التحليل النفسي: سؤال الموضوعية وتحديات الذكاء الاصطناعي


فى مقدمة معجم مصطلحات التحليل النفسي (جان لابلانش وجان برتراند بونتاليس)، يستعرض المترجم د. مصطفى حجازي، وهو علامة فى مجاله، مصطلح التحليل النفسي بلغة رشيقة يسهل على القارئ غير المتخصص فهمها. وبخصوص التعريف، يستعرض د. حجازي ثلاثة أبعاد للتحليل النفسي وفق مؤسسه سيجموند فرويد (1856-1939)، وهى: أولا: أنه طريقة لاستقصاء العمليات العقلية من خلال تباين المعنى اللاواعي لكلام الشخص وأفعاله، وكذلك انتاجه الخيالي من أحلام وهوامات، من خلال عدة وسائل تقنية؛ ثانيا: طريقة فى العلاج النفسي للاضطرابات النفسية من خلال تأويل خطاب المريض وتعثراته ومقاومته….؛ ثالثا: وهو على صعيد آخر مجال النظريات النفسانية والتقنية التى تم تطويرها ما بين الأعوام 1894 و 1939، كي تشكل هذا المذهب العلمي الجديد. وبالتالي فإن التحليل النفسي يمكن تعريفه بوصفه عمليه استقصاء، واسلوب علاج، ومجال معرفي.

ومن حيث كونه مجالا معرفيا، يعتبر د. حجازي أن التحليل النفسي الذى أسسه فرويد يمثل نقلة معرفية تجاه أنظمة المعرفة السابقة ومسلماتها. ومع أن هذا الفرع المعرفي بدأ كطريقة لعلاج العصابيين، إلا أن تطبيقاته فى مجال العلوم الإنسانية أصبحت تشكل بعدا أساسيا من هذه العلوم، سواء فى التربية، أو الاجتماع والأنثروبولوجيا، والاقتصاد والسياسة، أو فى الأعمال الأدبية والفنية والنقد الأدبي. وبمقدار سعة انتشار تطبيقاته وخصبها والحماسة الزائدة لها من قبل أنصاره، عرف التحليل النفسي موجة عارمة من التشكيك والرفض والنقد، مما هو شأن كل نموذج معرفي يحمل تحولات فى الرؤى والمنظورات. وفي هذا السياق يضع التحليل النفسي فى مصاف التحولات الكبري التى حدث فى المعرفة البشرية، فيقول: “ويذكر فرويد ذاته أن البشرية تعرضت لجرحين نرجسيين كبيرين على يد كل من كوبرينك الذي أثبت أننا لسنا مركز الكون، وداروين الذي بين أننا لا نعدو كوننا فرعا من المملكة الحيوانية، وأن التحليل النفسي سيولد الجرح النرجسي الثالث الذي يتمثل فى أن الإنسان ليس سيد أفعاله (أى إنه مدفوع بدوافع تخفى عليه).

وبالنظر إلى التحليل النفسي كطريقة للعلاج، فإن الأمر يتسم بقدر كبير من الخصوصية التى تجعل التحليل النفسي موضع تقدير وتساؤل فى الوقت ذاته، فهذا الأسلوب يعتمد على معطيات ذاتية، أى القدرة على “تأويل خطاب المريض”، فكما هو معروف فإن نظام العلاج من خلال التحليل النفسي يجري بوصفه علاقة بين المريض والمحلل النفسي، ومادة التحليل هى “لغة اللاوعي” وهى، لغة مراوغة ومقنعة (من قناع) تهرب من الرقابة فتظل مكبوته، وبراعة المحلل تتمثل فى التحفيز والمساعدة من خلال مهارات الاستقصاء والتأويل لكي يتمكن المريض فتح أبواب ذاته المغلقة. وعندما يتجاوز الأمر حدود المهارات التقنية فإن الأسلوب يصبح فنا، وهذا ما نجده فى مصادر أخرى فوفق معجم مصطلحات علم النفس لمنير وهبة الخازن يتم تعريف التحليل النفسي بأنه فن وأن ممارسته تحتاج إلى قدر عظيم من الفطنة والذكاء والثقافة والأمانة وقوة الخلق فى الطبيب.

وهذه العوامل الذاتية هى، علي ما يبدو، التى تعطى مجال علم النفس خصوصيته وتجعله محل تساؤلات معرفية، سواء تعلق الأمر بذاتية المريض، أو ذاتية المحلل النفسي.. يقول أ. د. قدري حفني “يري البعض أنه طالما أن الاهتمام الأساسي لعلم النفس ينبغي أن يكون بالحياة العقلية للفرد، ومادام علم النفس هو العلم الوحيد المكرس خصيصا لما هو ذاتي، فإن الاستبطان- أوما إلى ذلك من سبل للنظر داخل العقل- ينبغي ان يكون بمثابة المنهج الرئيسي. ويرى آخرون أنه يستحيل إقامة علم يفتقد العمومية التي يتحتم توافرها لأى علم، وأن المعطيات العلمية الصادقة الوحيدة هى تلك التى يمكن للآخر ملاحظتها. وما دام أحد لا يستطيع أن يلاحظ مباشرة مجريات الحالة العقلية لشخص آخر، فإن على علم النفس أن يُلزم نفسه بحدود ما هو قابل للملاحظة العلنية الموضوعية. ويخلص إلى القول “أن أنصار الموضوعية يرون أن مجال علم النفس ينبغي أن يقتصر على دراسة السلوك، فى حين يرى أنصار الذاتية أن الموضوع الرئيسي لعلم النفس ينبغي أن يكون الخبرة”.

لا شك أن هناك معطيات أعمق فيما يتعلق بجدل الذاتية والموضوعية، ولكن هذه المسألة تظل موضع تساؤل لمن هم ينظرون إلى علم النفس والتحليل النفسي من خارج دوائره المتخصصة. فالبنسبة للقارئ غير المتخصص، كحال كاتب هذه السطور، قد ينظر إلى علم النفس والتحليل النفسي نظرة يشوبها عدم اليقين مقارنة بالمجالات العلمية الطبيعية والإنسانية القائمة على قوانين تتسم بقدر كبير من التجريد والعمومية. فعندما نذكر التحليل الكيميائى مثلا، فلا مجال للذاتية، وبالمقابل عندما يتعلق الأمر بالتحليل السياسي فيمكن أن نقر بقناعة بأنه لا يعدو كونه تعبيرا عن وجهات نظر، أما التحليل النفسي فربما يحتل موقعا وسطا بين الموضوعية والذاتية، وهذا ما يثير الالتباس.

وهذا الالتباس يتصل بالنقاشات الفكرية والثقافية العامة حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي فى مجال العلوم. وعندما يتعلق الأمر بالتحليل النفسي فإن الأمر يتجاوز حدود الأبعاد الفنية والتقنية، هذا إذا ما كان بالمقدور فعليا أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المحلل النفسي، ويصبح الأمر مقلقا من جوانب أخرى معرفية وإنسانية وحقوقية: فما هى الفرص والتحديات والمخاطر؟ فنحن نقرأ الكثير عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي فى المجالات الطبية المختلفة، ولكن هناك القليل فيما يتعلق بالتطبيقات فى مجال التحليل النفسي. وهل الذاتية المفروضة والتى تجعل المحلل النفسي طرفا أصيلا كمحفز ومؤول (من تأويل) فى جلسات التحليل النفسي، يمكن الاستعاضة عنها بذاتية اصطناعية أو مصطنعة؟ وفي هذا السياق ندعو المتخصصين إلى إيلاء مزيد من الاهتمام، البحثي والتثقيفي، لمواكبة المستجدات والتطورات فى هذا المجال، فعلي ما يبدو أن المخاطر قد تتجاوز المكاسب، وخاصة أننا فى زمن تزداد فيه أساليب وأدوات التلاعب والتحكم والسيطرة.

تاريخ الخبر: 2024-05-06 12:21:43
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 59%

آخر الأخبار حول العالم

ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-19 06:24:00
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 68%

الأرصاد: استمرار فرص هطول الأمطار على بعض المناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-19 06:23:57
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية