المسيحيون في فلسطين بين الاغتيال والتعميد الجماعي
المسيحيون في فلسطين بين الاغتيال والتعميد الجماعي
قبل حوالي ألفي عام أبرم السيد المسيح ميثاقا مع تلاميذه, وأوصاهم قبل صعوده: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح, لا يقدر أن يدخل ملكوت الله ـ بحسب إنجيل يوحنا الأصحاح الثالث ـ عربون هذا الميثاق هو معمودية كل من يتبعه, لكن حتي هذا العربون عجز أطفال غزة عن دفعه حينما سقطت فوق رؤوسهم أبنية الكنيسة قبل العماد, وعلي طريقتهم الخاصة قررواالتحدي, رافضين أن ينتزعهم أحد من أرضهم, فلا القصف ولا الدمار أفلح في زحزحتهم مترا واحدا حتي إنهم احتموا داخل الكنائس, وقررا تعميد أطفالهم تعميدا جماعيا, خشية أن يموتوا برصاص الاحتلال بغير عماد, فالمعمودية المسيحية وصية المسيح للكنيسة. إذ قال لتلاميذه: اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به ـ بحسب إنجيل متي ـ لذلك فإن الكنيسة مسئولة عن معمودية الأطفال ليس فقط لحفظ الإيمان ولكن حرصا علي أبديتهم.
والمعتاد أن يقبل الآباء علي تعميد أطفالهم ليعيشوا مسيحيين, أما أهل غزة من المسيحيين فيفعلون ذلك ليموت أطفالهم مسيحيين, فخلال القصف الذي وقع في 19 أكتوبر, انهارت قاعة تابعة لكنيسة القديس برفوريوس, وهي إحدي أقدم الكنائس في غزة, وقتل 19 مسيحيا كانوا قد لجأوا إليها, بمن في ذلك ثلاثة أطفال ماتوا دون تعميد. في أعقاب هذه المأساة, شعرت جماعة القديس برفوريوس بأن مزيدا من الاستهداف سيطال الكنائس والمسيحيين وشعروا بالحاجة الملحة إلي تعميد جميع الأطفال المتبقين, حتي إذا ماتوا في القصف يموتون مسيحيين.
في الأجواء العادية يحرص الآباء والكنيسة علي أبدية الأطفال, فيولدون في المعمودية من جديد ويكملون حياتهم بالروح وبالتعاليم المسيحية, أما في أجواء الحرب والإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة, فإنهم يحرصون علي الولادة من أجل الموت. يا له من شعور مؤلم أن تجهز أطفالك للموت, والأشد إيلاما أن تتحول المعمودية سر الفرح, إلي حدث يغلفه الخوف, وتلفه الأحزان, ويطمس فرحته المستقبل المجهول لأطفال علي إيمان والديهم يقبلون المعمودية, وسط أصوات المدافع بديلا عن الزغاريد, كان هذا في 28 أكتوبر, حينما اجتمعت العائلات في كنيسة القديس برفوريوس للروم الأرثوذكس في غزة لتعميد أطفالهم, وتم تعميد تسعة أطفال في الحفل الذي تم الترتيب له علي عجل. كان الآباء والمصلون مجتمعين في الكنيسة, التي لجأوا إليها منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر. بعد أن فقدت العائلات منازلهما وأعمالها وسبل عيشها بأكملها.
لم تمض أيام حتي ثبتت صحة توقعات آباء كنيسة القديس برفوريوس, وتوالت الهجمات مما ضاعف حجم المخاوف, التي قد تطال الوجود المسيحي في فلسطين, فالأمر لا يقتصر فقط علي مسيحيي غزة, وإنما يطال كنائس القدس, وليس أدل علي ذلك من الهجوم الذي وقع يوم الخميس الماضي علي كنيسة الأرمن, حينما هاجم 30 ملثما مسلحا يرتدون أقنعة تزلج العشرات من رجال الدين, واقتحموا أراضي وأصابوا العديد من الكهنة والشمامسة وطلاب الأكاديمية اللاهوتية الأرمنية Cow’s Garden, بالإضافة إلي سكان حارة الأرمن بجروح خطيرة, كرد فعل من رجل الأعمال الأسترالي الإسرائيلي داني روثمان (روبنشتاين) علي الإجراءات القانونية. التي اتخذتها الكنيسة لحماية حي الأرمن المستهدف من قبل مستوطنين إسرائيليين.
الأمور تتكشف يوما بعد يوم, ومخطط تهويد القدس وتفريغها من التنوع والتعدد يجري علي قدم وساق, وتدعمه مجريات الأحداث, والقصف الوحشي لغزة يعضد غليظي القلوب في كل بقعة في الأراضي المقدسة, وما بين الاغتيال والهجوم واستلاب الأراضي, يواجه المسيحيون الاحتلال بالمعمودية ويعلنونها عشنا هنا وسنموت هنا مهما حاول الاحتلال انتزاعنا من أراضينا!!!