا شديد الفساد.

تجدد النزاع المسلح بتأثير مما يحدث في سيراليون عام 1999م

عام 2001 تم فرض حظر على السلاح بقرار من مجلس الامن

عام 2003 تم تدشين عملية كيمبرلي الهادفة لمنع التعامل في الماس الليبيري والسيراليوني (ماس الدماء Blood Diamond)

عام 2003م وبالتزامن مع اشتداد الحصار علي مونروفيا وهروب تيلور تم التوقيع علي اتفاق أكرا للسلام الشامل.

وكان اتفاقا اكثر شمولا واسس لحكومة انتقالية مثلت طيف واسع تضمن ممثلين للمجتمع المدني والأحزاب السياسية والأطراف المتصارعة, لكن ذلك تزامن مع عملية تشديد الرقابة الدولية على الموارد (الخشب والماس) ومحاصرة القيادات قانونيا وربما اشهر نتائجها كانت القاء القبض علي شارلس تيلور (الرئيس الأسبق) ومحاكمته في محكمة خاصة بقضايا سيراليون في مقر محكمة الجنايات الدولية بلاهاي عام 2013م.

احدي الجوانب المهمة التي اطلع بها المجتمع المدني الليبيري هو اطلاق مجموعة مطلبية نسائية لحملة “أوقفوا الحرب الآن” والتي انضمت اليها شرائح واسعة من الشعب الليبيري وكانت ذات اثر كبير في اكمال وتوقيع اتفاق أكرا 2003م.

نجحت الحكومة الانتقالية في تحقيق عديد أهدافها واهمها إقامة انتخابات ذات درجة مقبولة من الشفافية والنزاهة كما انها اطلعت بإدارة عملية تفاوضية واسعة “الحوار الوطني” ساهمت في الوصول الي دستور متوافق عليه.

2005م الموظفة الأممية ايلين فيركليف أنتخبت كاول رئيسة ليبيرية وافريقية كذلك.

كان للأمم المتحدة بالشراكة مع الايكواس ECOWAS وقوات حفظ السلام دورا أساسيا في الوصول الي الاتفاق النهائي كما في نجاح الحكومة الانتقالية في القيام بعديد المهام الموكلة اليها والتي توجت بالانتخابات.

لا تزال قضايا الإصلاح الأمني وقضايا ملكية الأراضي والفساد واستغلال الموارد وبناء المؤسسات الديمقراطية والحد من الفقر تمثل تحديات كبرى لم يتم تجاوزها كليا لكن يمكن ان نقر وبشكل كبير ان السلام تم احلاله كما ان انتخاب السيد جورج ويا عام 2018م كثان رئيس منتخب يمثل خطوة الي الامام نحو ترسيخ مبدا التبادل السلمي للسلطة والحكم المدني وترسيخ الديموقراطية Democracy Consolidation.

*خلاصة مهمة بخصوص ليبيريا وذات علاقة بالحالة السودانية:

“من الواضح ان النزاع في ليبيريا تم تغذيته بعمليات اقتصادية محلية ودولية أدت الي استمرارها وخدمت مصلحة الجناة علي حساب المواطنين الاخرين. من الواضح ان احد شروط استمرار نجاح التجربة الليبيرية واستدامة السلام هو الحرص علي عدم تكرار نمط الحصول علي الامتيازات والمكتسبات والسلطة والثروة عن طريق العنف وإعادة تأسيس البنية الاقتصادية بحيث تضمن توزيعا عادلا للثروات وتنمية متوازنة، وهو ما يمكن تحقيقه عبر وسائل مثل الرقابة الدولية على السلاح وعمليات استغلال الموارد الطبيعية وتبني برامج توليد الدخل Income Generation التي توفر للمقاتلين المحتملين مصادر دخل شرعية وذات قيمة وتبني سياسات تنمية تحد من نمط المحسوبية والفساد.”

تاليا: وصف موجز للمشكل السوداني بترتيب مماثل:

تنبع جذور الازمة السودانية المتطاولة كالحالة الليبيرية من الظلم الاجتماعي والتفاوت في الفرص والتوزيع غير العادل للثروات وانفراد نخب ذات خلفيات اثنية واجتماعية محددة بالنسبة الأكبر من السلطة والثروة على حساب غالبية الشعوب السودانية وبدرجات متفاوتة في مناطق الهامش ذات البنية الريفية في الأساس.

وهذا يرجع إلى أن الحكومات التي أعقبت الاستقلال ورثت عين مؤسسات الحكم الزبائنية التي خلفها المستعمر بما فيها من شبكات النفوذ التي اجترحها لادارة السودان عن طريق الحكم غير المباشر، ذو الطبيعة شديدة المركزية، والذي يعتمد علي تفويض الزعامات الاهلية والدينية بصلاحيات واسعة حتي تتمكن من السيطرة علي رعاياهم المباشرين مقابل تحقيق مصالحها، أو ما اسماه الدكتور محمود ممداني في كتابه المهم ” المواطن والرعية” بظاهرة لا مركزية الاستبداد، كما يعتمد لضمان فرض سلطته من المركز علي جيش جيد التسليح يمكنه استخدامه ضد من أراد متي ما اراد, مهمته الأساسية حماية مصالح المستعمر والعمل علي الحفاظ علي نظام الحكم عبر تمركزه في العاصمة والمدن دون الحاجة الي انتشاره في مساحات واسعة (إدارت بريطانيا السودان الكبير لعقود بعدد من الموظفين البريطانيين، عسكريين ومدنيين، لا يتعدى الـ1200 بريطاني).

ما بعد الاستقلال ورث السودان مؤسسات دولة صممت لاداء الركيزتين الاساسيتين لاي نظام استعماري، أي السيطرة واستخلاص الموارد والمواد الخام، ودون أي نظرة مستقبلية طويلة المدى، فالسودان لم يكن يقع ضمن نطاق ما يمكن تصنيفه بالمستعمرات الاستيطانية (الهند وكينيا نموذجا), وشكل الجيش الاستعماري نواة للمؤسسة العسكرية بشكلها الحالي لكن الأهم من ذلك ورث علاقات السلطة لنظام الحكم “الابوي” ووكلائه، وهي سلطة سيطر على قمتها في الغالب العسكريين (54 عاما من مجموع 67) في ظاهرة يشرحها لوكهام في كتابه المؤسسة العسكرية والعسكرة والديمقراطية في إفريقيا 1998: “أن حكم المؤسسة العسكرية في فترة ما بعد الاستعمار في بلدان إفريقيا، كان انتقالًا لا مفرَّ منه، وتحولًا نموذجيًّا لا غنى عنه في أسلوب الحكم وإدارة البلاد. وبمرور الزمن، أضحت مطالبة الجيش بالسلطة وأحقيته في الحكم تنبثق أساسًا من اقتناع المؤسسة العسكرية بأن أية حكومة مدنية قد تفرزها انتخابات ديمقراطية لن تكون جديرة بالثقة، ولن تكون مؤهلة لخوض غمار السياسة، وسبر أغوارها. ففي الذهنية العسكرية، يؤمن الجنرالات بأن أي كيان مدني سيكون عرضة للفساد، وسيعرِّض البلاد إلى اضطرابات اقتصادية بسوء إدارة، ومراهقة سياسية، وافتقار للخبرة والحنكة والانضباط الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية.”

بسبب ما ذكر أعلاه وبينما تمدد دور الجيش السياسي خلال فترات الحكم العسكري المتطاول وازدادت عمليات التسييس في صفوف منتسبيه, بالأخص في صفوف نخبة الضباط عبر سياسة الأدلجة والتمكين التي انتهجهتها الحركة الإسلامية وتعاظم نفوذه الاقتصادي في ظل نظام كليبتوقراطي (لصوصي) فاسد كالإنقاذ تراجعت قدرته للقيام بواجبه الدستوري الأساسي في توفير سلعة الامن واصبح مبلغ همه حماية مصالح نخبته المتمثلة في النظام الحاكم في الخرطوم تحديدا بينما فوض كثير من مهامه القتالية وبصورة متزايدة لمليشيات مسلحة موفرا لها الغطاء المؤسسي والقانوني الذي يسمح لها بالإفلات من العقاب جراء الانتهاكات المروعة التي عرفت بها منذ مرحلة القوات الصديقة في عهد النميري ثم لاحقا  المراحيل والجنجويد والدفاع الشعبي والامن الشعبي وكتائب الظل وحرس الحدود في نمط متصاعد بلغ قمته بتكوين جيش مواز كالدعم السريع ووضع غالب المهام الحربية الخاصة بقوات المشاة علي عاتق,  وبالتالي خلق قوة عسكرية سياسية واقتصادية هائلة وذات طبيعة قبلية وطموحات سياسية واستقلالية كبيرة عن الدولة وصلت حد منافستها ومحاولة السيطرة الكاملة عليها.

ثبت أيضا وبأدلة عديدة ان الجيش وخلال الحروب الاهلية المتطاولة ارتكب انتهاكات جسيمة وشارك المليشيات في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأكثر ما يعبر عن هذا النمط هو التقرير الوافي الذي قدمته اللجنة الخاصة للأمم المتحدة بدارفور في جنيفا بتاريخ 5 يناير 2005م والذي تم علي إثره تحريك الإجراءات القانونية التي أدت الي المطالبة بمثول الجنرال البشير وعدد من رموز نظامه امام محكمة الجنايات الدولية ICC.

وهي لجنة كونها السيد كوفي انان، الأمين العام للأمم المتحدة حينها بناء علي قرار مجلس الأمن رقم 1564 الصادر يوم 18 سبتمبر عام 2004م والتي تراسها السيد أنطونيو كاسياس وعضوية كل من محمد فايق, هينا جيلاني، دوميسا نسيبيزا وتيريزا سترينغر سكوت.

وهنا اقتطف احدي النقاط التي تلخص ما توصل اليه من نتائج:

الفقرة رقم 186- صفحة 54

” سُجّل تكراراً لنمط من الاعتداءات علي القري والمستوطنات، مصحوبا احيانا بهجوم جوي تُستخدم فيه طائرات الهيليكوبتر الحربية أو الطائرات ذوات الاجنحة الثابتة (انتينوف او ميج)، ويشمل ذلك القصف وإطلاق زخات الرصاص الكثيف من أسلحة اتوماتيكية. لكن غالب حوادث الهجوم المسجل تتمثل في هجمات أرضية يقودها اما عسكريون رسميون او جنجويد اوالاثنين معا.

مئات الأحداث المسجلة تضمنت قتل للمدنيين، مجازر، اعدام خارج نطاق القانون، اغتصاب وأشكال اخري من الاعتداء الجنسي، تعذيب، اختطاف، نهب الممتلكات والماشية، كما تضمنت ايضا التدمير المتعمّد واحراق القري.

هذه الأفعال تسببت في النزوح الجماعي لشرائح واسعة من السكان داخل دارفور كما في المناطق المجاورة من تشاد. التقارير تشير إلى ان كثافة الهجوم وفظاعة الانتهاكات التي ترتكب في اي واحدة من القري تنشر درجة من الرعب تدفع بسكان كل القري المجاورة للهروب والنزوح إلى مناطق أكثر امانا”… انتهي

كتمهيد لما يلي يمكن أن نقول إن ما اعقب سقوط البشير في 11 ابريل 2019م يمثل التحول الكامل للقطاع الأمني والعسكري وللمؤسسة العسكرية بالتحديد إلى كيان سياسي مستقل تحمل قياداتها اجندة سياسية تهدف الي حماية مصالحهم ومصالح شبكات المصالح المرتبطة بهم وتسعي للسلطة باستخدام القوة الضاربة لمؤسسات الدولة والقابلة للسيطرة التامة من قبل حفنة من الجنرالات نتاج التشوهات البنيوية الكبيرة التي اصابتها عبر عقود من التدخل في العملية السياسية والتمدد في الفضاء الاقتصادي والتي جعلت منها مؤسسات فوق القانون والدولة كما ان عديد منتسبيها يدينون بعقيدة استحقاق ذاتي جامحة ومتطرفة للتمسك بالسلطة.

عام 2019م وعقب ثورة ديسمبر 2018م والتي تعتبر من أعظم الهبات الشعبية في تاريخ افريقيا المعاصر قامت ما تسمى باللجنة الأمنية مدفوعة بما أثبته سلوك أعضائها لاحقا (المكون العسكري) من نية مبيّتة للاستيلاء على السلطة، بتنحية راس النظام والدخول في مفاوضات مع قوي الحرية والتغيير. في خطوة استباقية لمحاولة الاستيلاء علي السلطة قامت القوي الأمنية التي يقودها كل من الجنرال البرهان وحميدتي بعملية مشتركة اظهرت مؤشرات عديدة لاحقا مشاركة كتائب من مليشيات النظام السابق بتنفيذ جريمة فض الاعتصام المروعة التي اغتيل فيها مئات المعتصمين العزل واغتصابهم في أواخر شهر رمضان المعظم ويعتبر بيان الجنرال البرهان الذي القاه في صبيحة يوم المجزرة اي الثالث من يونيو 2019م خطابا انقلابيا نموذجيا اعلن فيه نهاية المفاوضات واستلام السلطة.

لكن مقاومة الثوار وخروجهم بأعداد ضخمة في الشوارع في الثلاثين من يونيو 2019م مقرونا بالضغط الدولي اجبر المكون العسكري علي الجلوس والتوقيع على الاتفاق السياسي الذي افضى إلى الوثيقة الدستورية وتكوين الحكومة الانتقالية برئاسة دكتور عبد الله حمدوك.

دون الدخول في التفاصيل المبذولة في الفضاء العام لمجريات الفترة الانتقالية وما تخللتها من اتفاقية جوبا ثم تكوين الحكومة الثانية، هنالك ادلة عديدة ومثبتة لمحاولات المكون العسكري المستمرة عرقلة عمل الحكومة الانتقالية وحملات التضليل الإعلامي التي كانت تقوم بها جهات مرتبطة به وموثقة من قبل بيت خبرة متخصص ومحاولاتها شق الصف المدني بشراء ولاء وكلاء لها داخل بعض الكيانات السياسية والمطلبية وعرقلة عمليات التفكيك بل توفير حماية لبعض الشخصيات من قيادات النظام السابق علي راسها علي كرتي للإفلات من الاعتقال رغم تهم الفساد العديدة الموجهة ضده بالأدلة وعرقلة تسليم الجناة في جرائم حرب دارفور وعلي راسهم الجنرال البشير لمحكمة الجنايات الدولية.

رغم الإخفاقات التي تخللت عمل الحكومة الانتقالية الراجعة لأسباب بعضها موضوعي وبعضها ذاتي والبعض الاخر بفعل عرقلة المكون العسكري وعناصر النظام السابق المتغلغلين في القضاء والخدمة المدنية والأجهزة الأمنية والعسكرية وحتى في القطاع الخاص الا انها استطاعت التقدم في عديد الملفات بالغة الأهمية، وأهمها الاقتصادية والدبلوماسية والقانونية.

عام 2021م بدأت الضغوط تتزايد علي المكون العسكري لإكمال عملية ولاية الدولة علي المؤسسات الاقتصادية للجيش والامن والدعم السريع والرقابة عليها وظهور بوادر الانفراج علي ملف تكوين المجلس التشريعي والضغط لتدشين عمليات العدالة الانتقالية والمحاسبة علي الانتهاكات السابقة بداية بـ”مجزرة الاعتصام” وتصاعد المطالبة بإصلاح القطاع الأمني والعسكري وتصفية وجود عناصر النظام السابق داخله وتوحيد الجيش ودمج الدعم السريع وبسط السيطرة المدنية على الشرطة والامن وقرب موعد تسلم المدنيين لرئاسة مجلس السيادة حسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية.

وهو ما دفع الجنرال البرهان وحميدتي للإعداد لانقلاب، بمشاركة ودعم بعض الإدارات الاهلية والقوي المدنية والحركات المسلحة المتحالفة معهما باغلاق الشوارع الرابطة بميناء بورتسودان وبعض حقول البترول وتصعيد الانفلاتات الأمنية في العاصمة ومحاولة الضغط علي حمدوك للقيام بتغيير وزاري يطيح بالوزراء المنتمين للحرية والتغيير وخلق جسم موازي لها ثم أخيرا اعتصام القصر الذي أظهرت عديد الدلائل انه كان ممولا من قبلهما والذي اعقبه تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2019م واعتقال رئيس الوزراء وعديد قيادات الحرية والتغيير وعلى رأسهم بعض الوزراء المؤثرين.

على إثر المقاومة الشعبية السلمية التي راح ضحيتها ما يزيد عن المئة وخمسين من المحتجين العزل نتيجة القمع المفرط وكثمرة للعمل السياسي الحثيث للقوي المدنية والضغط الدولي المتصاعد ظلت حكومة الانقلاب تراوح مكانها في ازمة مستفحلة. فبجانب العزلة الشعبية والخارجية المتزايدة ظهرت معضلة استعانة البرهان بعناصر النظام السابق وعمله علي نقض غزل عمليات التفكيك وإعادة تمكينهم من مفاصل الدولة والاهم تعزيز وجودهم الطاغي في الجيش والقطاع الأمني وهو ما صعد الخلاف مع حميدتي الساعي بدوره الانفراد بالسلطة وتعزيز قوته العسكرية ونفوذه واستقلاله السياسي والاقتصادي- الذي تجدر الإشارة الي انه تضاعف منذ سقوط البشير بفعل دعم البرهان نفسه والجنرالات المحيطين به وتمكينهم له الذي وصل الي حد الغاء المادة التي تعطي قائد الجيش صلاحية الدمج في قانون الدعم السريع لعام 2017م-، وهو ما ادي في نهاية الامر الي شلل أجهزة الدولة بسبب تعدد مراكز اتخاذ القرار والفشل في شرعنة الانقلاب رغم المناورات المتكررة والعجز عن تعيين حكومة ورئيس وزراء ما ادي الي تزايد خدة الخلاف بين جنرالات الجيش والدعم السريع والتصعيد العسكري والتمركز في المواقع الاستراتيجية، خصوصا في الخرطوم ثم الانفجار الكبير في 15 ابريل 2023م بعد توقيع كلا الجنرالين علي الاتفاق الاطاري ديسمبر 2022م واتفاق أسس ومبادئ الإصلاح الأمني والعسكري مارس 2023م وقبل أيام من الموعد المحدد للتوقيع علي الاتفاق السياسي النهائي الذي ينص صراحة عن خروج المنظومة الأمنية والعسكرية من النشاط السياسي والاقتصادي والتأسيس لسلطة مدنية خالصة وتدشين عمليات الإصلاح وعلى رأسها اصلاح الجيش وتوحيده عبر ادماج الدعم السريع.

يجب الإشارة أيضا إلى أن أبرز المقاومين للاتفاق السياسي الذي كان في مراحله الختامية هم عناصر النظام السابق وعديد تصريحات قياداتهم البارزة والموثقة قبل نشوب الحرب تتضمن تهديدا صريحا بإشعالها، كما ان المنحي الرافض لتوقفها الان والدلائل علي دخول المليشيات التابعة لهم في المعارك منذ ايامها الأولى وابرزها ما يسمي بـ”كتيبة البراء بن مالك” يؤكد علي ضلوعهم فيها وعملهم لعرقلة أي مساع لإيقافها.

بالمقابل فان المعطيات تثبت ان الحماس الذي ابداه حميدتي للعملية السياسية والاتفاق الاطاري، آخذين في الاعتبار نمط سلوكه الثابت منذ سقوط البشير، هو على الأرجح خطوة تكتيكية كرد فعل للتهديد الذي يمثله الجيش المتمسك بالحكم والمسيطر عليه من قبل عناصر النظام السابق، وتمهيدا للانفراد بالسلطة مستقبلا اما عبر المناورات والمال السياسي او مباشرة عبر انقلاب عسكري متى ما سنحت الظروف المناسبة.

لإكمال الصورة يجب التطرق ايضا إلى الصراع المحتدم بين جنرالات الجيش والدعم السريع علي الثروة والموارد والسيطرة علي تركة النظام السابق كأحد مسببات الحرب الدائرة حاليا.

في مقتطف من تقرير بعنوان “حاميها حراميها” Breaking the Bank المُعَد في مركز دراسات الدفاع المتقدمة من قبل كل من الصحفيين كاثرين كارتييه، ايفا كاهان واسحق زوكن، والمنشور على موقعه الاسفيري C4ADS . org يوم 29 يونيو 2022م يصف الوضع في السودان:

(يقوم تكتل احتكاري قمعي من الجهات الفاعلة التابعة للدولة باستخدام سيطرته على الاقتصاد لعرقلة طموحات السودان الديمقراطية. وهو يشكل “دولة عميقة” داخل السودان، ويعمل من خلال مؤسسات الدولة لإثراء أعضائه والنأي بهم عن المساءلة).

كما يعدد التقرير شبكة الشركات والبنوك والمؤسسات الربحية التي يسيطر عليها الجنرالات وهو ما يحيلنا الي الاستنتاج المنطقي بان احد اهم اسباب انقلاب 2021م وما تبعه من حرب حاليا هو محاولات فرض السلطة المطلقة بالقوة للمحافظة علي المكتسبات غير المشروعة والامتيازات الهائلة العائدة للنشاطات التجارية الاحتكارية الرسمية والتهريب والفساد المالي والاداري داخل النطاق الاقتصادي للقطاع الأمني والعسكري والذي بلغ حسب عديد التقديرات 30% من الناتج الإجمالي المحلي للشركات والمؤسسات المرتبطة بالجيش وجنرالاته وحوالي 12% للشركات والمؤسسات المرتبطة بالدعم السريع وآل دقلو واذا اضفنا إلى ذلك نشاط شبكات المصالح المرتبطة بالنظام السابق نصل الي محصلة سيطرة هذا الثلاثي علي الاقتصاد بصورة شبه كلية.

ربما من اهم القطاعات التي تعبر عن الخلفية التنافسية علي الموارد لحرب 15 ابريل هو قطاع تعدين الذهب، فالدعم السريع بما لديه من نفوذ يشبه الدولة داخل الدولة ظل يدير نشاطه خارج القنوات الرسمية لسنوات عديدة دون حصول الدولة علي العائدات المجزية التي فرضتها السياسات والقوانين، وعلى إثر توسعه في مناطق اخري كالشمالية ونهر النيل وشرق السودان عبر توفير الحماية لبعض الشركات في القطاع الخاص حتي تقوم بنشاطها خارج مظلة الدولة ورقابتها مقابل اقتطاع نسبة من الإنتاج.

انتهج الجيش سياسة مضادة قبل حوالي العام ونصف لإزاحة الدعم السريع من نشاط التعدين في هذه المناطق وعمد لتحقيق ذلك علي الدخول في نوع مشابه من الشراكات مع القطاع الخاص، ومع انتهاج الدولة لسياسات أدت الي ارتفاع كلفة مدخلات الإنتاج وزيادة الرسوم تدهور القطاع الخاص للتعدين وخرجت عديد الشركات من السوق بل انتهي بعديد من المستثمرين المتعثرين في السجون، ودخل كل من الدعم السريع والجيش كمؤسسة او افراد (جنرالات) وبعض القوي المسلحة الموقعة علي اتفاق جوبا ايضا (جبل ايس في شرق السودان نموذجا) في التنافس علي بسط سيطرتهم علي مناطق التعدين وإدارة سلسة الإنتاج بكاملها حتي مرحلة التصدير, والتي يتم جزء هام منها خارج الأطر القانونية ولصالح دول ضالعة اليوم في الحرب مباشرة. كما ان هنالك عديد المؤشرات لارتباط نشاط التعدين في الذهب بعمليات غسيل أموال ضخمة عبر السيطرة الكاملة على بنك السودان المركزي وهو امر يحتاج لمزيد من التحقيق والأدلة.

بعض القوى الإقليمية والدولية الداعمة لطرفي الحرب لعبت أدوارا سلبية للغاية خلال فترة ما بعد ثورة ديسمبر وحتى الآن محفزة العسكريين (جيش او دعم سريع) علي السيطرة علي مقاليد الحكم وموفرة لهم الغطاء الدبلوماسي والدعم الاستخباراتي والعسكري والدعم اللوجستي قبل وبعد اندلاع الحرب.

احدي الظواهر التي ساهمت بدرجة او بأخرى ايضا للوصول الي الوضع الحالي والتي يجدر الإشارة اليها في سياق المقارنة مع التجربة الليبيرية هو طبيعة اتفاقيات السلام المبرمة عبر التاريخ السوداني مع القوي الحاملة للسلاح، والتي قد تفسر التموضع السياسي لبعض منها اليوم وموقفها العدائي تجاه القوي المدنية الديموقراطية وبالمقابل المتحالف والمتصالح مع العسكريين ومع عناصر النظام السابق.

وهو ما اسميه معضلة “الدائرة الجهنمية”، فباستثناء تلك التي ظلت أداة في يد النظم الديكتاتورية- الدعم السريع كأسطع الأمثلة- حملت كثير من هذه القوي اجندة لمظالم اجتماعية حقيقية في بداياتها، لكنها في غالب الحالات فشلت في التحول الي ثورات ريف ناجحة، وظلت غير مستقرة وعاجزة عن السيطرة علي رقعة جغرافية معينة، تستطيع ان تقيم فيها دولة موازية وتستغل مواردها الطبيعية ومن ثم تسعي للتوسع حتي السيطرة علي كامل الدولة كما حدث في غينيا بيساو (اميركال كابرال) ويوغندا (موسيفيني) واثيوبيا واريتريا (ملس زيناوي واسياس افورقي)، واعتمدت للحصول علي الموارد بصورة كبيرة علي الدعم الخارجي وعلي القتال مقابل المال في دول الجوار، وتقلصت طموحات عدد منها الي حدود طموحات زعمائها النخبوية متجاوزة تطلعات وامال المواطنات والمواطنين من أصحاب المصلحة علي الأرض التي تدعي تمثيلهم. ومن ثم حولت قوتها القتالية الي ثقل على طاولة المفاوضات مع الحكومات المركزية- العسكرية في اغلبها- للحصول علي نسبة من السلطة والوصول بذلك إلى ما يسمى بـPay Roll Peace Agreements او اتفاقيات هي في جوهرها عمليات تسوية وتقاسم سلطة بين النخب رغم ما قد تحويه من نصوص ممتازة ووعود مثالية ولكنها غير عملية او قابلة للتنفيذ. فالوصول الي السلطة السياسية عبر اتفاقيات اقتسام السلطة بهدف الحصول على موارد كافية لتمويل تعزيز القوة الضاربة التي تحافظ على نفس هذه السلطة يؤدي إلى الحاجة للسعي للحصول على مزيد الموارد عبر الحصول على مزيد من السلطة.. وهكذا.. في دائرة مستمرة مفرغة نهايتها الحتمية، في ظل فشل كل الترتيبات الأمنية في تاريخ السودان, هي الانفجار.

بالرجوع للراهن السياسي هنالك جهد كبير مبذول من قبل طيف واسع من القوي السياسية المدنية أبرزها “الجبهة المدنية لإيقاف الحرب “والتي أطلقت حملة “#لا للحرب” وهي تعمل بالتوازي والتعاون مع بعض القوي الدولية والإقليمية المؤثرة على دفع الأطراف المتحاربة للدخول في عملية تفاوضية تفضي إلى وقف دائم للقتال ومن ثم بداية عملية سياسية تؤسس لسلطة انتقالية.

وبالمقابل هنالك مؤشرات واضحة لمحاولة بعض الجهات دفع البرهان لتكوين حكومة يسيطر عليها عناصر النظام السابق بهدف فرض وجودهم كطرف اصيل في أي اتفاقيات قادمة لاقتسام السلطة.

إيقاف الاقتتال الآن مرتبط بديناميات الحرب وقوانينها الداخلية وهو ما يتطلب حسب تجارب الحروب الاهلية المشابهة في العالم الي وصول الأطراف إلى ما يسمى بمرحلة “النضج” Ripeness قبل الاستعداد للدخول في مفاوضات جادة، وهي المرحلة التي يصل فيها الطرفين الي القناعة التامة باستحالة تحقيق تغيير كبير في موازين القوة وأن استمرار الحرب لا يضيف الا مزيدا من الخسائر المادية والبشرية للطرفين… وهو ما يعني صعوبة توقع مدي زمني دقيق لذلك في الوقت الحالي.

واختتم هذه الجزئية برؤية تشاؤمية لمالات الأمور، ففي ظل الوضع العسكري العالق وإصرار عناصر النظام السابق على استمرار الحرب بما انها خيارهم الوجودي الأوحد واستمرار سيطرة كل جانب علي مساحة جغرافية واستغلاله لمواردها واضمحلال الفضاء المدني وعسكرته ومناورات البرهان لتعيين حكومة امر واقع وتهديد حميدتي بفعل المثل وتزايد التدخل الإقليمي والدولي الداعم لكلا الطرفين فان الحرب الحالية مرشحة للاستمرار وربما سيؤدي ذلك الي تفتيت داخلي بين عناصر الجيش الأكثر مهنية وتلك المسيسة والمؤتمرة بتوجيهات قيادات النظام السابق كمثال او بعض مكونات الدعم السريع ذات الخلفية القبلية او الجهوية او دخول قوي مسلحة اخري في دائرة الاقتتال. كل ذلك مقترنا بازدياد معدلات الاستقطاب الجهوي والإثني سيؤدي علي الأرجح الي تقسيم السودان إلى أربع أو خمس مناطق نفوذ لكل منها ما يشبه السلطة التنفيذية “حكومة امر واقع” وهو ما يعني ان اي اتفاق مستقبلي مبني على مبدأ اقتسام السلطة Power Sharing سيؤدي إلى استمرار الصراع وترسيخ واقع تقسيم السودان وما يترتب علي ذلك من اثار مروعة ضحاياه الأساسيين هم المدنيون.

3-            الغاية المراد الوصول اليها:

وقف القتال ثم العمل الوصول الي سلام والتأسيس لسلطة انتقالية مدنية قادرة علي تحقيق مهامها وعلي راسها مخاطبة الازمة الإنسانية غير المسبوقة واحلال السلام وتدشين عمليات الإصلاح المختلفة وعلي راسها اصلاح المؤسسة العسكرية بما يتضمنه ذلك من القضاء علي ظاهرة تعددها وتسييسها ثم الاعداد لانتخابات تفتح الطريق لبداية عملية تحول مدني ديموقراطي حقيقية.

ومن ثم الشروع في عملية البناء الوطني والتي يمكن ايرادها باختصار في:

الاتفاق علي ركائزه الأساسية الثلاثة وهي:

أولا:

إنشاء دولة مدنية ديموقراطية فدرالية ذات سيادة تلتزم بفصل السلطات الثلاث، متحررة ومستقلة في اتخاذ قرارها في الشؤون الخارجية، مالكة لناصية سيادتها الوطنية وقادرة على ترسيخ هذه السيادة داخليا، عبر تأكيد حقها في إصدار القوانين والتشريعات المتعلقة بكل ما يدخل في نطاق حدودها الجغرافية سواء المواطنين أو السياسات الاقتصادية والاجتماعية أو الثروات والموارد الطبيعية.

دولة ذات سيادة داخلية تعبر عن جميع المواطنات والمواطنين ويدين لها الافراد والجماعات بالولاء كأولوية تسبق جميع اشكال الولاءات الدينية والقبلية والعرقية والطائفية أو غيرها، ويخضع لسلطتها طوعاً جميع الأفراد والجماعات خضوعا يجسده احتكارها للعنف القانوني ووجودها النافذ- عبرهم- في مستويات السلطة السيادية والتشريعية، التنفيذية والقضائية، وهذا يقابله بالضرورة تمليكها لجميع الأفراد والجماعات المنتمين إليها القدرة في الترقي والحراك الاجتماعي والسياسي الحر والمشاركة في إدارة أجهزة الدولة علي قدم المساواة، بحيث يصبح الانتماء للدولة هو الانتماء الأول العابر لكل الانتماءات الثانوية الأخرى دون تقويضها.

ثانيا:

بلورة السياسات الاجتماعية والاقتصادية الضرورية لتحقيق التنمية العادلة والمستدامة، المحافظة على البيئة، وتحديث هياكل الاقتصاد والمجتمع واستيعاب التطور المعرفي، التكنلوجي والرقمي، وترميم الاقتصاد الريفي وبناء السوق المحلية وتشجيع الاندماج والانصهار بين المناطق الجغرافية المختلفة لكسر احتكار العمل القائم علي أسس عرقية- إثنية او جهوية ليقوم بدلا عن ذلك علي أساس الكفاءة والجدارة ويسهم في البناء الموضوعي لكيان اجتماعي مقتدر يقف علي طرفي نقيض من بِنى المجتمعات التقليدية لما قبل الحداثة.

ثالثا:

اعتماد قومية أجهزة الدولة وعدالة التنمية وتوازنها واستدامتها والعمل على تزايد معدلاتها أساسا لبلورة ذاتية وهوية مشتركة للجموع والأعراق والثقافات داخل نطاقها الجغرافي، بحيث تجد كل الجماعات نفسها مشاركة في حركة ديناميكية تتفاعل عطاءً وأخذاً لإثراء الهوية الوطنية الجامعة دون تحجيم لهوياتها الذاتية المتميزة أو نفي لها، ودون طغيان ثقافة علي اخرى باستغلال أدوات السلطة لفرضها بالقوة الجبرية عبر أجهزة الدولة، واعتبار مسالة الذاتية والهوية جزء من سيرورة تاريخية وطرح لا يفصل بين الأساس الموضوعي للتنمية والأساس القيمي والمفاهيمي للدولة المدنية الديموقراطية.

ذلك ضمن رؤية شاملة للتحول المدني الديموقراطي كحزمة عمليات تَحوُّل إصلاحية وتحديثية ضرورية متدرجة ومستمرة, متكاملة ومتداخلة تفي بتحقيق شروط الركائز الثلاث لمشروع البناء الوطني وذلك بانتهاج التحالفات المدنية لحشد أكبر قاعدة سياسية واجتماعية داعمة للرؤية كما علي الواقعية السياسية التي توازن بين الوصول إلى الأهداف في أقصر مدي زمني ممكن وتقليل الكلفة البشرية والمادية اللازمة لذلك. وهي حزمة تحولات تمثل في مجموعها شروط الركائز الثلاث وتشمل:

التحول السياسي:

ذلك يتحقق أولا بترسيخ دعائم السلام وتوفير الامن بمخاطبة جذور أسباب الحرب والنزاعات وتحقيق العدالة ورتق النسيج الاجتماعي وثانيا بالنجاح في ترسيخ مبدأ التبادل السلمي للسلطة وفي تجاوز نمط اقتلاع السلطة من قبل نخبة من العسكريين والمدنيين عبر الانقلابات العسكرية وتقويض اركان الدستور، وثالثا بتطوير العملية السياسية عبر بناء المؤسسات الديموقراطية المستقلة المسؤولة عن تنظيم وضبط الجانب القانوني والاجرائي لعملياتها والياتها المختلفة، ذلك بعد تحصين الفضاء المدني بتنقيته من كل تجليات العنف المحتمل عبر الحوار السليم وتعظيم سبل التوافق في اطار نظام حكم مدني ديموقراطي ينسجم مع الواقع الثقافي، الاجتماعي، السياسي والاقتصادي للسودان.

التحول التشريعي:

الوصول الي دستور دائم يمثل عقدا اجتماعياً متوافقا عليه من الجميع عبر عملية تفاوضية شاملة لا تستثني أحدا، وإعادة صياغة التشريعات والقوانين وتأسيس منظومة عدلية ذات كفاءة على أسس مبادئ دولة المواطنة المتساوية وسيادة حكم القانون وصيانة حياة وكرامة المواطنات والمواطنين واحترام حقوق الانسان.

تحول المجتمع المدني:

توسيع القاعدة المجتمعية المنحازة للتحول المدني الديموقراطي والواعية بأهدافه، وذلك بالعمل الدؤوب علي تطوير منظومات المجتمع المدني المختلفة والتأطير التشريعي لعملها وبناءها علي أسس ديموقراطية سليمة بما فيها الأحزاب السياسية والنقابات الفئوية والاتحادات المهنية والجمعيات التعاونية والإدارات الاهلية والمجموعات المطلبية، لزيادة فاعليتها ومشاركتها في الحراك الاجتماعي والسياسي علي حد سواء مكملة لدور المؤسسات الرسمية رقابة وتوجيها وتحفيزا وتقويما لزيادة حساسيتها تجاه كافة قضايا البناء الوطني.

التحول الاقتصادي:

التأسيس لاقتصاد إنتاجي متنوع ذو قاعدة واسعة، مستقلة نسبيا عن أجهزة الدولة وشاملة للنشاطات الرعوية والزراعية والصناعية والحرفية والمعلوماتية والمعرفية والمالية والخدمية والثقافية والفنية، اقتصاد متناغم مع مبادئ السوق الاجتماعي واطر التنمية العادلة المستدامة, يعمل ضمن منظومة الاقتصاد العالمي كعنصر فاعل ومتناغم وذلك عبر تبني سياسات واقعية تبدأ بمخاطبة الازمات المستفحلة واستقرار الاقتصاد الكلي والإصلاح الهيكلي والقطاعي كخطوة اولي اعدادا للانتقال الي مرحلة تبني معايير اقتصاد الدولة التنموية قبل الوصول الي مرحلة التأسيس لاقتصاد سوق-اجتماعي في اطار دولة صناعية متقدمة.

التحول المؤسسي:

ويشمل اعادة بناء واصلاح وتطوير المؤسسات العامة للدولة، مدنية وعسكرية، التي تمكّنها من القيام بكل واجباتها المنصوص عليها في الدستور، مشكّلة بذلك اساسا لاستقرار عام لا يتأثر بتغيُّر الحكومات او الحاكمين وتعبر كذلك عن مبدأ قوميتها وقدرتها الوقوف علي مسافة واحدة من كل الافراد والجماعات دون تمييز، وعلي  إقامة منظمات مركزية مستقلة ومتمايزة، تمكنها من السيطرة على أقاليمها الجغرافية، والهيمنة على التنظيمات شبه المستقلة، ومن هذا المنظور نري ان عملية الاصلاح والبناء والتحديث تتجلي في ثلاثة مستويات، تشريعي، هيكلي وثقافي يجب ان تتوافر في كل منها معايير الشفافية والمساءلة والرقابة الشعبية والحوكمة الرشيدة  المتسقة مع الدستور والقوانين المحلية والدولية ومعطيات الواقع.

التحول الثقافي:

لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق نصراً حاسماً في المعركة ضد الفساد والاستبداد، لصالح الديموقراطية، دون إدراك أنَّ الحاضنة الرئيسية للديموقراطية هي الثقافة المجتمعية التي تقرُّ بمشروعية التمايز والاختلاف وتعترف بأنَّ جميع الناس أحرارٌ ومتساوون.. ولذلك فإن مهمة إنجاح التحول الديموقراطي واستدامته تتطلب عمليات تحول ثقافية عميقة تعمل علي تصفية كل سمات الفساد والاستبداد والاستعلاء ومظاهره و ترسيخ الوعي بالقيم والثقافة الديموقراطية المتمثلة في حق الأفراد في الاختيار والتعبير والاعتقاد عبر اليات متعارف عليها ضمن عقد اجتماعي متوافق عليه، والتي يمثل حرية التعبير والحركة والتملك أعمدتها الأساسية ضمن اطار من سيادة حكم القانون وتعميق لثقافة السلم المجتمعي وقبول الاخر والاحتفاء بالإرث الثقافي لكل المجموعات السكانية المتباينة والدعم العادل والتشجيع للإنتاج الفكري والفني، والذي يمثل الحوار البناء والسليم مصدر حركيتها ونمائها والتعليم والتوعية والممارسة رصيدها المتجدد.

4-            كيفية تحقيق الغاية:

واضح من الاستنتاجات السابقة وعلي ضوء المقارنة بين التجربة الليبيرية والحالة السودانية ان تعيين حكومة امر واقع الان من قِبل أي من الأطراف او الوصول الي اتفاق سلام يتضمن اقتساما للسلطة بين الأطراف المتحاربة سيؤدي لا محالة إلى تعقيد الوضع وتمدد امد الصراع وتوسع دائرة الانتهاكات.

فالخيار المتاح اليوم هو وقف الاقتتال كأولوية عاجلة ومعالجة الوضع الإنساني والوصول الي اتفاقية سلام تتضمن تصميم عملية سياسية كالية لتكوين السلطة المدنية، يستبعد من المشاركة فيها أي من المكونات العسكرية او شبه العسكرية الضالعة في الحرب، وتمثل أوسع قاعدة سياسية واجتماعية ممكنة، لا تستثني أيا من أصحاب المصلحة، ذات صلاحيات واسعة وقادرة علي بسط سلطتها علي القطاع الأمني والعسكري وعلي عمليات استغلال الموارد والنشاط الاقتصادي وتدشين عمليات إصلاحه وإعادة بنائه الضرورية العاجلة وتدشين عملية مصالحة وطنية شاملة وعدالة انتقالية وعمليات الإصلاح السياسي الاقتصادي والاجتماعي الطويلة، وبالتوازي مع ذلك اعداد دستور دائم وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة تنتج حكومة ذات شرعية كاملة… كل ذلك في زمن وجيز.

5-            دور المجتمع الإقليمي والدولي:

للمجتمع الدولي والإقليمي ممثلا في الأمم المتحدة والدول النافذة والاتحاد الافريقي دور مركزي في كل مراحل الحل المرتقب، فبالقيام بدوره الأصيل في حماية المدنيين الذين يدفعون الثمن الأعلى حالياً، والتي عجزت الدولة عن حمايتهم، وذلك بتبني سياسات تهدف الي وقف الحرب ومحاسبة الجناة ودعم القوي المدنية لاستعادة مسار الانتقال الديموقراطي.

وهو ما يمكن أن يتحقق بالقيام بـ:

– حظر الأسلحة

– السيطرة علي عمليات تصدير الذهب بعمليات مشابهة لـ”ماس الدماء” في ليبيريا

– الضغط الدبلوماسي والاقتصادي على الفاعلين الدوليين والاقليميين الذين يلعبون دورا سلبيا في هذا الصراع عبر الدعم المالي واللوجستي لطرفي الحرب.

– المساهمة في محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وتقديمهم للعدالة.

– توفير الضمانات والدعم المادي لعمليات السلام.

– نشر قوات حفظ سلام في المدن الرئيسية.

– دعم عمليات الإغاثة والعون الإنساني وتعويض المتضررين.

– دعم العملية السياسية والفترة الانتقالية والاشراف علي الانتخابات.

وهو ما يمثل فرصة سانحة للاتحاد الافريقي من التحول من دوره الحالي الأقرب الي ناد للحكام الديكتاتوريين الافارقة إلى فاعل حقيقي عبر لعب دور طليعي بالمشاركة مع الأمم المتحدة والقوى الدولية والإقليمية الصديقة في إحلال السلام في السودان وتحفيز عمليات التحول المدني الديموقراطي المختلفة والمتشابكة.

6-            خلاصة:

المحصلة النهائية لهذه المداخلة…

اولا

“ان تكوين حكومة امر واقع من أي واحدة من الجهات حتي ولو تم الاعتراف بها دولياً، أو تكرار نمط اتفاقيات تقاسم السلطة سيزيد الوضع تعقيدا ويؤدي الي تطاول امد الحرب وتوسع دائرة الانتهاكات.”

ثانيا

“ان الالية الوحيد المُفضية الي حل مستدام هو عملية سياسية تشارك فيها مكونات مدنية تمثل أكبر قاعدة سياسية واجتماعية ممكنة وتؤسس لسلطة انتقالية ذات سلطات واسعة ومهام محددة مدعومة من المجتمع الاقليمي والدولي ومدى زمني محدود”.

2 أكتوبر 2023م

تاريخ الخبر: 2023-10-07 15:23:18
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 52%

آخر الأخبار حول العالم

عنابة: استحداث لجنة لمتابعة تهيئة الواجهة البحرية

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:27
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 65%

ميلة: بعثـة من مجلـس الأمـة تعايـن مرافـق واستثمـارات

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:25
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 61%

أكّدت أن أي عملية برية ستؤدي إلى شل العمل الإنســاني

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:31
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 65%

والــي أم البواقي يكشف: مسـاع للتكفـل بالمستثمريـن عبـر 17 منطقـة نشـاط

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-06 03:24:28
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية