المصريون والنظافة (٢).. التاريخ الحديث


تناولنا فى المقال السابق النظافة عند المصريين القدماء، حيث تشير المصادر المختلفة إلى حرص المصري القديم على النظافة الشخصية والمنزلية، وظهور حرف لأغراض النظافة الشخصية، وانتاج الأدوات اللازمة لذلك. وبالانتقال إلى مراحل زمنية أخري، أى بدايات التحديث فى مصر، سنجد أن المصادر التاريخية، وأهمها أعمال المستشرقين، تخبرنا أن المصريين لديهم حرص على نظافتهم الشخصية، ولكن أحد المتغيرات الهامة يتمثل في ظهور ما بات يعرف بـ”المجال العام”، كمجال للتنظيم الإداري، والقانوني والصحي، ومعه بات للنظافة بعدين: شخصى وعام. وإذا كانت النظافة الشخصية والمنزلية مسئولية الأفراد، والنساء على وجه الخصوص، فإن النظافة فى المجال العام باتت جزء لا يتجزأ من نظام “الصحة” العامة، وأصبحت مسئولية مزدوجة بين السكان والدولة، فظهرت اللوائح والقوانين، وما استتبع ذلك من مسئوليات إدارية للنظافة، وعقوبات قانونية على المخالفين.

وقد ظلت النظافة الشخصية فى العصر الحديث مرتبطة بالتراث الثقافى والديني، بمعنى أن عادات وتقاليد العصر الفرعونى القديم امتدت إلى العصر الحديث، وكذلك مبدأ الطهارة الشخصية المرتبط بممارسة الطقوس الدينية كالصلاة اليومية والصيام. هذا بالإضافة إلى تغير أنماط الحياة بفعل المؤثرات الخارجية والتغيرات السكانية والحضرية. وهكذا فقد نظر المستشرقون الأوائل إلى النظافة فى المجتمع المصري من منظور العادات والتقاليد والتعاليم والممارسات الدينية، مع رصد بعض الممارسات التى تنطوي على نقص فى النظافة الشخصية، كما تعرفها مجتمعاتهم الغربية.

يقول إدوارد وليم لين فى كتابه “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم”: “ترتدي عملية التطهر أهمية قصوى وهي نوعان: أولهما الوضوء (الغسل) العادي السابق للصلاة وثانيهما غسل الجسم كله مع القيام بالوضوء” وهذ ما يتعلق بالطقوس “أما غسل الجسم بكامله فيتم ابتغاءاً للنظافة لا أكثر بعيدا عن أى اعتبار ديني إلا فى حالات استثنائية كما فى صباح يوم الجمعة وبمناسبة العيدين، وهذا هو “الغُسل”، “ولا تقتصر النظافة على المتعبد المصلي بل تشمل الأرض والحصر والسجادة والثوب أو أى شيء آخر يصلي عليه المسلم”. ولا نجد اختلافا كبيرا فى نظرة كلوت بك (1793-1868)، مؤسس مدرسة الطب فى عصر محمد على، حيث يرصد مظاهر النظافة الشخصية فى كتابه “لمحة عامة إلى مصر”، فيشير إلى الحرص على التطهر من النجاسة بالاغتسال، ويستخدمون فى ذلك اليد اليسرى، أما اليد اليمنى فهى للأعمال الطاهرة كتناول الطعام والمصافحة، ويكثرون من الاستحمام، ولا يبصقوا فى الحجرات ولا دور العبادة، ويغسلون أسنانهم. ولكن بالمقابل فقد لاحظ بعض الممارسات التى ينكرها الأوربيون، ومنها التجشوء على الطعام وأثناء الكلام، وكثيرا ما تحتوى ملابسهم على حشرة القمل، ومن عاداتهم إذا تربعوا على الفراش أن يشبكوا سوقهم بعضا ببعض وأن يمروا بيهدهم على باطن القدم لأنهم يحبون الشعور بالتأثير الذي تحدثه هذه الملامسة.

ويحتل نهر النيل موقعا مركزيا فى النظافة الشخصية، ليس فقط بسبب أنهالمصدر الرئيس للمياه الجارية، رمز الطهارة، ولكن أيضا لأنه ملجأ للفئات الشعبية ممن لا يمتكلون رفاهية الحمامات. وفى هذا يقول إداورد لين: “يعتبر الاستحمام من أبرز وسائل الترفيه التى تدخل البهجة إلى قلوب المصريين. ولا غنى عن النيل ودفء مياهه لكل من لا تسمح له ظروفه المادية بتحمل نفقات الإغتسال الزهيدة فى الحمامات الشعبية المنتشرة فى البلاد. والنيل فياض بهباته كذلك على الفتيات والشابات المصريات اللواتى يُنعمن أجسادهن الغضة باستحمام منعش فى مياهه أيام القيظ، ويُسقطن وهن سابحات حتى ورقة التوت عن أجسادهن، ولكنهن يتوغلن فى أماكن بعيدة عن أنظار الفضوليين فلا يعكر هؤلاء عليهن صفوهن. ذكركت سابق أن الأغنياء يملكون حمامات فى منازلهم ومع ذلك يقصدون غالبا الحممات الشعبية. كذلك تفعل نساؤهم..”.

وربما يكون الجديد فيما قيل عن النظافة فى العصر الحديث لا يتعلق بالنظافة الشخصية بقدر ما يتعلق بنظافة المجال العام. فقد برز هذا المجال كحيز للتنظيم الإداري والقانوني والصحي. كما أصبحت النظافة ركيزة أساسية من ركائز الصحة العامة. و فى حين يتبين الحرص على النظافة الشخصية، فإن الكتابات التى وصفت الأوضاع مع بداية التحديث تشير إلى قذارة الشوارع والمجال العام. كما يُلاحظ غياب الاهتمام بنظافة الأطفال وخاصة فى الأوساط الشعبية والريفية ربما لأسباب ثقافية تتعلق بالخوف من الحسد أو لأن الأطفال ليس لزاما عليهم “التطهر” لممارسة الطقوس الدينية. فنقرأ فى كتاب ج. كريستوفر هيرولد “بونابرت فى مصر” ما يلى: “يقول رئيس الصيارفة بيروس: ان المدينة [يقصد القاهرة] غير جديرة بسمعتها العظيمة، فهى قذرة، رديئة المبانى، تملؤها الكلاب البشعة. أما الميجر ديتروا فيصف هذه القذارة .. متسائلا: ماذا تجد عند دخولك القاهرة؟ شوارع ضيقة قذرة غير مرصوفة، وبيوتا مظلمة متداعية، وأبنية عامة تبدو كانها السجون، وحوانيت أشبه بمرابط الخيل، وجوا عبقا بعطر التراب والقمامة”. ولم تكن حياة الريف أحسن حالا، فهناك مشكلة المخلفات الحيوانية والمصارف التى تعد مكانا للروئح الكريهة والمناظر المزعجة، والأكثر من ذلك هو قابلية التعايش مع المخلفات. يقول ستنالي-لين بول فى كتابه الحياة الاجتماعية في مصر أن هذه الحالة كانت مصدر فرح للكلاب والأطفال حيث يحلو اللعب رغم أنها مكانا لجحافل الذباب، ويقول: “ويجب أن يُعزى قدر كبير من انتشاره إلى إهمال الأمهات وجهالتهن وقذارة الأطفال؛ إذ تعتقد النساء أنه من النحس أن تغسل وجه الطفل، وتفضل أن تجعله أعمى طوال حياته على إزالة الذباب المهلك الذى يغطي عينيه ..”.

وتوضح المصادر المختلفة أن النظافة باتت أحد الشواغل الأساسية المرتبطة بعملية التحديث فى مصر، وهو ما تطلب تدخلا من الدولة لإلزام الناس بالحفاظ على نظافة المجال العام. وفى هذا تورد الباحثة زينب البكري فى كتابها “عامة القاهرة: تجربة التحديث فى عصر محمد علي”، حيث تقول أن إشكالية نظافة القاهرة ظلت قائمة، فكانت ظاهرة وجود مرتفعات متعددة بالجوامع والمساجد الكائنة بالمحروسة- نتيجة كثرة البول والغائط بداخل المحروسة، قد أقلقت محمد على، وللقضاء على ذلك تم اتخاذ اجراءات إدارية وعقابية للحفاظ على نظافة المحروسة. ولكن وفق ما أوردته الباحثة فلم تكن الأمور تسير بيسر وسهولة، فقد كانت هناك مقاومة من الأهالي نتيجة الإجبار وفرض الضرائب، فضلا عن الاختلالات الإدارية نتيجة التساهل والرشاوي.

ويمكن استخلاص أن علاقة المصريين بالنظافة ذات طبيعة مزدوجة، فقد يتفاخر المصريون بنظافتهم الشخصية، ولكنهم لا يتورعون عن انتهاك المجال العام وتلويثه، فى ظل غياب قانوني وقيمي. وهذا الأمر، يمكن تفسيره بالنقاط التالية. فمن ناحية أولى، على ما يبدو أن سياسات الدولة المصرية العقابية والجبائية منذ بدايات التحديث، وتجاهل لأبعاد الثقافية والتربوية، أحدثت فجوة بين العام والخاص، فدائما ما يشعر الفرد بعدم الانتماء إلى المجال العام، فهو مجال خارجي ومستباح؛ ومن ناحية ثانية، أن السياسات العقابية عادة ما تنطوي على اختلالات تنفيذية ذات صلة بالإشراف الإداري والقانوني والتي تعززها الاختلالات الثقافية والتربوية. ومن ناحية ثالثة، قد يكون لبعد النوع الاجتماعى دورا فى خلق فجوة النظافة بين المجالين الخاص والعام، فمن المعروف أن النساء وهن المعنيات بالمجال الخاص كن وما زلن المسؤلات الأُول عن نظافته، أما المجال العام فطالما تم اعتباره حيزا ذكوريا بالأساس، فهل لثنائية الخاص الأنثوي، والعام الذكوري علاقة بثنائية الخاص النظيف والعام القذر؟ ربما.

إن مشكلة النظافة تحتاج إلى نظرة شاملة، وخاصة فى ظل ما نشاهده ونعيشهالآن من تدهور فى نظافة الشوارع والتكلفة الاقتصادية والصحية والبيئة الناجمة عن ذلك، فضلا عن ظاهرة اعتياد القبح والتعايش معه. وما زاد من الطين بله، كما يقال، الانسياق لأنماط استهلاكية لا حدود لما تخلفه من قمامة وقذارة وملوثات. فما زال شعار “النظافة من الإيمان” مجرد شعار فارغ لا قيمة له إلا فى حدود التطهر والاغتسال بالمعنى الضيق، أما المجال العام فهو خارج نطاق “النظافة” و”الإيمان”.

تاريخ الخبر: 2024-01-01 09:21:54
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 51%
الأهمية: 59%

آخر الأخبار حول العالم

الاحتلال يستهدف منازل في رفح الفلسطينية.. وتحليق للطيران فو

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-05 09:22:25
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 54%

اعتقال العشرات في معهد "شيكاغو" للفنون مع استمرار المظاهرات

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-05 09:22:15
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 56%

قوات الاحتلال تهدم منزلًا في دير الغصون بالضفة الغربية

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-05 09:22:21
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 64%

كراهية وخطاب – صحيفة التغيير السودانية , اخبار السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 09:23:04
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 50%

أمطار رعدية على هذه المناطق.. اليوم - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-05 09:23:47
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية