مدينة الطلبة
مدينة الطلبة
كان هذا اللقب يطلقه زملاؤنا أبناء القاهرة في الجامعة علي الطلبة سكان المدينة الجامعية وهم بالطبع قادمون من شتي أنحاء الجمهورية فلم يكن التوزيع الجغرافي علي الخريطة بعد ولأنه ببساطة مستحيل لأن معظم محافظات مصر لم يكن بها جامعات فلا يوجد في كل صعيد مصر غير جامعة أسيوط وفي كل الدلتا ووجه بحري إلا جامعة المنصورة وبعض كليات في جامعة الزقازيق وطنطا.. وجامعة الإسكندرية غربا أما شرق الدلتا فلم يكن بها أي جامعة.. فكانت جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر تستقبل العدد الأكبر منالطلاب.. ولاشك أن المدينةالجامعية كانت من نعم الله علي محدودي الدخل فالإقامة في غرفة منفصلة شاملة 3 وجبات فقط نظير خمسة جنيهات ونصف أما نحن المهجرين منطلبةسيناء أيام الاحتلال الإسرائيلي كانت مجانا بموجب خطاب من مكتب المحافظة المؤقت الكائن بحلمية الزيتون.. ولا أريد أن أعيد حكايتي مع المدينة الجامعية حيث تعثرت بسبب موظف بيروقراطي غلب عبد الروتين بمراحل حيث وصفني بأنني فلسطيني لأن شهادة الثانوية العامة التي حصلت عليها أثناء الاحتلال الإسرائيلي مكتوب عليها الإدارة المدنية لقطاع غزة وسيناء وتجاهل أنني أحمل بطاقة شخصية مصرية ودوخني عامين كاملين إلي أن انتهي بي المطاف إلي د.صوفي أبوطالب رئيس مجلس الشعب آنذاك بواسطة النائب السيناوي الأصيل المرحوم سالم اليماني.. المهم أن الطالب المديني كان يتميز بأنه بينه وبين الكلية خطوتين وعلي أقصي تقدير القصر العيني علي بعد محطتين أتوبيس.. ولأننا نمكث في الكليات حتي ساعة متأخرة من النهار فكان البعض يحمل في جيبه الخلفي للجينز أو في شنطة محاضراته ملعقة صغيرة فلم يكن اختراع الملاعق البلاستيكية قد ظهر حيث ندخل من باب المدينة الجامعية مباشرة إلي المطعم الذي يقع علي يمين المدخل الرئيسي فنتناول طعام الغداء ثم نذهب إلي السكن حيث الراحة والمذاكرة أو ربما قليلا من النوم لشحن البطاريات للسهر وقد يكون السهر للمذاكرة للدحيحة أو للصرمحة والفسح لمن يؤجلون عمل اليوم إلي الغد ثم بعد غد.. ولكن الظاهرة التي بدأت تسري بين طلاب الجامعة وتنطلق من المدينة الجامعية هي حركة الجماعة الإسلامية وتغيير شكل الملابس إلي الجلباب القصير وأسفله بنطلون أو بدون مع إطلاق اللحي والتفريق في المدرجات بين البنين والبنات والدعوة إلي وقف الحفلات وهكذا انتشرت كالنار في الهشيم وبدأت كرة الثلج تكبر إلي أن أصبحت حركة معادية للنظام.. وبدأت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية داخل الحرم الجامعي تزداد يوما بعد يوم وفي مساء شتوي سمعت صوت هتافات عالية تعلو شيئا فشيئا.. أمر غريب وقد أرخي الليل سدوله.. ونزلت من غرفتي إلي بهو المدينة الجامعية والتي تضم 14 مبني وفي كل مبني خمسة أدوار وكل دور ثلاثة أجنحة وفي كل جناح 12 غرفة تقريبا.. وكان الهتاف هذه المرة يا درويش يا درويش.. القلقاس مبيستويش.. وكان د.محمود درويش هو نائب رئيس الجامعة والمسئول عن المدنالجامعية وقتها.. ولأن باب المدينة الجامعية كان مفتوحا ورجال الأمن مجرد موظفين لا يمنعون أحدا من الدخول وخاصة أن أبواب ملاعب الجامعة كانت ملتصقة بالمدينة الجامعية وأحيانا يتم غلق الباب الخارجي فيستخدم رواد الملاعب الباب الجانبي المفتوح علي المدينة الجامعية للخروج وبالطبع كانت الملاعب متاحة للجنسين.. هذا غير أن المبني الرئيسي لإدارة الشباب موجود داخل المدينة الجامعية ويتردد عليه الطلبة والطالبات لممارسة بعض الهوايات قبل أن تدخل علينا ثقافة الوهابية والتي تخلي عنها من صوروها لنا الآن.. ووقفت غير بعيد أرمق المظاهرة والهتافات.. وسمعت إحدي الطالبات تقول الفلاحين صحيوا وبيطالبوا بحقوقهم.. حيث كما أسلفت أن سكان القاهرة كانوا يعتبرون سكان هذا المكان من الفلاحين القادمين إلي المدينة.. واستمرت المظاهرة إلي منتصف الليل إلي أن حضر الدكتور إبراهيم بدران رئيس الجامعة يرتدي معطفا أسود ثقيلا من الصوف وكوفية والتف قادة المظاهرة حوله يشتكون من سوء حالة الغذاء المقدم ووعد بتحسين الموقف وأن يأتي بنفسه ليتناول الغداء مع جموعالطلاب.. وبالفعل تغير نائب رئيس الجامعة أو خرج للمعاش وجاء الدكتور إبراهيم العدوي الذي كان يحضر يوميا يقف في الطابور ويتناول الغداء معنا من وسط الطعام المقدم لنا.. تخيل يا مؤمن ثلاث وجبات وإقامة بخمسة جنيهات ونصف وكمان مكنش عاجبنا وبنعمل مظاهرات.. رحم الله زمن الستينات والسبعينات ومعه قادة ورجال وفوا وصدقوا وانتقلوا إلي رحاب ربهم نحسبهم علي صلاح.