النابغة الأنبا غريغوريوس
النابغة الأنبا غريغوريوس
من الشخصيات العظيمة التي عرفتها في حياتي, وأكن لها عظيم الاحترام والحب, وأشعر أن من نعمة الله علي أن وهبني هذه الصداقة والمعرفة هو..
العلامة الدكتور الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي. الذي جدد حياتي, ونقي أفكاري وزاد حبي وشغفي بالفلسفة. وقد عرفت نيافته وأنا في شرخ شبابي في بداية الثلاثينيات من عمري فكانت الفائدة كبيرة, كنت أذهب إليه أزوره في الجناح الخاص به في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في الدور الثالث وأقضي معه ساعات طويلة عرفت معها لذة ونعمة الحوار في الشئون الدينية والفلسفية, كانت هذه الرحلة مساء من الثامنة تمتد أحيانا إلي منتصف الليل وتتم مرتين علي الأقل كل أسبوع إن لم يكن مشغولا.
كان نيافته عندما يقرأ مقالا لي في الفلسفة يشجعني كثيرا وأشعر بالسعادة تملأه ويطلب مني أن أستمر في الكتابة في جريدة وطني ولا أتوقف.
نيافة الأنبا غريغوريوس قال عنه قداسة البابا شنودة الثالث في كتاب السيرة الذاتية للمتنيح الأنبا غريغوريوس إعداد الإكليريكي منير عطية ص68, 69:
الكلمة التي ألقاها البابا شنودة في حفل تسليم التقليد للأنبا غريغوريوس: أشعر بهيبة كبيرة وأنا في هذا الحفل المهيب, الذي شرفه أحبار الكنيسة الأجلاء وعلماء الكنيسة الكبار, إن وجود تسعة من أحبار الكنيسة الأجلاء في هذا الحفل العظيم لهو بركة وتدشين لهذه القاعة المقدسة, وأيضا أشعر بهيبة أمام علمائنا الكبار, مجموعة يندر أن توجد, منها بعض أساتذة درسوني شخصيا, علي قمة هذه المجموعة أذكر بمزيد الاحترام أستاذي العالم الجليل دكتور عزيز سوريال, وأستاذي الجليل الدكتور سامي جبرة, والدكتور باهور لبيب والموسيقي الكبير راغب مفتاح وغيرهم. إن حضور الأحبار الأجلاء والعلماء الكبار كلهم معا في هذا الاجتماع لهو تقدير وتوقير لأستاذي الكبير الأنبا غريغوريوس.. إنني عندما أتحدث عن الأنبا غريغوريوس, فلست أتحدث عن شيء خارج عني, إنه جزء من نفسي, وجزء من حياتي, وجزء من تاريخي, وهو مني وأنا منه, ونحن الاثنان واحدا. لقد عشت والأنبا غريغوريوس صديقين من زمان بعيد يرجع إلي سنة 1939 عشنا معا متزاملين متلازمين, نقطع غربة العمر معا, نقطف الورد معا, ونجرح من الشوك معا, كنت عندما أجلس إليه أشعر أنه عقلي المفكر, وأشعر أنه قلبي النابض, في صداقة عجيبة يندر أن رأي الناس مثلها من قبل.
وعندما أتي القمص باخوم إلي الكلية الإكليريكية وهو الأنبا غريغوريوس وعمل وكيلا فيها, ووكيلا لأسقفية التعليم, كان كل إنسان في الكلية الإكليريكية يري أن القمص باخوم هو المدير, والأنبا شنودة هو الوكيل, وأثق فيه ثقة لا حدود لها. يا إخوتي جميعا ويا آبائي.. هناك بعض أشخاص تزينهم الرتبة, وتعطيهم الوظيفة درجة وعظمة.. وهناك أشخاص آخرون تنبع العظمة من داخلهم, لا تحتاج إلي سبب خارجي يشير إليها.
أنا سعيد يا إخوتي أن هذا القلب الكبير, الذي كان يعيش معنا, قد أخذ مكانه اللائق به في مجمع الكنيسة المقدس, وأنا هنا أهنئ أعضاء المجمع الأجلاء, وأحني هامتي أمامهم جميعا, وأبارك لهم جميعا أنه قد انضم إليهم هذا العضو النقي القديس الشجاع الجريء وصاحب المبادئ الذي يدافع عنها في نقاوة وفي قداسة. الأنبا غريغوريوس عرفته زمنا طويلا, ولم أره مطلقا في حياتي صغيرا. كان شابا صغير السن, وكان أكبر من جميع الشيوخ الذين حوله. وكنت أراه باستمرار الشخص الكبير الشخص الهادئ المحنك الذي تنبع العظمة من داخله لا من مظاهر خارجية.
أتذكر عندما حصل صديقي الحبيب وهيب عطاالله وهو الأنبا غريغوريوس علي شهادة الدكتوراه.
أرسلت إليه أقول: لست أهنئك بشهادة الدكتوراه وإنما أهنئ العلم بك, هل تظنون أن وهيب عطاالله صار عالما لأنه أخذ الدكتوراه؟ كلا إنه أخذ الدكتواره لأنه كان عالما.
يثير قداسة البابا شنودة الثالث نقطة مهمة في تعليم الأنبا غريغوريوس هي: لماذا أصر علي أن يلتحق بالكلية الإكليريكية علي الرغم من أن مجموع درجاته كان يكفل له الدخول إلي أي كلية جامعية يريد أن يلتحق بها, فقد كان أول فرقته الدراسية دائما ولكن زملاءه تعجبوا من اختياره أما السبب الحقيقي فهو أن شباب دفعته كانوا يفضلون كليات الطب والهندسة وغيرها لكنه اختار الكلية الإكليريكية بالذات لأنه أراد أن يكرس نفسه لله, وحصل علي بكالوريوس الكلية الإكليريكية وكان الأول دائما, وبعد أن حصل علي الليسانس في الفلسفة بدرجة جيد جدا, اشتغل مدرسا بالكلية الإكليريكية ثم أكمل تعليمه في معهد الآثار المصرية, وكان مدير المعهد أستاذنا الكبير سامي جبرة, وبعد أن أخذ دبلومة معهد الآثار وهي تعادل الماجستير, ذهب إلي أوروبا ودرس في إنجلترا وحصل علي الدكتوراه في اللغة القبطية واللغة اليونانية. ولم يحصل علي دكتوراه في اللاهوت لأننا لا نؤمن بأخذ دكتوراه في اللاهوت من كنائس تخالفنا في الإيمان.. أهنئ الكنيسة به وأهنئ أبانا المكرم رئيس الكهنة البابا كيرلس السادس, وأرجو أن ننال جميعا من علمه وبركاته. وأرجو أن يكون أول عمل له كأسقف عام للبحث العلمي هو مراجعة كتابي الذي كتبته عن الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي الذي سأقدمه لنيافته هذا الأسبوع وأرجو أن يتسع وقته له.. كما أخبركم أيضا أن كتاب الزوجة الواحدة الذي كتبته سنة 1958 منذ تسع سنوات, هو أيضا الذي راجعه كلمة كلمة ومن تواضعه في مقدمة الكتاب بدلا من أن يقول راجعت الكتاب, قال قرأت هذا الكتاب.
أشعر أني أطلت في كلمة قداسة البابا شنودة الثالث عن الأنبا غريغوريوس ولكن أشعر أن الضرورة تفرض علي ذلك فهذه الذكريات هي ثروة وثائق تاريخية للكنيسة وخاصة بين عظيمين من عظمائها.
كان الأنبا غريغوريوس محبا من كل قلبه وروحه وعندما أقابله يرحب بي قائلا: أهلا بالفوز والفرح, وتعبر لغة الجسد عن هذا الحب الكبير, فيفرد ذراعيه الاثنين عن آخرهما..
نستكمل في الأسبوع القادم عن رجل الدين والفلسفة الأنبا غريغوريوس.