وتتواصل شهادة إبراهيم حجازي … علي العمل الإعجازي (6)
وتتواصل شهادة إبراهيم حجازي … علي العمل الإعجازي (6)
بينما كنت مزمعا أن أقدم توثيقا لوقائع انتصارات أكتوبر الخالدة عبر الآحاد الخمسة التي تصدر فيها وطني خلال شهر أكتوبر الماضي -اتساقا مع تقليد الأكتوبريات التي دأبنا عليه, إذا بالرصيد الشيق العظيم لشهادة الراحل إبراهيم حجازي علي هذا العمل الإعجازي يتجاوز المساحة التي كنت أتوقعها ويأسرني في خضم أحداث وتداعيات وتطورات لم أكن أستطيع غض النظر عنها, خاصة أنني مكبل بواجب وطني سبق أن أوضحته, وهو أننا أمام ملحمة أكتوبر نشعر بمسئولية تاريخية أمام جيلي أبنائنا وأحفادنا ألا يقتصر احتفالنا بذكري نصر أكتوبر علي الحفاوة بالانتصار دون الخوض في تفاصيل ما مررنا به من استعدادات وتحديات وانتصارات وإخفاقات كانت محصلتها ذلك العبور التاريخي.. ليس فقط العبور الجغرافي لتحرير التربة المصرية, ولكن العبور المعنوي لرد اعتبار الكرامة المصرية والعقلية السياسية والعسكرية المصرية الفذة التي صنعت ذلك العبور.
** توقفت في الحلقة السابقة عند سيناريو المفاوضات بين إسرائيل ومصر لمجرد كسب الوقت من جانب إسرائيل, ولكن أمريكا ممثلة في وزير خارجيتها كيسنجر أيقنت أن إسرائيل في وضع لا تحسد عليه وأن بإمكان المصريين سحقها… تلك هي حقيقة الثغرة التي حولتها الدعاية الصهيونية إلي انتصار لهم وهزيمة لنا… وأترك القول الفصل في هذه المزاعم لخبراء العسكرية في الغرب ولجنرالات العدو:
** المؤرخ العسكري الإسرائيلي أوري ميلشتاين سجل شهادته في إذاعة أورشليم الجديدة في أكتوبر 2009.. الثغرة خطوة عسكرية استعراضية لم تغير من نتيجة الهزيمة الإسرائيلية, كما أنها لم تقلل شيئا من قدر الانتصار المصري.
** المؤرخ العسكري البريطاني إدجار أوبلافس: هناك من وصف ثغرة الدفرسوار غرب قناة السويس بأنها معركة تليفزيونية, وفي رأيي أنه وصف دقيق, وإن كنت أفضل وصفها بالمعركة الدعائية.
** تريفور ديبوي, رئيس مؤسسة هيرو للتقييم العلمي للمعارك التاريخية في واشنطن يقول: ليس هناك شك من الوجهة السياسية والاستراتيجية أن مصر كسبت الحرب.
** أهارون ياريف, مدير المخابرات الإسرائيلية الأسبق في ندوة عن حرب أكتوبر بالقدس في 16 سبتمبر 1974: لا شك في أن العرب قد خرجوا من الحرب منتصرين بينما نحن خرجنا ممزقين وضعفاء.
** الصحفي البريطاني ديفيد هيرست في كتابه البندقية وغصن الزيتون: إن حرب أكتوبر كانت بمثابة الزلزال, فلأول مرة في تاريخ الصهيونية حاول العرب ونجحوا في فرض أمر واقع بقوة السلاح… لم تكن النكسة مجرد نكسة عسكرية بل إنها أصابت جميع العناصر السيكولوجية والدبلوماسية والاقتصادية التي تتكون منها الأمة الإسرائيلية.
** الجنرال فارار هولكي, مدير تطوير القتال في الجيش البريطاني في الندوة الدولية عن حرب أكتوبر التي أقيمت بالقاهرة عام 1975: إن الدروس المستفادة من حرب أكتوبر تتعلق بالرجال وقدراتهم أكثر مما تتعلق بالآلات التي يستخدمونها… الإنجاز الهائل الذي حققه المصريون يرجع إلي عبقرية ومهارة القادة والضباط الذين خططوا وتدربوا وباغتوا الطرف الآخر بمفاجأة تامة… كما أظهر الجنود روحا معنوية وجرأة كانت من قبل في عداد المستحيل.
** سبحان مغير الأحوال: أمريكا ظلت ست سنوات من يونيو 1967 حتي أكتوبر 1973 ساكتة علي ممارسات إسرائيل التوسعية, وإعلانها ضم الأراضي التي احتلتها في 1967 لها زعما منها بأنها تحقيق لحلم أرض الميعاد وتأكيدا أنها لن تفرط في شبر واحد منها, وذلك أدي بها إلي رفض قرارات مجلس الأمن وتجاهل أية مبادرات تدعوها للتخلي عن الأرض مقابل السلام مع العرب.. وها هي أمريكا نفسها في عشرة أيام من 9 إلي 18 يناير 1974 تتغير 180 درجة وتقف تكشر عن أنيابها بحثا عن السلام المنسي من ست سنوات وتتذكر أن هناك حاجة إلي السلام عندما أيقنت من الصور الجوية أن القوات المصرية التي تحاصر الثغرة أكبر جدا مما كانت تتصور وأن جيش إسرائيل الموجود في الثغرة رهينة عند جيش مصر ومحكوم عليه بالإبادة فيما لو نفذت مصر العملية شامل لتصفية الثغرة… سارعت أمريكا بإلغاء ما كان قائما من مفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة وتولي كيسنجر وزير خارجيتها بنفسه المفاوضات… يطرح ويحاور ويضغط بل وصل إلي التهديد بأن أمريكا ستدخل الحرب فيما لو أن مصر نفذت العملية شامل… كل ما يهم كيسنجر سلام القوات الإسرائيلية المحاصرة في الثغرة وتعاني حرب استنزاف امتدت عبر 80 يوما وباتت علي بعد خطوات من الإبادة حيث تنتظرها معركة ستكون معركة رجل لرجل نتيجة تداخل القوات وطبيعة الأرض.. وهذا ما كنا نتمناه ويخشونه هم.
** هكذا وضعنا الحروف الأولي لمفاوضات كامب ديفيد التي جاءت فيما بعد وانتهت باتفاقية السلام.. وهي الاتفاقية التي ما كانت ستحدث لولا حرب أكتوبر التي مازالت أفكارها وأحداثها موثقة في المعاهد العسكرية في العالم تناقش وتحلل العبقرية المصرية الجبارة التي خططت ونفذت حربا بهذا الحجم وهذا النموذج غير المسبوق في المبادأة والمفاجأة من خلال أعظم خطة خداع عرفتها حرب.
** مشوار حرب أكتوبر بدأ من حيث ما أهملناه وتعالينا عليه من عام 1948 حتي وقعت هزيمة يونيو 1967 … وهو مبدأ اعرف عدوك عسكريا واقتصاديا واجتماعيا… هذا عاد وأخذ حقه من الدراسة والتحليل والمقارنة, كل المعارك التي دارت ابتداء من معركة رأس العش التي وقعت بعد أيام من هزيمة يونيو إلي حرب الاستنزاف التي امتدت نحو 500 يوم شهدت قرابة الألف عملية عسكرية مع العدو في سيناء… كلها خضعت لتحليل تفاصيلها الدقيقة قتاليا وإداريا ونفسيا.
** حرب أكتوبر أخذت المبادأة وحققت المفاجأة, والعدو الذي لم يعرف قبلها سوي الهجوم فوجئ بأنه مجبر علي حرب دفاعية لم يعتدها وجيشه لم يخضها سابقا وليست له خبرة فيها ولا يعرف مبادئها… تلك كانت عبقرية التخطيط المصري… مفاجأة لعدو وإرباكه وإجباره علي الهروب من المواقع الأمامية التي يحتلها… العدو في موقف لم يتعرض له من قبل, من البداية كان تقديره لقوة جيش مصر خاطئا, وهذا ما يثبته تصريح موشي ديان فور بدء المعركة: أمامنا 48 ساعة تعبئة و48 ساعة قتال بعدها نقضي علي الجيشين المصري والسوري و48 ساعة نحتل فيها القاهرة ودمشق!!!…
** لكن النيران لم تتوقف لحظة من جانبنا من يوم 6 أكتوبر 1973 إلي يوم 17 يناير 1974, لم تتوقف علي مدي 104 أيام: 26 يوما في أكتوبر, و30 يوما في نوفمبر, و31 يوما في ديسمبر, و17 يوما في يناير… الثغرة هي التي جعلتهم لأول مرة في تاريخهم يتركون أرضا احتلوها, تركوها قبل أن تصبح هذه الأرض قبورهم.. توقفت النيران يوم 17 يناير 1974 بناء علي قرار الفصل بين القوات, وذلك القرار لم يكن أبدا نتيجة كلام في مفاوضات, إنما وصلنا له وفرضناه بقوة السلاح من لحظة اقتحام القناة وحتي نهاية 104 أيام قتال.. وصلنا له بحجم انتصاراتنا ومقدار خسائرهم.. وصلنا له بالعقلية الفذة للقيادات والشجاعة الفائقة للقوات والنجاح المصري المذهل في تدبير وتوفير كل خطوط الإمداد لحرب استمرت 104 أيام قتال ليعرف العدو أن الموت نهاية كل من يحتل أرضنا.
*** سلمت يداك وسلم قلمك الأستاذ إبراهيم حجازي -رحمك الله- لقد أمتعتنا بهذا التوثيق الرائع لحرب أكتوبر… ولا أجد أفضل خاتمة له سوي ما خطه قلمك وأسطره هنا: هي دي حرب أكتوبر, وكل ما أتمناه من كل أب وكل أم أن يحكوا لأبنائهم وبناتهم عن بطولات وتضحيات وانتصارات جيش مصر في حرب أكتوبر, لأجل أن تبقي ذكراها خالدة, رمزا للإرادة المصرية.
*** … كما أستميح القراء عذرا أنني كنت خلال المقالات الست الماضية ناقلا لما خطه قلم غيري.. قلم يفيض بالوطنية والمصداقية والكرامة.