تاريخ دخول “الشاي” إلى مصر.. وحرب تعكيــر المزاج


أنيس منصور : الفلاح يعمل خمس ساعات يومياً يضيع نصفها في شرب الشا

يعد ” الشاي” مزاج المصريين.. وواجب الضيافة الأول، والمشروب الأساسي على المقاهي، ويصل الاستمتاع بشرب الشاي أن أصبح له أوقاته المميزة وطقوسه مثل “وقت العصاري”.. وأصبح المشروب الشعبي الأول.. فتاريخ دخول الشاي إلي مصر له حكاياته وسحره الخاص، هذا ما أكده الكاتب الألماني كريستوف بيتزر في كتابه “الشاي..ثقافات..طقوس..حكايات”، إذ يقول:” اكتشف في مصر، أن الشاي يتعدَّى كونه مشروبًا، وإنما يكاد يكون مادة سحرية تحمل الناس على الجلوس والسهر لساعات، والمناقشة في أمور ذات شأن: كيف نريد لحياتنا أن تكون؟ ومن أين جئنا؟ بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والاجتماعية ورؤيتهم للعالم، كل ما هنالك أنه يشحذ الانتباه وينعش الحواس، ويمنح زبائنه أوقاتًا سحرية.
وقد اختلف المؤرخون حول تاريخ دخول الشاي مصر، فيرى البعض إنه بدأ دخوله مع الحملة الفرنسية إلى مصر(1789-1801)، وآخرون يروا أن الفضل يعود إلى الزعيم أحمد عرابي، بعد نفيه إلى جزيرة سيلان (سيريلانكا حاليا)، ولكن الرواية الأكثر شيوعا هي دخول الشاي مع الضباط البريطانيين عام ١٨٨٢، ولكنّه استمرّ بدايةً مشروباً مقصوراً على العائلات الأرستقراطية والملكيّة والأمراء وكانوا يسمّونه وقتها «الخرّوب»، ثمّ عمّ شرب الشاي بمساعدة من حملات التسويق الإنجليزية.
وتطالعنا بعض المصادروالكتب التاريخية على قصة انتشار الشاي في مصر وارتباطه بحياة المصريين، وهنا تؤكد جيهان مأمون في كتابها “من سيرة المماليك”: ظلت القهوة هي مشروب الضيافة الرئيسي عند المصريين على مر العصور حتي اكتشاف مشروب الشاي الذي دخل مصر عام 1882 في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وأصبح هو المشروب الشائع لدي المصريين. وهناك رواية أخرى تقول إن الفضل في وصول الشاي إلى مصر يعود إلى الزعيم أحمد عرابي ورفاقه، اللذين لهم دور كبير في معرفة المصريين شرب الشاي لأول مرة وذلك بعد أن تم نفيهم إلى جزيرة سيلان. حيث قضى عرابي ورفاقه قرابة الـ20 عاماً في المنفى حتى تم العفو. وفي هذه الجزيرة جلس عرابي ورفاقه مع السير تومان ليبتون، والذي يمتلك (مزارع شاي ليبتون) ليستضيفهم في مزرعته لشرب مشروب تناولوه لأول مرة وهو الشاي، لم يعجبهم في بداية الأمر ولكنهم تعودوا عليه وأصبح مشروبهم المفضل في المنفى. وقرر عرابي أن يرسل الشاي لشقيقه وأهله وأصدقائه في مصر من أجل تجربته، وإذا كان هذا المشروب طعمه جيدًا بالنسبة لهم سيقرر إرسال المزيد منه.

على أية حال، يمكن القول أن رغم دخول الشاي منذ نهاية القرن التاسع عشر إلي مصر، إلا انه لم ينتشر بين عامة المصريين ويصبح شرابهم الرئيسي إلا مع بداية الحرب العالمية الاولي (1914-1918) أي في بدايات القرن العشرين، و يذكر لنا توماس راسل حكمدار القاهرة في الفترة من عام 1918 إلى 1946، في كتابه “مذكرات توماس راسل”؛ إذ يقول: “نجحت الحكومة بوسائلها المختلفة في وضع صعوبات كثيرة في طريق التجارة المحرمة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار لما فوق قدرة كثير من الفلاحين، ومع عدم قدرتهم على شراء الحشيش والهيروين. فقد لجأ البعض إلى عادة جديدة هي شرب الشاي المغلي”، مضيفاً: “وأستطيع أن أقول: إن الجميع يعلم أن ما يسميه الفلاحون الشاي الأسود يأخذ كثيراً من أموالهم وصحتهم”.

– الشاي.. خطر أسود يهدد الفلاحين:
بمرور الوقت أصبح الشاي هو “مزاج المصريين” ومُعدل مزاجهم او بمعني أصح هو “الادمان- او الكيف الحلال”، لدرجة أن الأمر تفاقم وأدى إلى استياء الحكومة المصرية، وتحت عنوان “خطر أسود يهدد الفلاحين ..أثر الشاي الأسود في صحة الفلاحين وقواهم” نشرت صحيفة المقطم في أكتوبر عام 1932م ، حواراً مع جلال بك فهيم وكيل وزارة الزراعة بمصر أجراه الصحفي “كريم ثابت” أحد الصحفيين المؤسسين لصحيفة المصري، حيث يظهر الحوار تاريخ دخول الشاي لمصر بالإحصائيات والأرقام الموثقة.

وقد تناول “ثابت” في مقدمة الحوار حال الفلاح المصري الذي كان يمتاز بعدة صفات منها اقتناعه بالأجر البسيط، واكتفائه في الطعام مما تنتج أراضيه من الجبن والخضراوات والخبز، مؤكداً أن طعام الفلاح هو الذي أعطاه القوة والنشاط والصحة الجيدة، بالإضافة لابتعاده عن اللحوم فهو لا يأكلها إلا نادرا حيث إنها مضرة للجسم، وكيف أن الوضع حاليا تغير بعد إدمانه للشاي الأسود”.

واستكمل “ثابت” مقدمته قائلًا: إن الحالة لا تبعث عن الاطمئنان وشرب الشاي قد استعظم وأنه لابد من مواجهة التردي لأنه لا يصح التراخي، وأن الفلاح منذ عودته من أوروبا من أجل الحرب العظمى وهو ينشر عادة شرب الشاي بين أقرانه، مضيفًا “فلم ينقض على ذلك زمنا طويلاً حتي أنتشر انتشاراً سريعاً وطغى على جميع طبقات الفلاحين فتراهم يحملون معهم الشاي إلى جانب معداتهم إلى الحقل.”

وكان أهم ما ورد في هذا الحوار هو ما قاله جلال بك فهيم وكيل وزارة الزراعة، الذي بدأ بمقولة الروائي الفرنسي موريس ديكوبرا الذي زار مصر “إن أبرز ما استوقف نظري في مصر هو اجتهاد الفلاح المصري ونشاطه وتجلده في العمل”. ولكن الوضع تحول رأسًا على عقب بعد معرفة الفلاح الشاي وإدمانه له. واستكمل قائلا: “الفلاح المصري النشيط صار غريباً ومختلفا فقد صار يأخذ معه الشاي في الحقل، ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان، لكنهم يشربون من الشاي أردأه ويغلونه إلى أن يصبح لونه أسود تقريبا، وهم يشربونه بهذه الكيفية عدة مرات، وقد يستغنون عن الطعام لكنهم لا يستغنون عن الشاي، وقد لا تجد عند الفلاح غلة لمأكله مثل القمح والشعير ولكن لابد أن تجد عنده الشاي والسكر”.

كما قدم فهيم بك إحصائية عن استهلاك المصريين من الشاي، حيث استهلكت مصر من الشاي في عام 1911م وهو العام الذي انتشر فيه الشاي مقدار 895 ألفا و715 كيلوا جراما، وبعد الحرب العظمي وفي عام 1920م استهلكت مصر مقدار مليون و623 ألفا و29 كيلو جراما سنويا، أما في عام 1931م فقد استهلكت مصر نحو 6 ملايين و991 ألفا و154 كيلو جراما من الشاي، مؤكداً أن متوسط الزيادة من استهلاك المصريين للشاي في السنوات الأخيرة يصل لنحو591% مقطوعة من إنتاج الحرب العظمى.

وطالب فهيم بك الحكومة المصرية بمنع استيراد الأنواع الرديئة من الشاي وأن تقوم باستيراد الأنواع الجيدة فقط ووضع ضريبة عالية عليها حتى يتعذر على الفلاح شربه.

وأكد أن مديرية الطب البيطري بوزارة الزراعة أعدت مذكرة تفصيلية عن مخاطر الشاي الأسود وتأثيرها على الفلاحين، وجاء في المذكرة أن الكافيين جوهر سام ينبه المجموع العصبي والعضلات ويزيل شعور التعب والميل إلي النوم، كما يطيل ضربات القلب ويرفع ضغط الدم، مضيفا أن الكافيين في الشاي إذا أعطي بنسبة كبيرة يسبب اضطرابا في الأعصاب ويخفق القلب بشدة ثم يقف، كما أنه يؤدي لتباطؤ حركة التنفس بعد إسراعها.وأكد أن مذكرة الطب البيطري حذرت كثيرا من شرب الفلاحين للشاي الأسود، كما حذرت من أن التنبيه والنشاط الذي يعتري الفلاحين بعد تعاطيه هو شعور وقتي ينتهي بسرعة، واختتم الصحفي كريم ثابت حواره بدق ناقوس الخطر مطالبا الحكومة بالإسراع في تنفيذ مطالب وكيل الزراعة، حرصا على سلامة الفلاح وإنقاذ اقتصاد مصر الذي يعتمد على الثروة الزراعية.
– محاولات الحكومة في القضاء على مزاج المصريين:
ويبدو أن الفلاحين آنذاك وصل الحال بهم إلى ما يشبه إدمانَ المواد المخدرة، خاصة أن الدكتور محمد حسين هيكل، اتفق مع الطرح السابق، وكتب في إحدى مقالاته قائلاً: “لطالما تكررت الشكوى في السنوات الأخيرة من أن الفلاحين في مصر أصبحوا أشدَّ إقبالاً على تناول الشاي الأسود المضرّ بالصحة، منهم على ٌاقتناء المأكل والملبس اللازم لهم ولأولادهم. ولم يكن شيء من ذلك قبل الحرب العالمية الأولى… لم يكن الفلاح المصري يعرف الشاي الأسود”.
وبناء على ذلك، كان لا بدّ أن يفكر المسؤولون في مصر في حيلة يمنعون بها الفلاحين عن تعاطي “الشاي المغلي”، الذي بات يشكل خطراً على صحتهم، وكذلك غشّه التجاري، وبناءً عليه كلفت الحكومة وزارة الصحة عام 1938، بعمل دراسة علمية عن الشاي الذي يشتريه الفلاحون ويستهلكونه، وانتهت إلى أنه “على الرغم من أن كمية الكافيين متناسبة مع كمية الشاي المستخدمة، ولا تعتمد على طول فترة الغليان، فإن كمية الكافيين المطلقة التي يستخدمها الفلاح المصري بشكل يومي كانت كافية لأن تصبح ضارة لصحته، بناء على بيئته الطبيعية وتأثيراتها (خاصة مع وجود الأمراض الوبائية وعدم كفاية التغذية والعمل الزائد على الحد)”.
ولعل أبلغ وصف لحال الفلاح المصري بعد معرفته الشاي، ما ذكره الكاتب أنيس منصور في مؤلفه “الدين والديناميت”، أن الفلاح يعمل خمس ساعات يومياً، يضيع نصفها في شرب الشاي”.
– علوي الجزار ينتصر بالشاي الشريب:
ومع مرور الوقت، ورغم محاولات الحكومة، انتصر الفلاح المصري في معركة الشاي، وكأنها حرب يقودها للحفاظ على مزاجه من التعكر، وأصبح للشاي مستوردين، لعل أبرزهم علوي الجزار ابن الحوامدية، خريج كلية الزراعة. حيث كان الجزار يستورد الشاي الخام من جزيرة سيلان، ويصدره مُصنَّعاً إلى معظم الدول العربية تحت مسمى “الشيخ الشريب”، والذي أصبح الشاي الرسمي المعتمد عند المصريين، بالرغم من وجود منافسين مثل شاي “زوزو”، إنتاج مصنع الحوامدية، و”كروان” إنتاج مصنع بورسعيد، لكنه بخلاف الجودة فقد تفوق لعدة اسباب اخري منها محاولات الجزار في الوصول إلي “توليفة مزاج المصريين”، فقد كان الجزار يعرف تماماً ما يفضله المصريين في كوب الشاي الخاص بمزاجهم، وكذلك العقلية الدعائية والتسويقية للجزار، وفقاً لما أكده مؤلف كتاب “صنايعية مصر” لـ عمر طاهر.
ويلفت “طاهر” إلي أن علوي الجزار نجح في رَسم وجدان المصريين بصورة الشيخ الشريب، ملامحَ لشخصٍ ارتاحوا له ولابتسامته سريعاً، “شخص من بينهم وليس نجماً سينمائياً؛ به أبوة ويشعرك بقرابة ما أو بأنك حتماً التقيت به”.
وأصبح بمرور الوقت معظم مطابخ ومحلات بقالة ومقاهي مصر يوجد بها نتيجة حائط أو بوستر عليه صورة “الشيخ الشريب” هذا الشيخ الذي يرتدي الزي التقليدي، ويصب الشاي بابتسامة صارت أيقونة في مخيلة المصريين. كان البعض يعتبرون هذه الصورة محض خيال فني، لكنها شخصية حقيقية، وهو ليس شيخاً لكنها صورة (عم عرفة)، الذي كان يعمل سائقاً عند علوي الجزار، وكان الأخير يحبه ويتفاءل به، فقرر أن يجعل صورته رمزاً للشاي الذي اجتاح مصر بقوة حتى نهاية الثمانينيات”.
عقلية الجزار الفذة –بحسب طاهر- لم تكن لتتوقف عند هذا الحد، و”إنما كانت إعلانات الصحف والمجلات تخاطب صاحبَ القرار في موضوع الشاي في كل بيت، وهي المرأة، وجاءت صيغة إعلانات “الشيخ الشريب” واحدة دائماً مفادها: “يقول علماء النفس بعد دراسة إن المرأة تفوق الرجل في القدرة على تمييز طعم المرّ والحامض والمالح والحلو، وإنها أدق من الرجل في تذوق الطعم، ولهذا اختارت السيدة المصرية شاي (الشيخ الشريب) مشروبها المفضل”.
وهكذا أصبح الشاي جزءاً أساسياً من حياة معظم المصريين، ولم تفلح المحاولات كافة في إبعاد المواطن البسيط عن تناوله، إلى أن أصبح الشاي المشروب الرسمي للمصريين.
ووفقا للإحصاءات الحديثة، فإن استهلاك مصر سنوياً من الشاي، يصل إلى حوالي 85 ألف طن، ما يقدر بـ6 مليارات دولار، وتُعدّ القاهرة الثالثةَ ضمن أكثر المدن العربية استهلاكاً للشاي والقهوة، إذ وصل إجمالي ما يتناوله الفرد الواحد إلى 0.9 كيلو غرام، عام 2020، بحسب اللجنة الدولية للشاي في أحدث إحصاءاتها.

تاريخ الخبر: 2023-10-26 09:21:52
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 60%

آخر الأخبار حول العالم

تراجع جديد في أسعار الحديد اليوم الخميس 2-5-2024 - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٢)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-02 06:21:50
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية