مرحبا بصداقة الدين والفلسفة (5) النابغة الأنبا غريغوريوس
مرحبا بصداقة الدين والفلسفة (5) النابغة الأنبا غريغوريوس
من الكلمات القبطية التي مازالت في لهجتنا العربية والتي يتحدث بها كل المصريين, والتي كما يقول العلامة الأنبا غريغوريوس تبلغ تسعة آلاف كلمة قبطية في لهجتنا القبطية الكلمات.. دردشة وهي كلمة قبطية ومعناها كثرة الكلام بغير فائدة. برضه كده ومعناها أهكذا تسير الأمور. الأصبع مدوحس, معناها متورم. كاني وماني كلمتان قبطيتان معناهما سمن وعسل, هوسة كلمة قبطية معناها التسبيح ونحن نقول للصغار دائما بلاش هوسة, أي بلاش صوت مرتفع مثل التسابيح التي يجب أن تكون بصوت عال. في مجال الطعام مازلنا نستخدم الكلمات القبطية في أسماء أطعمتنا القديمة مثل الجبن الحلوم وكلمة حلوم قبطية ومعناها جبنة وهذا يخطلط الاسم العربي بالقبطي. الفول المدمس معناها الفول المطمور وهو المستوي في الفرن, المتمس كلمة قبطية حورت إلي المدمس. البيصارة طبق شهي لكل المصريين, اسمه القديم بيصورو ومعناها الفول المطبوخ.. ونحن ندعو للراحلين قائلين.. الله يبشبش الطوبة التي تحت رأسه, وكلمه باش هي قبطية معناها, لان أو طري. وكلمة لظلظة قبطية معناها لين أو طري, نقول فلان دوه ملظلظ قوي, أو فلانة دي ملظلظة قوي بمعني سمين. وهذه الكلمات والأسماء تدل علي معناها زباطة بلح, لبشة قصب, مشنة عيش, وهكذا.
يقول الأنبا غريغوريوس عن رهبنته وظروفها:
الرهبنة كانت مسألة ميل قديم ولم أتمكن من تحقيقه إلا في عام 1962م, والرهبنة ليست بالشكل فقط, فقد كنت أعيش كمتبتل, وكان لدي مسئوليات كثيرة في الإكليريكية, لم تمكني أن أترك العمل والخدمة.. فالرغبة في الرهبنة موجودة من الشباب المبكر, وقبل دخولي الكلية الإكليريكية وعند دخولي الإكليريكية كان أمامي اتجاهان إما الإكليريكية أو الرهبنة, ولكن يشاء الله أن أدخل الإكليريكية.. بل إن كثيرا من الآباء المطارنة رؤساء الأديرة والرهبان دعوني إلي الرهبنة, وقداسة البابا كيرلس كلمني مرتين, وبسبب المشغوليات اعتذرت حتي أمرني البابا بالذهاب إلي دير المحرق وسافرت في قطار الصحافة الساعة الثالثة من فجر يوم السبت, ورسمت راهبا يومي السبت والأحد 15 و16 سبتمبر باسم باخوم المحرقي, باخوم كلمة قبطية معناها نسر.
كانت أحداث الكنيسة القبطية في ذلك الوقت سريعة متلاحقة, ففي الوقت الذي التحق فيه الدكتور وهيب عطاالله بسلك الرهبنة, وأصبح اسمه باخوم المحرقي في 16 سبتمبر 1962 تمت رسامة القمص أنطونيوس السرياني أسقفا علي الكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية في 30 سبتمبر 1962 باسم الأنبا شنودة. وقد أرسل الراهب باخوم من الدير المحرق, برقية تهنئة لنيافة الحبر الجليل الأنبا شنودة, لرسامته أسقفا علي الكلية الإكليريكية في أول أكتوبر 1962 يقول فيها.. هنيئا للإكليريكية بابنها المؤمن برسالتها, وللكنيسة بأسقف مثالي يقظ, وراع صالح عالم. ولم يكتب الراهب باخوم المحرقي برسالة التهنئة فأرسل خطابا بالتهنئة قال فيه: أقبل وجنتيك ويديك, تهنئة حب وإكرام لموهبة الله التي فيك وعليك, والتي نلتها باستحقاق وجدارة, وأصلي أن يحفظ الرب حياتك وجهادك, ويديم رئاسة كهنوتك, وينفع الإكليريكية ومدارس التربية الكنسية الأرثوذكسية بصلواتك ومجهوداتك وبركاتك الرب معك.
واستطرد الراهب باخوم الدكتور وهيب عطاالله قائلا للأنبا شنودة: يا صديقي, ويا حبيبي, بل ويا أبي جزيل الكرامة, أرجو الرب أن يوفقك التوفيق كله, في حمل هذا اليد الذهبي علي كتفيك الطاهرتين إلي أن تبلغ بالإكليريكية والمعاهد القبطية, مصاعد الخير والكمال بغير عثرة.
هكذا كانت العلاقة بين العملاقين الأنبا شنودة أسقف الإكليريكية والمعاهد القبطية, والراهب باخوم المحرقي الدكتور وهيب عطاالله ممتازة وقوية في شرخ شبابهما تعجز الكلمات عن التعبير عنها وكانت المحبة بينهما أبدية.
* نتيجة هذه المحبة والود الذي بينهما سعي الأنبا شنودة أسقف الكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية بمحاولات كثيرة حتي استطاع أن يعيد الراهب باخوم المحرقي للتدريس في الكلية الإكليريكية من جديد. وعاد فعلا الراهب الدكتور وهيب عطاالله إلي القاهرة من الدير في 25 أكتوبر 1962 وأقيم احتفال كبير لاستقباله في الكلية الإكليريكية في 29 أكتوبر 1962, وكان علي رأس المستقبلين الأنبا شنودة أسقف الإكليريكية والمعاهد الدينية.
تمت رسامة الراهب باخوم المحرقي قسا وقمصا في الثاني من يونيو 1963, هو عيد العنصرة, وظل القمص باخوم المحرقي يمارس عمله بالكلية الإكليركية, ومعهد الدراسات القبطية بعد انتظامه في سلك الرهبنة, وأصدر الأنبا شنودة قرارا بتولي القمص باخوم المحرقي وظيفة وكيل عام أسقفية المعاهد الدينية والتربية الكنسية في 27 ديسمبر 1963.
رشح القمص باخوم المحرقي من عدة إيبارشيات لرسامته أسقفا ولكنه رفضها جميعا, وتتلاحق الأحداث مرة أخري ففي 23 أبريل 1964 أصدر المجلس الملي الفرعي بصنبو قرارا بترشيح القمص باخوم المحرقي أن يكون نائبا بابويا للإيبارشية, مقدمة لرسامته أسقفا, ورفض المجلس الملي العام بالقاهرة, وأبدي أسفه للتفكير في إبعاد القمص باخوم عن الكلية الإكليريكية, إذ يتعارض هذا مع مصلحة الكنيسة العليا التي تستلزم الانتفاع بعلمه ودراسته. واعتذر القمص باخوم بشدة, وعاني كثيرا من ضغط البابا كيرلس عليه واللجنة المنتدبة من الإيبارشية, وبعد إحراج كبير رأي السفر لحضور أسبوع الآلام وعيد القيامة بعد أن كتب رسالة يقول فيها:
وجدت من الكهنة ومن الشعب محبة كبيرة, وحماسة روحية وترحيبا وأخوة, ووجدت هذا أيضا من البارزين من المسلمين وعلي الرغم من هذا كله, فإنني لا أجد لهذه الدعوي صدي باطنيا في أعماقي, لأنني أحس أن دعوتي من طراز آخر وأن عملي الذي أقوم به وتعلقت به هو دعوتي التي تناسبني وأنا أناسبها, أما وظائف الكهنوت العليا فلا تناسبني ولا تلائمني.. أنا لست لها.. ولما سمع الأنبا شنودة أسقف التعليم بذلك, تأثر جدا وأرسل خطابا للبابا كيرلس السادس من وادي النطرون يقول فيه: سمعت بتعيين القمص باخوم المحرقي نائبا بابويا لديروط فتألمت جدا, إنني والإكليريكية كلها والمعاهد الدينية أساتذة وطلبة لا نستغني عنه مطلقا, وليس من صالح الكرازة المرقسية أن يكون القمص باخوم بعيدا عن مراكز التعليم, فمكانه فيها لا يمكن لأحد أن يملأه.
واستطرد الأنبا شنودة قائلا:
أرجو غبطتكم من أجل المسيح أن ترجعه للإكليريكية, إن غيابه سبب بلبلة كبيرة للأفكار, وارتباكا في العمل, وألما للنفوس.
وعاد القمص باخوم المحرقي إلي القاهرة, وأرسل اعتذارا لصنبو: أرجو توفيرا للجهود أن تقبلوا اعتذاري عن درجة الأسقفية للإيبارشية بصفة قاطعة ونهائية. ونتيجة ضغط شعب ديروط وحضوره إلي القاهرة اضطر القمص باخوم للهروب خارج القاهرة.
يبدو أن عمل الكهنوت كان قادما لا محالة بالنسبة للقمص باخوم المحرقي, وكان قداسة البابا كيرلس السادس مصمما علي ذلك, علي أن يرسمه أسقفا, فبالرغم من الاعتذار الشديد دائما للكل ومحاولة إقناع قداسة البابا إلا أن كل شيء كان يحدث عكس ذلك, وفي العاشر من مايو 1967 حدثت الرسامة وهو ما لم يتوقعه أحد حتي القمص باخوم نفسه.
نستكمل الحديث عن قصة رسامة الأنبا غريغوريوس أسقفا في المقال القادم.