الدار/ افتتاحية
من المهم للغاية الوقوف عند دلالات إطلاق برنامج الدعم الاجتماعي المرتقب بصفة رسمية في نهاية السنة الجارية. هذا حدث لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثا عاديا أو عابرا. إنه تتويج لمسار سياسي طويل يقوده جلالة الملك محمد السادس منذ أن تولّى المسؤولية في سنة 1999. منذ ذلك الحين نعيش في بلادنا ثورة هادئة تقود المغرب بأمان واطمئنان نحو التقدم والرخاء والسلم الاجتماعي دون الوقوع في فخ التفريط أو الإفراط. هذا النموذج التنموي الخاص الذي اختارته بلادنا لم يكن نتيجة تطورات ظرفية أو ضغوطات اقتصادية أو اجتماعية فرضتها بعض التحولات الكبرى التي عاشتها بلادنا أو عاشها العالم على غرار جائحة كوفيد 19 أو ما تلاها من تضخم، بل كان نتيجة رؤية مسبقة ومدروسة.
من المفيد جدا تتبع المسار الذي قطعته الرؤية الملكية على مستوى التنزيل الاقتصادي والاجتماعي منذ البداية. لقد انطلق هذا التنزيل بتصفية تركة الماضي وطي صفحة الأمس على المستوى الحقوقي جسدتها أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة وما فرضته من قيود وقواعد حقوقية أضحت جزء من ثقافة المؤسسات الأمنية في بلادنا، ضمانا لعدم تكرار ما جرى في الماضي. مداواة الجروح هي التي جعلت المغرب والمغاربة يولّون وجوههم إلى الأمام من أجل النظر إلى المستقبل. اللحظة الانتقالية المهمة التي تلت ذلك هي إطلاق جلالة الملك محمد السادس مشاريع الأوراش الكبرى، التي شكل ميناء طنجة المتوسط أحد رموزها البارزة والمؤثرة.
لقد كان جلالة الملك يدرك جيدا أن المغرب لا يمكنه أن ينهض اقتصاديا وصناعيا على الخصوص وحده دون اعتماد على الرساميل الأجنبي والاستثمارات الخارجية. لذا بالموازاة مع هذه المشاريع الضخمة الخاصة بالبنية التحتية مثل القطار السريع الرباط طنجة، كانت هناك مشاريع قطاعية أخرى قد وُضعت على السكة الصحيحة وعلى رأسها مثلا مشروع تطوير المحطات السياحية الكبرى في السعيدية وتغازوت ومازاغان وغيرها. وفي السياق نفسه كان ورش التأهيل المالي يسير على قدم وساق، لقد استطاع المغرب بفضل إصلاح شامل للقطاع البنكي أن يبني نظاما بنكيا متطورا وعصريا يساعد المستثمرين على حرية الوصول إلى التمويل أو تحويل الأرباح إلى الخارج دون قيود أو عراقيل.
لاحظوا كيف تدرجنا من الملف الحقوقي المرتبط بالماضي إلى الملف الصناعي والسياحي مرورا بالملف البنكي وصولا اليوم إلى الملف الاجتماعي. يختار المغرب اليوم اللحظة المناسبة تماما لإطلاق برامج اجتماعية جد شجاعة وجريئة منها ورش تعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، ويختار أيضا أن يبدأ ذلك ببرنامج الدعم الاجتماعي المخصص للفئات الهشة والمعوزة. لم يسبق للمغاربة منذ الاستقلال أن حصلوا على دعم اجتماعي منتظم ومقرر بحكم القانون لذا تعدّ هذه الخطوة إصلاحا تاريخيا لا تنبغي الاستهانة بأهميته، لا سيّما أنها تأتي في ظل توجه اقتصادي رسمي جد ليبرالي ومنفتح، وتحت إشراف حكومة يقودها حزب ليبرالي يؤمن بالقيم الرأسمالية والحرية الاقتصادية.
ومن الواضح أن تأهيل الاقتصاد الوطني وتعزيز جاذبيته الرأسمالية مرحلة تطلبت بعض الوقت والكثير من الإصلاحات والجهود على المستويات كافة، واليوم ندخل مرحلة جديدة أقرّها جلالة الملك محمد السادس منذ جائحة كوفيد 19 عندما تقرّر تخصيص دعم مالي مباشر للأسر المتضررة، ثم انتقلت إلى مستويات أكثر عمقا مع إطلاق ورش تعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، وستتجلّى عمليا في أفق نهاية السنة الجارية مع إطلاق برنامج الدعم الاجتماعي المباشر الموجّه إلى الأسر المعوزة.
المغرب مقبل في السنوات القليلة المقبلة على حدث دولي كبير يتمثل في احتضان فعاليات كأس العالم 2030 بما يعنيه ذلك من مشاريع التأهيل وإطلاق الأوراش الكبرى وتدشين دينامية تنموية واقتصادية كبرى ستستفيد منها الكثير من الفئات الاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية تدشين هذا النظام الاجتماعي الجديد. نحن نعيش لأول مرة منذ استقلال المغرب محاولات جادة من الدولة الاجتماعية إلى إعادة توزيع الثروات بشكل عادل ومنصف كي تشمل ثمارها كافة الفئات التي كان بعضها إلى الأمس القريب محروما من الاستفادة من فوائد هذا النمو الاقتصادي الصناعي والفلاحي والسياحي الذي تحققه بلادنا عاما بعد عام.
