إبراهيم حجازي … شاهد علي العمل الإعجازي (4)
إبراهيم حجازي … شاهد علي العمل الإعجازي (4)
أسقطنا يوم 6 أكتوبر 1973 في عشر ساعات, جبل خوف ظل قائما لسنوات عن أسطورة جيش لا يقهر, وقهرنا نحن مستحيلات ثلاثة: المانع المائي والساتر الترابي وخط بارليف, وقبل المضي في استعراض أحداث اليوم الثاني من الحرب دعونا نتعرف علي ردود فعل العدو علي الساعات الأولي للحرب:
** من المفارقات المضحكة أن الجنرال جونين في مكالمة هاتفية مع الجنرال مندلر في الثانية بعد ظهر 6 أكتوبر يؤكد له قراره السابق بعدم تحرك الدبابات الإسرائيلية قبل الرابعة بعد الظهر, فإذا بالجنرال مندلر يصرخ فيه: إن المصريين يهاجموننا الآن!!
** الجنرال إيلي زعيرا, مدير الاستخبارات الإسرائيلية يسجل في مذكراته: نشاط الطيران الإسرائيلي مقيد بسبب حائط الصواريخ المصري.. مجموعة عمليات سيناء كان لديها 280 دبابة يوم 6 أكتوبر ولا يتبقي لديها منها صباح اليوم التالي سوي 110 دبابات.. الخسائر فادحة ونتجت عن مواجهات في عمليات صغيرة مع المشاة المصريين وليس في معارك دبابات!!
** الجنرال ديفيد أليعازر رئيس الأركان الإسرائيلي يكتب في مذكراته: القتال بات ضاريا وشرسا, الدلائل كلها تشير إلي أننا نواجه خطة دقيقة محكمة لا نعرف مداها أو أبعادها.. أصبحنا أمام واقعين جديدين تماما في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أديا إلي سقوط جميع حساباتنا العسكرية: الواقع الأول أنه لم يعد هناك حاجز مائي يمنع تدفق المصريين إلي مواقع قواتنا في الضفة الشرقية للقناة, والواقع الثاني أن حصون خط بارليف المنيعة لم تعد لها فاعلية ولم تعد هي الخط الدفاعي المأمون بعد أن سقط معظمها.. إن ما يحدث بالفعل هو كارثة حقيقية.
** اجتمع مجلس الحرب الإسرائيلي في العاشرة مساء 6 أكتوبر ليتدارس الموقف… خطوط الاتصال بين تل أبيب وواشنطن مفتوحة.. كيسنجر وزير خارجية أمريكا ترك اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك واتجه إلي واشنطن ليرأس مجموعة عمل مهمتها تقدير الموقف الذي طرأ في الشرق الأوسط, مجموعة العمل أبلغت إسرائيل حتمية تحطيم رؤوس الكباري المصرية خلال الساعات الأولي من نهار 7 أكتوبر مع توجيه ضربة قوية لشبكة الصواريخ المصرية لإسكاتها… مع اضطلاع كيسنجر بمهمة منع مجلس الأمن من الانعقاد تحت أي ظرف إلي ما بعد 8 أكتوبر لإفساح الطريق للهجوم الإسرائيلي المضاد المخطط له 8 أكتوبر بهدف احتلال إسرائيل الإسماعيلية والسويس حتي ينشأ موقف عسكري جديد يوم 9 أكتوبر تستطيع إسرائيل بموجبه أن تملي شروطها, ويعرف المصريون أنهم أقدموا علي شيء سيندمون عليه باقي عمرهم.. فما الذي حدث ومن الذي غرق في الندم؟
** الساعات الأولي من 7 أكتوبر: العمل علي اكتمال عبور القوات المصرية إلي شرق القناة والانضمام إلي تشكيلاتها استعدادا لصد أي هجوم مضاد للعدو, مع الإسراع في احتلال خط المهمة المباشرة بمواجهة 170 كيلومترا وعمق من 12 إلي 15 كيلومترا مع اعتبار القنطرة شرق هي الهدف الأهم المطلوب تحريره.
** معارك 7 أكتوبر البرية: استمرار ملحمة تحرير القنطرة شرق التي قادها العميد فؤاد عزيز غالي, ملحمة بكل ما تحمله الكلمة من معان لأن القنطرة شرق لم تكن مجرد مدينة يتم تحريرها إنما هي في الواقع حصن محصن بسبع نقاط قوية جعلت منها قلعة عسكرية محكمة, فهي تسيطر علي مداخل المحور الشمالي المؤدي مباشرة إلي قلب إسرائيل… استمرت المعركة حتي عصر 7 أكتوبر حيث سقطت معظم القلاع التي تحصن المدينة واستمر القتال إلي العاشرة مساء حيث تمت السيطرة الكاملة علي المدينة, ويمكن القول إن سقوط القنطرة حطم معنويات العدو الذي لم يعد أمامه إلا الهجوم المضاد الذي يعوض به هزائمه.
** يوم 7 أكتوبر بدأت مصر الحرب السياسية, حيث فتحت خطوط اتصال مباشرة مع أمريكا والاتحاد السوفييتي والدول العربية والصديقة ومن خلالها أوضحت للعالم تفسيرها للحرب العادلة التي تخوضها وموقفها وشروطها لأن تنسحب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلها في يونيو 1967 في مقابل أن تكون مصر مستعدة للاشتراك في مؤتمر سلام.
** علي الجانب الآخر وفي واشنطن, كيسنجر يتحرك في كل اتجاه لمنع أي تحرك دولي يقيد حريته في التصرف أو يمنع إسرائيل من القيام بهجومها المضاد, لأن اعتقاده الراسخ أن إسرائيل في هذا الهجوم ستحول الإنجاز المصري إلي هزيمة ساحقة وتقلب كل الموازين ويصبح العرب علي حافة الكارثة… كيسنجر انتفض لمساعدة إسرائيل التي طلبت تعويضها عن الخسائر التي تكبدتها وخاصة في الطيران, وكتب لاحقا في مذكراته: إذا انتصر العرب فسوف يكون من المستحيل إجراء أي مفاوضات للوصول إلي حل للأزمة.. أمريكا يجب ألا تسمح تحت أي ظرف بهزيمة إسرائيل حتي لو أدي الأمر إلي تدخل أمريكي مباشر… يوم 7أكتوبر انتهي والحرب مستمرة والانتصارات المصرية متوالية.. وأكبر شاهد ودليل علي ذلك هو يوم 8 أكتوبر المعروف في إسرائيل باسم الاثنين الحزين.
** الاثنين 8 أكتوبر هو يوم التحول الرئيسي في حرب أكتوبر.. القوات الإسرائيلية من لحظة إعلان التعبئة بعد بدء الحرب يتوالي توافدها علي سيناء إلي أن اكتمل تشكيل ثلاث فرق مدرعة: الفرقة 143 بقيادة الجنرال إرييل شارون والفرقة 162 بقيادة الجنران إبراهيم دان والفرقة 252 بقيادة الجنرال أبراهام مندلر.. الفرق المدرعة الثلاث اكتمل تشكيلها أفرادا وعتادا.. الجبهة المصرية أصبحت في مواجهة ألف دبابة جاهزة لتحقيق الهدف الرئيسي للعدو الإسرائيلي وهو إنهاء الوضع القائم في سيناء بتوجيه ضربة قوية ضد الجانب الأيسر للجيش الثاني المصري والاستيلاء علي أحد الكباري للعبور غربا وتثبيت الجيش الثالث المصري وتكبيده خسائر كبيرة.
** الجيش الثاني المصري يتابع تحركات العدو وكان قرار قائد الجيش الثاني اللواء سعد مأمون تدمير القوات المهاجمة وإخراجها من حسابات المعارك المقبلة… العبقرية المصرية تجلت في خطة مواجهة الهجوم المضاد.. استدرجنا العدو اعتمادا علي غروره للدخول في جيب نيراني تم تنظيمه بدقة متناهية, وإجباره علي دخوله والتورط فيه.. فوجئ العدو بعد تركه يخترق تشكيلات الجيش الثاني بالنيران المصرية مفتوحة عليه من أربع جهات هي أضلاع أتون النيران… وكانت أكبر مذبحة للدبابات في تاريخ الحروب علي مساحة 15 كيلومترا مربعا… القادة الإسرائيليون الذين هللوا فرحا علي اللاسلكي متبادلين التهنئة بعد أن اخترقوا خط الدفاع الأمامي للفرقة الثانية المصرية وهم لا يعلمون أنهم في طريقهم للآخرة باختيارهم.. ذعر الدنيا انتابهم وهم يسمعون صيحات الجنرال أدان وأوامره بالتخلص من المعركة وسط مشاهد الدبابات تتدمر وجثث الجنود تتطاير.
** اكتملت مأساة العدو بوقوع العقيد عساف ياجوري قائد الكتيبة 190 من اللواء 217 مدرع في الأسر, وكان في مقدمة القوات التي ابتلعت الطعم واخترقت خط الدفاع الأمامي للقوات المصرية المتروك مفتوحا لاستدراجها فاكتشفت أنها كانت تتوغل في المصيدة المعدة لها… عساف ياجوري بعد فك أسره وعودته إلي إسرائيل كتب مقالا في جريدة معاريف الإسرائيلية بتاريخ 7 فبراير 1975 قال فيه: لماذا تركوا صدورنا عارية علي جبهة الفردان يوم 8 أكتوبر؟.. في تل أبيب الصدمة هائلة علي القيادة وعلي الشعب حتي إنهم أطلقوا علي يوم 8 أكتوبر الاثنين الحزين… جولدا مائير في هذا اليوم بكت وهي تكلم الرئيس الأمريكي نيكسون تليفونيا وتقول له: أنقذوا إسرائيل.
** كيسنجر وزير خارجية أمريكا الذي جعل العالم يترقب يوم 8 أكتوبر انتظارا للتغيير الجذري الذي سيحدث في الحرب لصالح إسرائيل, هو أول من اعترف بالانتصار الهائل للجيش المصري, وأدلي بتصريح في غاية الأهمية يوم 9 أكتوبر بعد تأكده من هزيمة الإسرائيليين قال فيه: لقد حقق العرب نصرا استراتيجيا في الشرق الأوسط, دون النظر إلي النتيجة النهائية للحرب, وأصبح هناك وضع جديد ولن تعود العجلة للوراء.
** يوم 8 أكتوبر الاثنين الحزين سيظل شاهدا علي أن جيش مصر أسقط أسطورة الجيش الذي لا يقهر.