عندما نفتقد سعادتنا بعد فوات الأوان
عندما نفتقد سعادتنا بعد فوات الأوان
ماتت زوجته, كانت صغيرة السن, لم تتجاوز الخامسة والثلاثين, أنجبت طفلتين جميلتين وكانت متفرغة لبيتها, رغم أنها حاصة علي شهادة جامعية, وكان يمكن أن تشق طريقها في الحياة العملية, وتصل إلي مكانة لا بأس بها, ولكنه أصر علي ألا تعمل زوجته, وهو بدخله الكبير قادر أن يتكفل بكل احتياجات البيت, وأمام إلحاحه وإلحاح أسرتها, وافقت ولكنها شعرت منذ اليوم الأول أنها ظلمت بهذا القرار, وأن شيئا كبيرا ينقصها, ومع ذلك عاشت زوجته متعبة مرهقة, كسيرة, كان الزوج شديدا, قاسيا, كلماته أوامر وطلباته طلقات رصاص, وكنا من حولها نتلفت لما يحدث صامتين, فلم تكن تشكو ما يحدث معها, ولم تكن ترفع صوتها أبدا علي زوجها.. إنما كان ينعكس شعورها بالألم أحيانا علي طفلتيها,, فتفشل في أن تكون معهما مبتسمة أو تسعد بالأوقات التي تقضيها معهما.
كنا نلمح متاعبها, آلامها, نظرات الحزن في عينيها, افتقادها إلي حياة أسرية سعيدة, ولكن آحدا منا لم يحاول أن يتدخل في حياتها أو يتحدث مع الزوج أو يطلب منه أن يغير من أسلوب تعامله داخل بيته مع زوجته, ومرت الأيام والشهور والسنون والكل يعتقد أن الزوج لا يحب زوجته, وأنه يعيش معها مجبرا من أجل الأولاد, لم يسمعها مرة كلمة حلوة, لم يشعرها مرة بأنه راض عن تضحياتها من أجل البيت, لم يجعلها تحس بأنها شيء مهم في حياته, أن وقوفها إلي جانبه ضروري.
وماتت زوجته بعد مرض قصير لم يمهلها أياما, أصيبت بأزمة قلبية قضت عليها, وأحسسنا نحن المحيطين بها أنها ماتت مقهورة حزينة أو كما يقول المثل البلديناقصة عمر, تحسرنا علي حظها العاثر, الذي حرمها من نعمة السعادة, وتحسرنا علي الطفلتين الصغيرتين, فالكبري لم تتجاوز العاشرة, والصغري في السابعة, سوف تذوقان طعم المرارة مع أب قاس وزوجة أب أشد قسوة.
ولكن الذي حدث هو الذي أثار الدهشة حقا, بكي الزوج بحرقة كما لم يبك زوج علي زوجته, بكي أياما امتدت حتي بدأ الناس يتعجبون, لم يكن أبدا يحبها, حياتهما معا تؤكد ذلك لم يكن سعيدا معها, كل الظواهر كانت توحي بذلك, لم يكن عاطفيا, كانت مشاعره جامدة قاسية لم يكن أبدا الزوج الحنون الودود الذي يرعي زوجته أو يحوطها بمشاعره الحنونة, فما الذي حدث ما كل هذا البكاء والحزن والألم, ولما كل هذا الشحوب والذبول والعزوف عن الدنيا الانطواء والوحدة!
كان يذهب إلي عمله مضطرا, يعود ملهوفا ولا يخرج أبدا من البيت بعد ذلك يعمل بيديه في البيت, يطهو الطعام, ينظف, يعتني بالطفلتين, يداعبهما ساعات طويلة, كل يوم جمعة يصحبهما معه إلي الخارج ولا يعود إلا في نهاية اليوم حاملا الحلوي والفاكهة ومالئا يدي الطفلتين باللعب, الملابس الجديدة, تحول الرجل حقا, تحولا عجيبا أصبح رجلا مختلفا, رجلا يكرس نفسه من أجل سعادة أسرته الصغيرة, رجلا تنطق كل تصرفاته وسلوكه بالحب والحنان لبيته وأسرته, لم يتزوج ثانية, لم يفكر في أن تحل إنسانة أخري مكان زوجته الراحلة, لا توجد واحدة تستحق أن توضع في مكانها, رفض أن تدخل أخري بيته أو تكون زوجة أب لأطفاله, لم يوافق حتي أن يدخل إلي منزله خادمة سيدة تخدم الأطفال, هكذا قال لشقيقته عندما ألحت عليه أن يريح نفسه ويبحث عن خادمة للأولاد.
وكان العجيب حقا, والذي يثير التساؤل, لماذا- وقد بدا واضحا أنه يحب زوجته, لم يحطها بكل هذه المشاعر الجميلة, لماذا لم يسعدها في حياتها, لماذا لم يشعرها بحبه ويحوطها بحنانه لماذا كانت الخلافات, لماذا كان الألم والتعاسة وخيبة الأمل, لماذا لم تظهر المشاعر الجميلة كلها إلا بعد أن فقد هذه الزوجة, وتسربت من بين أصابعه كالطيف السريع..لماذا؟
ربما كان ما حدث مع هذا الزوج يلخص كثيرا من الأشياء والأخطاء التي تحدث في حياتنا وتفسدها, وتصيبها بالفشل, ولا نتنبه لها إلا بعد فوات الأوان, ويبدو أننا كبشر لا نعتني كثيرا بالشيء الذي في حوزتنا, والذي بين أيدينا, وننسي قيمته أو نتناساها, فإذا فقدنا هذا الشيء أو تسرب وضاع بدأنا نشعر بقيمته وبدأنا نثني عليه ونمتدحه وننسب إليه كل شيء جميل بعد أن كان خياليا من الجمال.
وربما كان كثير من المآسي والفشل الذي يصيب حياتنا الزوجية راجعا إلي هذا السلوك الخاطئ الذي نسلكه, فالحياة التي نحياها عاطلة من الإحساس بالجمال والسعادة, ولكن عندما نفقدها بصورة من الصور نتحسر علي الجمال والسعادة التي كانت تملأ تلك الحياة في غفلة منا.