مراسل بي بي سي من غزة: "نهرب من موت إلى موت آخر"

  • Author, عدنان البرش
  • Role, مراسل بي بي سي عربي – غزة

أنا من سكان جباليا شمال قطاع غزة، أو بالأحرى كنتُ من سكان جباليا. يوم الجمعة 13 تشرين الأول/أكتوبر أخليت وعائلتي منزلنا واتجهنا جنوباً. الجيش الإسرائيلي قال إن الجنوب سيكون منطقة إنسانية آمنة، لكن ذلك لم يكن صحيحاً.

استغرقت رحلتنا إلى خان يونس أربع ساعات. كان الطريقُ مزدحما بعشرات آلاف الهاربين مثلنا.

على مدى أسبوع في الجنوب، رأيتُ بعينيَّ أعمدة الدخان المتصاعدة، سمعت دويَّ الانفجارات، وقصصاً عديدة، من شهود عيان، عن استهداف القصف لمنازل وقتل عائلات بأكملها. تقول إسرائيل إن مناطق الجنوب آمنة لكنها تقول أيضاً إنها ستستهدف حركة حماس أينما وجدت، ما يجعل الهروب صعباً.

أقمنا في بيتٍ ليس بيتَنا، مع زوجتي وبناتي الأربع وابني، ومعنا أيضا أخي وزوجته وثلاثة من أولاده. كنّا اثني عشر فرداً في بيت من غرفتين وحمام، من دون ماء، أو كهرباء أو أي خدمات أخرى.

تابعت عملي في التغطية الصَحافيّة كالعادة. بعد أيام قليلة، اتصلَ شخصٌ قال إنه من الجيش الإسرائيلي بصاحب المبنى ليخبره أن الجيش سيقصف المبنى. هكذا من دون تحديد أي مدة تقريبية أو مهلة للإخلاء. لم نفهم السبب، لكن بحسب وصف الجيش، تبيّن أن الرجل مطلوبٌ لعلاقته بحركة حماس.

هربنا مجدداً، هذه المرة في أقل من خمس دقائق، ومن دون أي شيء من أغراضنا الشخصية التي أتينا بها من جَباليا.

" هلع وخوف وعدم تركيز"

تلقينا الإنذار في ساعات الظهر تقريباً، وكنت في موقع التصوير في مستشفى ناصر في المدينة. أفراد عائلتي وعائلة أخي كانوا كلهم في المنزل. لم نعرف متى يمكن أن يُقصف المبنى فأخلوا جميعهم الشقة بشكل جنوني. ركضوا إلى الخارج، غير مدركين في أي اتجاه يذهبون. قصفٌ آخر طاولَ المبنى المجاور في الحي ذاته. لطف الله بعائلتي، ولم يتعرض أحدٌ منهم لأذى.

تخطى البودكاست وواصل القراءة

بودكاست أسبوعي يقدم قصصا إنسانية عن العالم العربي وشبابه.

الحلقات

البودكاست نهاية

تملّكني الخوف، بل الهلع وعدم التركيز، لم أعرف إلى أين نذهب بالعائلة. اقترح أصدقاء أن نلجأ إلى مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الذي قد يكون أكثر أمانا، مثل المستشفيات. الألوف سبقونا إلى هناك، تجمعوا في المباني والأروقة والغرف وكل زاوية. لم نجد مكانا لنا.

لم أعرف ما الخيار الأفضل، كيف وإلى أين أذهب بعائلتي؟ هل أرجع إلى الخطر في جباليا؟ أم أبقى هنا في الجنوب رغم الخطر أيضاً؟ كنا نفر من موتٍ إلى موتٍ آخر. لا سنتمترَ واحداً آمناً في غزة.

في النهاية لم نذهب إلى أي مكان، أمضينا ليلتنا في الباحة الخارجية لمقر الهلال الأحمر، على الأرض. كان المشهد شديد القسوة. أراقب زوجتي وأولادي وأولاد أخي وزوجته على الأرض، من دون فراش، سينامون على ألواح من الكرتون. شعور عجز لا يمكن وصفه، نمنا من دون أغطية ولا أي شيء، هكذا في الهواء الطلق.

شعرنا بأننا نتجمد من البرد، خصوصاً الأولاد. لم أكن أتصور يوماً أن يصل بنا الحال إلى هذا الوضع. استعرنا بعض الأغطية من الموجودين هنا لنغطي أولادنا، ولم ننم طوال الليل. كيف ننام على أرض بهذه القذارة، تكسوها القمامة وتتطاير فوقها الحشرات، وفي السماء طائرات حربية هديرها العالي والمخيف لا يتوقف؟

"لم تغمض عيني ولا عيون عائلتي"

أعمل في مجال الإعلام منذ عشرين عاماً، لكنني اليوم لا أجد كلاماً لوصف ما نعيشه. لم تغمض عيناي ولا عيون أفراد عائلتي منذ البارحة.

طلعَ الصباحُ، إنه يومٌ جديد، ورحيلٌ آخر. تحركنا مجدداً، هذه المرة الى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة لتمكث عائلتي عند أحد الأصدقاء. قبل وصولنا بدقائق إلى المخيم استهدفت غاراتٌ جوية مخبزاً. كان المئات مصطفين خارجه لشراء الخبز، وقضى العديد منهم.

القصف الإسرائيلي على غزة يأتي كردٍّ على هجوم نفذته حركة حماس عليها في 7 أكتوبر/ تشرين أول وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 1300 شخص واحتجاز 199 شخصًا كرهائن. في الجانب الفلسطيني، قُتل في الغارات الإسرائيلية على غزة نحو 3500 وأصيب 12500، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

عائلتي لا تزال في مخيم النصيرات وأنا عدت إلى موقع عملي في مستشفى ناصر في خان يونس. لا أعرف إلى أين أتوجه بعد العمل، ولا أين سأنام الليلة.