رحلة التربية (٨) ​


مَنْ منا لا يفرح بينما يرى أبناءه يكبرون ويتقدمون في حياتهم، وينضجون ليصبحوا شخصيات مستقلة.. لكن هذا بالطبع يعني أن سلطاننا عليهم يقل، وتتغير طبيعة المسؤولية الأبوية عن سلوكهم و اختياراتهم. في الواقع، إن عبور الأبناء من مرحلة حياة الطلبة وخروجهم للعمل يمثل علامة فارقة في علاقتنا معهم.. فنرى أن رغبتهم في الاستقلال عن الأسرة تزداد بشكل كبير. وفجأة تدخل بعض الموضوعات التي كان يحلو لهم الحديث عنها معنا تحت بند “سري جدًا”، وأية حوارات حول اختيارات المستقبل قد تعني بالنسبة لهم تدخلاً غير مبرر من الوالدين!

FocusOnTheFamily.me

​على أية حال، كل مظاهر الاستقلالية التي تدخل إلى حياتنا بدون سابق إنذار لا تعني أبدًا أن الأبناء ليسوا بحاجة للدعم الذي يمكن أن نقدمه لهم في هذه المرحلة، أو أنهم لا يستطيعون الاستفادة من نصيحة أب مُحب اعترك الحياة، وأُم يتوفر لديها فيض من خبرات اكتسبتها مع التجارب والتحديات التي واجهتها مع الأيام. وفي نفس الوقت، نفور أغلب الأبناء عن الاستماع لوالديهم يكون عادة مرحليًا، وناتجًا عن تغيّر في آلية تطبيق السلطان الأبوي.. فالعلاقة قد آن لها أن تأخذ طبيعة الصداقة بدلاً من ديناميكية تعامل الكبير الفاهم مع الصغير الأقل في الخبرة.

​إن انفصال الأبناء عن الوالدين مرحلة انتقالية مؤقتة من حياتهم، لا بد أن يعودوا بعدها إلى دفء العلاقة معنا ومع إخوتهم أيضًا.. عندئذ ينتقل الآباء مع الأبناء إلى مرحلة جديدة ورائعة من الحياة والتفاهم المتبادل. لكني مثل أي أب لطالما راودني السؤال: “كيف يمكننا التعامل مع الأبناء خلال فترة الانفصال المؤقت هذه؟”

​عندما نقبل كآباء وأمهات حقيقة أن طبيعة دورنا ومسؤوليتنا قد تغيرت بنضوج أبنائنا، لا بد أن نتوقف ونفكر قبل أن يصدر منا أي رد فعل تلقائي تجاه ما يختارونه لحياتهم.. فنرفض الحوار، أو نُلقي على مسامعهم محاضرة لما نراه الأفضل من وجهة نظرنا. ولعل أحد أكثر العوامل التي تُبقي على قنوات التواصل مفتوحة معهم هو أن نستمع جيدًا لما يقولونه؛ فبلا شك هم لديهم تفاصيل عن ظروف وأسباب اختياراتهم تخفى علينا. إن احترامنا لما أصبحوا عليه الآن من شخصيات يعفينا من سلبية ونتائج إصدار الأحكام المسبقة.

​لأني لم أُرد أن أخسر ابنيَّ، أو أزعجهما على أقل تقدير، فقد حاولت أن أدرب نفسي على تقديم نصائحي بطريقة تساعدهما على رؤية وجهة النظر الأخرى لما يفكران فيه؛ فهذا يعطيهما الفرصة أن يوازنا بين نصيحتي وتقديرهما الشخصي لواقع ما يعايشانه قبل أن يقررا ما يختاران. كما تعلمت أننبرة كلماتنا في أي نقاش مع الأبناء تحدد مسار ودرجة حرارة بقية الحوار.. وما يساعد الكبار على تجنب الحدة في الكلام، أو إطلاق قذائف الاتهام، هو قناعتنا الداخلية بأن حوارنا نابع من اهتمامنا بمستقبل أبنائنا، وليس لإثبات خطأ تفكيرهم أو سوء اختيارهم.. فقد نكسب المناقشة، لكن نخسر الشخص، وهذا أسوأ انتصار في أحد أقدس معارك الحياة!

​الأبناء لا يحبون أن ينتهي حوارنا معهم بالتحذير من العواقب، أو التهديد برد فعل، لكن ما يشجعهم على التفكير في رأيك والرجوع للحوار معك مرة ثانية هو شعورهم أن القرار الأخير للاختيار متروك لهم. وربما من الأفضل أن ينتهي الحوار بأن يسمعوا منا: “لو كنت مكانك فهذا ما سأختاره، لكن في النهاية أنت الذي تستطيع أن تقرر الأفضل لمستقبلك!” تُرى هل تبخل على ابنك أو ابنتك أن تتيح له الفرصة ليأخذ وقته ليفكر فيما قد تختلفان عليه عندما تتعارض وجهات نظركما، خاصة إذا كان لاختياره تأثير بعيد المدى على حياته؟

​من جانب آخر، قد لا يستطيع البعض منا أن يُعبر بوضوح عن مشاعره تجاه أبنائه عندما يكبرون. فلم يعد للعب، أو لفيض الأحضان والقبلات، مكان بعد في العلاقة معهم. إن افتراضنا أنهم يعرفون ما نكنه لهم من مشاعر حب عميقة وتقدير صادق لشخصياتهم، دون أن نُعبر لهم عن ذلك بالقول والفعل، يزيد من ابتعادهم عنا. وعندما يحدث سوء تفاهم بيننا، خاصة فيما يتعلق باختيارات حياتهم للمستقبل، نجد أن العلاقة معهم يسودها بلا داعٍ التوتر والشك وعدم الأمان. تعلمت في رحلة التربية أننا بحاجة كوالدين في مرحلة انفصال الأبناء عنا أن ننتهز كل فرصة مناسبةلنذكّرهم بالحقيقة التي لن تتغير أبدًا، وهي: “وجودك كابن أو ابنة لي من أروع اختبارات حياتي على الإطلاق.. لا يوجد شيء أراه أفضل من رؤية وجهك وابتسامتك، ولا شيء أحب لأذني أن تسمعه أكثر من سماعي لصوتك ولضحكتك. أنا فخور بالشخص الذي أصبحت عليه الآن، وبغض النظر عما تختاره لحياتك، فأنا أثق في قدرتك على اتخاذ القرارات الصحيحة لمستقبلك.”

​يقول سليمان الحكيم: «مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها. إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة، تُحتقر احتقارًا.» (نشيد الأنشاد ٨: ٧).. ولعلي أستطيع قراءة هذه الكلمات في فترة انفصال الأبناء عنا هكذا: «الاختلافات الكثيرة في الرأي لا تستطيع أن تقلل من محبتي لأبنائي، ومهما ساد الجدال النقاش معهم، فإن هذا لا يؤثر بأي حال في مدى احترامي لتفكيرهم. وإن أعطيتهم كل ما أملك من ثروة أو ميراث بدلاًمن المحبة فهذا لا يمثل أي قيمة بالنسبة لهم.»

​أبناؤنا في حاجة لمحبتنا حتى عندما لا يستحقونها؛ فنحنملاذهم الأخير الذي فيه يجدون الحب غير المشروط، والمشورةالحكيمة وغير الأنانية، والصلاة بحرارة بلا توقف لأجلهم.

تاريخ الخبر: 2024-02-25 09:21:54
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 55%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

نادي الشباب السعودي يسعى لضم حكيم زياش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 15:26:34
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 64%

نادي الشباب السعودي يسعى لضم حكيم زياش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 15:26:30
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 68%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية