رحلة التربية (١٠)


FocusOnTheFamily.me

ماذا نفعل عندما لا يتفق ما نتمناه لأبنائنا مع اختياراتهم لمستقبلهم، وعندما نرى بحكمة السنين أن ما يختارونه يشكل تهديدًا لنجاحهم واستقرار حياتهم؟ في رحلة التربية لا بد أن يأتي يوم فيه يواجه كل أب وأم تحدي هذا السؤال. تُرى هل تجعلنا مثل هذه المواقف نتشكك إن كنا نجحنا في تربيتنا لأبنائنا؟ وهل تمسُّكنا بما ربيناهم عليه من قيم إيمانية وأخلاقية يجعلنا نقلق من احتمالية أن نفقدهم؟ خبرة مَنْ سبقونا تؤكد غير ذلك!

عند قراءة تاريخ الآباء الأولين، نجد أنه عند مرحلة معينة من العمر لا بد أن نبارك أبناءنا قبل أن ينطلقوا في طريق مستقبلهم.. نباركهم بنفس الإيمان الذي به استطاع إبراهيم أن يكون على استعداد أن يُسلم إسحق، ابن الموعد، ليد الله وهو مُتيقن أن الله قادر أن يعطيه حياة جديدة إذا أُخذ منه (عبرانيين ١١: ١٧- ١٨)! لكني أتعجب لما فعله يعقوب أبو الآباء عندما بارك أبناءه الاثني عشر قبل موته (تكوين ٤٩). فقد خصَّ ابني يوسف،منسى وأفرايم، بالبركة دون بقية أحفاده: «بالإيمان يعقوب عند موته بارك كل واحد من ابني يوسف» (عبرانيين ١١: ٢١).. تُرى لأنهما تربيا بحسب حضارة العالم في مصر آنذاك؛ فرأى يعقوب أن الإيمان يضمن اختيارهما أن يثبتا على إيمان أبيهما وجدهما؟ ربما! إذن فالأمر يحتاج منا لإيمان يجعلنا نثق أن ما نرجوه لمستقبل أولادنا يتحقق، مع أننا قد لا نرى ذلك بالعيان في الحاضر. على أية حال، إن كنا لا نستطيع أن نُرضي الله إلا بالإيمان، فلا بد أن يشمل إيماننا به الثقة أن يختار أبناؤنا اليوم أو غدًا ما يرضي الله أيضًا. لكن هذا يجب أن يُترجم عمليًا في الكيفية التي نتعامل بها مع الأبناء عندما نختلف معهم في الرأي.

المواجهات العنيفة مع الأبناء عند الاختلاف معهم قد تدفعهم تلقائيًا لتحدي اختبار قوة إرادتهم في مواجهة السلطان الأبوي. في مثل هذه الحالات تختلف ردود أفعال الأبناء بحسب طبيعة كل منهم.. فالبعض قد يتمرد علنًا، ويرفض أي نصيحة يشعر أنها تُحد من حرية اختياره؛ وقد يُبدي آخرون اقتناعًا ظاهريًا لما نراه أفضل لهم، بينما يحبسون داخلهم بركانًا من الرفض، الذي قد يتحول إلى شعور بالمرارة يبقى معهم طويلاً إذا لم يتم التعامل معه في أسرع وقت.

عندما كتب الرسول بولس لأهل رومية: «سالموا جميع الناس»، لم يستثنِ الذين نعيش معهم تحت سقف واحد! وقد مهَّد الطريق لصنع السلام بتوضيح عملي وحكيم عندما قال: «إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم…» (رومية ١٢: ١٨). والمعنى هنا إذا كان صُنع السلام يعتمد عليك فابذل قصارى جهدك لكي تحققه.. اختر الوقت المناسب للحوار، ومارس طول الأناة؛ فالغضب يحرمك من فرصة أن يدرك أبناؤك أن ما تريده هو لخيرهم. الانفعال يُفقد العلاقة الأبوية دفئها، بينما اقتناعك الهادىء بنقاء وصدق دوافعهم، حتى وإن بدت اختياراتهم سيئة، يتيح الفرصة للتفهم المتبادل لوجهات النظر المتباينة .

الحوار لا يعني إملاء الآراء بالمواعظ، والإصرار على أن يستمع الأبناء لكل ما نقول، وعندما يأتي دورهم في الحديث نصم آذاننا عما يقولون! في رحلة التربية تعلمت في حواري مع ابنيَّ أن أترك جانبًا الأمور الأقل أهمية عندما يدور نقاشنا حول اختيارات مصيرية في الحياة. الحوار الحكيم يبدأ بأسئلة تساعد الأبناء على التفكير التحليلي في أسباب اختلافهم معنا في الرأي.. فأبناء اليوم، بخلاف ما نشأنا عليه في الماضي تعليميًا واجتماعيًا، لا يقبلون الحقائق المجردة قبل أن يحللوا الأسباب منطقيًا، ويمتحنوها من خلال معرفتهم، ثم يوازنوا بين الاختيارات، ويصلوا إلى النتائج بأنفسهم.

الصبر والمغفرة، مع الإقرار بصعوبتهما، لا يوجد بديل لهما إذا أردنا أن نربح أبناءً يسلكون في مخافة الله.. فبقدر ما أن الأمر والنهي، أو التوسل بهدف التأثير على الأبناء، كلها أساليب لا تُجدي نفعًا في حواراتنا معهم؛ فإن المحبة والقبول والمغفرة تضمن تأثيرات بعيدة المدى عليهم، حتى وإن لم تأتِ بثمارها في الحال. فلا تدع عدم صبرك يقودك للخصام معهم، أو تجنبهم! عندما جاء الله إلى آدم بعد السقوط وسأله: “أين أنت؟” كان الله يعرف أنه قد أخطأ بعدم طاعته هو وحواء للوصية، ولم يكن محتاجًا أن يعرف أين يوجد آدم جغرافيًا، لكنه كان يقصد بسؤاله: “أين أنت مني يا آدم؟” وفي الأغلب كان الله ينتظر آدم وحواء أن يعترفا بخطئهما، ويندما على معصيتهما، لكن هذا لم يحدث. ومع ذلك، فالله «بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية ٥: ٢٨)، ويأمل أن نتجاوب مع محبته. كذلك، على مثال الله الآب، عندما رأى الأب ابنه من بعيد ركض ليستقبله، ولم يتردد لحظة أن يتجاوب مع بادرة الأمل أن عودته هذه تعبِّر عن تراجعه عما اختاره لنفسه في عناد عندما ترك البيت.. فركض للقائه في منتصف الطريق ليؤكد أنه لا يزال يحبه.

«المحبة… تحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء… المحبة لا تسقط أبدًا… أما الآن فيثبت: الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة.» (١كو ١٣: ٤-١٣).. فليكن لنا إيمان يجدد فينا الرجاء لمستقبل نتمناه لأبنائنا، ولننتظر أن تثمر محبتنا في حياتهم فيثبتون في الحق.. إن الثمرة لا تسقط بعيدًا عن الشجرة!

تاريخ الخبر: 2024-03-25 09:21:13
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 58%
الأهمية: 64%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية