الإيثار في الإسلام

عودة للموسوعة


هذه الموضوعة جزء من سلسلة:

اَلْإِيثَارُ فِي اَلْإِسْلَامُ هوتفضيل الغير عن النفس، وتقديم مصلحتهِ علَى المصلحة الذاتية، وهوأَعلى درجات السخاء وأكْمَلُ أنْواعِ الجود وَمنزلة عظيمة من مَنازلِ العطاء. والإيثَار لغةً: مصدر آثر يُـؤْثِر إيثَارًا، بمعنى التَّقديم والاختيار والاختصاص، فآثره إيثارًا اختاره وفضله، وينطق: آثره على نفسه، والشيء بالشيء خصه به. والإيثَار اصطلاحًا: (أن يقدِّم غيره على نفسه في النَّفع له، والدَّفع عنه، وهوالنِّهاية في الأخوة).

ونطق ابن مسكويه: (الإيثار: هوفضيلة للنَّفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصُّه حتى يبذله لمن يستحقُّه).

الفرق بين الإيثار وغيرها من الصفات المقاربة

الفرق بين الإيثار والسخاء والجود

ذكر ابن قيم الجوزية فروقًا بين كلٍّ مِن الإيثار والسَّخاء والجود، مع أنَّها كلَّها أفعال بذلٍ وعطاء، فنطق: (وهذا المنزل – أي الإيثَار-: هومنزل الجود والسَّخاء والإحْسَان، وسمِّي بمنزل الإيثَار؛ لأنَّه أعلى مراتبه، فإنَّ المراتب ثلاثة:

إحداها: حتى لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهومنزلة السَّخاء.

الثَّانية: حتى يعطي الأكثر ويبقي له شيئًا، أويبقي مثل ما منح فهوالجود.

الثَّالثة: حتى يؤثر غيره بالشَّيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثار) .

فوائد الإيثار

الفرد

  • القضاء على البخل والأنانية.
  • التدريب على البذل والعطاء.
  • القبول عند الناس والقول الحسن.

المجتمع

  • انتشار حسن التعاون والتكافل.
  • توثيق الأخوة والمحبة بين الناس.
  • تجنب العداوة والحقد في المجتمع.

الحث على الإيثار في القرآن

نطق الله تعالى (في سورة الحشر): Ra bracket.png وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ Aya-9.png La bracket.png.

نطق الطبري: (يقول تعالى ذكره: وهويصفُ الأنصار: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) مِن قَبل المهاجرين، ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ)) يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) يقول: ولوكان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم).

ونطق ابن كثير: (أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم طالما احتياجهم إلى ذلك) .

ويقول ابن تيمية: (وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهوأكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤثرًا، ولا كلُّ متصدِّققد يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة).

ونطق تبارك وتعالى (في سورة البقرة): Ra bracket.png لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ Aya-177.png La bracket.png.

فبين الله تبارك وتعالى أنَّ مِن البرِّ بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والخط والأنبياء.. إطعام الطَّعام لمحتاجيه، وبذله لمريديه، مع حبِّه واشتهائه والرَّغبة فيه، وقد اتى به الله تعالى -أي: إطعام الطَّعام- بعد أركان الإيمان مباشرة، وفي ذلك دلالة على عظمته وعلومنزلته. نطق ابن مسعود في قوله (على حبِّه): هوحتى تتصدق وأنت سليم شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر..

نطق تعالى (في سورة الإنسان): Ra bracket.png عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا Aya-6.png إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا Aya-9.png La bracket.png.

وقد (اخْتُلِف في مرجع الضَّمير ((عَلَى حُبِّهِ))، هل هوراجع على الطَّعام أم على الله تعالى ،يا ترى؟ أي: ويطعمون الطَّعام على حُبِّ الطَّعام؛ لِقِلَّته عندهم وحاجتهم إليه، أم على حُبِّ الله راتى ثواب الله؟ وقد رجَّح ابن كثير المعنى الأوَّل، وهواختيار ابن جرير، وساق الشَّواهد على ذلك، كقوله: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)) [البقرة:177]، وقوله: ((لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) [آل عمران: 92].

والواقع أنَّ الاستدلال الأوَّل فيه ما في هذه الآية، ولكن أقرب دليلًا وأصرح قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر: 9] ) .

ونطق الله تعالى (في سورة آل عمران):Ra bracket.png لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ Aya-92.png La bracket.png.

(يعني: لن تنالوا وتدركوا البرَّ، الذي هواسمٌ جامعٌ للخيرات، وهوالطَّريق الموصل إلى الجنَّة، حتى تنفقوا ممَّا تحبُّون، مِن أطيب أموالكم وأزكاها. فإنَّ النَّفقة مِن الطَّيب المحبوب للنُّفوس، مِن أكبر الأدلَّة على سماحة النَّفس، واتِّصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقَّتها، ومِن أدلِّ الدَّلائل على محبَّة الله، وتقديم محبَّته على محبَّة الأموال، التي جبلت النُّفوس على قوَّة التَّعلُّق بها، فمَن آثر محبَّة الله على محبَّة نفسه، فقد بلغ الذِّروة العليا مِن الكمال، وكذلك مَن أنفق الطَّيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفَّقه أعمالًا وأخلاقًا، لا تحصل بدون هذه الحالة).

الحث على الإيثار في السنة النبوية

وعن أبي هريرة رضي الله عنه نطق: ((اتى رجل إلى النَّبيِّ فنطق: يا رسول الله، أي الصَّدقة أعظم أجرًا ،يا ترى؟ نطق: أن تصدَّق وأنت سليم شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)).

نطق ابن بطال: (فيه أنَّ أعمال البرِّ كلَّما صعبت كان أجرها أعظم، لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النَّفقة، وسوَّل له الشَّيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمَن تصدَّق في هذه الحال، فهومؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأمَّا إذا تصدَّق عند خروج نفسه، فيخشى عليه الضِّرار بميراثه والجوار في عمله).

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه نطق: نطق رسول الله : ((إنَّ الأشعريِّين إذا أرملوا في الغزو، أوقلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمَّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسَّويَّة، فهم منِّي، وأنا منهم)).

يقول العيني: (فيه منقبة عظيمة للأشعريِّين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه ....وفيه فضيلة الإيثَار والمواساة) .

ونطق أبوالعباس القرطبي: (هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الغالب على الأشعريين الإيثَار، والمواساة عند الحاجة... فثبت لهم بشهادة رسول الله : أنَّهم...كرماء مؤثرون).

عن أبي هريرة رضي الله عنه نطق: نطق رسول الله : ((طعام الاثنين كافي الثَّلاثة، وطعام الثَّلاثة كافي الأربع)). وفي لفظ لمسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثَّمانية)).

(نطق المهَلَّب: والمراد بهذه الأحاديث الحضُّ على المكارمة في الأكل والمواساة والإيثَار على النَّفس))، الذي مدح الله به أصحاب نبيَّه، فنطق: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9]. ولا يُراد بها معنى التَّساوي في الأكل والتَّشاح؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: ((كافي الثَّلاثة)) مرشد على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتَّقنُّع بالكفاية، وقد همَّ عمر بن الخطاب في سنة مجاعة حتى يجعل مع جميع أهل بيت مثلهم، ونطق: لن يهلك أحد عن نصف قوته).

درجات الإيثار

ذَكَر الهروي أنَّ للإيثار ثلاث درجات:

  • الدَّرجة الأولى: (أن تؤثر الخَلْق على نفسك فيما لا يَحْرُم عليك دينًا، ولا يبتر عليك طريقًا، ولا يفسد عليك وقتًا)..

نطق ابن القيم في شرحه لهذه الدَّرجة: (يعني: حتى تُقدِّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: حتى تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدِّي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدِّين) .

  • الدَّرجة الثَّانية: (إيثار رضى الله تعالى على رضى غيره، وإن عَظُمَت فيه المحن وثَقُلَت به المؤن، وضَعُفَ عنه الطول والبدن).

نطق ابن القيِّم: (هوحتى يريد ويعمل ما فيه سقماته، ولوأغضب الخَلْق، وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم)

  • الدَّرجة الثَّالثة: (إيثارُ إيثارِ الله تعالى: فإنَّ الخوض في الإيثَار دعوى في الملك، ثمَّ تَرْك شهود رؤيتك إيثار الله، ثمَّ غيبتك عن التَّرك).

نطق ابن القيم: (يعني بإيثار إيثار الله: حتى تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنَّه هوالذي تفرَّد بالإيثَار لا أنت، فكأنَّك سلمت الإيثَار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإنَّ الذي آثره هوالحقُّ لا أنت، فهوالمؤْثر حقيقة... وقوله: ثمَّ هجر شهود رؤيتك إيثار الله، يعني أنَّك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثَار إليه: بقيت عليك مِن نفسك بقيَّةٌ أخرى لابدَّ مِن الخروج عنها وهي: حتى تُعْرِض عن شهودك رؤيتك أنَّك آثرت الحقَّ بإيثارك، وأنَّك نسبت الإيثَار إليه لا إليك... وقوله: ثمَّ غيبتك عن التَّرك. يريد: أنَّك إذا نزلت هذا الشُّهود وهذه الرُّؤية: بقيت عليك بقيَّةٌ أخرى وهي رؤيتك لهذا التَّرك المتضمِّنة لدعوى ملكك للتَّرك، وهي دعوى كاذبة؛ إذ ليس للعبد شيء مِن الأمر، ولا بيده عمل ولا هجر، وإنَّما الأمر كلُّه لله) .

أقسام الإيثار

1* إيثار رضا اَللَّه عزَّ وجَلْ على رضا غيرهِ وإن عُظِمَة فِيهِ المحَن وأغظب الخلقُ.

يقول ابن القيِّم: (والإيثَار المتعلِّق بالخالق أجلُّ مِن هذا -أي مِن الإيثَار المتعلِّق بالخلق- وأفضل، وهوإيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبِّه على حبِّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذُّل له والخضوع والاستكانة والضَّراعة والتملُّق على بذل ذلك لغيره، وكذلك إيثار الطلب منه والسُّؤال وإنزال الفاقات به على تعلُّق ذلك بغيره). ولهذا النَّوع مِن الإيثَار علامتان تدلان عليه، لا بدَّ حتى تظهرا على مدَّعيه، وهما:

  1. الأول: حتى يعمل المرء كلَّ ما يحبُّه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبُّه الله مكروهًا إلى نفسه، ثقيلًا عليه.
  2. الثَّاني: حتى يهجر ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبَّـــبًا إليه، تشتهيه نفسه، وترغِّب فيه.

يقول ابن القيِّم: (فبهذين الأمرين يصحُّ مقام الإيثَار).

ومؤنة هذا الإيثَار شديدة لغلبة الأغيار، وقوَّة داعي العادة والطَّبع، فالمحنة فيه عظيمة، والمؤنة فيه شديدة، والنَّفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلَّا به، وإنَّه ليسيرٌ على مَن يسَّره الله عليه. فحقيق بالعبد حتى يسموإليه وإن صَعُب المرتقى، وأن يشمِّر إليه وإن عَظُمَت فيه المحنة، ويحمل فيه خطرًا يسيرًا لملْك عظيم وفوز كبير، فإنَّ ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء مِن الأعمال، ويسيرٌ منه يرقِّي العبد ما لا يرقى غيره إليه في المدَد المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.

2* إيثار الآخرين علَى النفس وتقديم مصلحتهم على المصلحة الشخصية وهُودرجة عالية في البذل والتضحية. قسَّم ابن عثيمين هذا النَّوع مِن الإيثَار إلى ثلاثة أقسام: (الأوَّل: ممنوع، والثَّاني: مكروه أومباح، والثَّالث: مباح.

- القسم الأوَّل: وهوالممنوع: وهوحتى تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعًا، فإنَّه لا يجوز حتى تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعًا... فالإيثَار في الواجبات الشَّرعية حرام، ولا يحل لأنَّه يستلزم إسقاط الواجب عليك.

- القسم الثَّاني: وهوالمكروه أوالمباح: فهوالإيثَار في الأمور المستحبة، وقد كرهه بعض أهل الفهم، وأباحه بعضهم، لكن تَــركُه أولى لا شكَّ إلَّا لمصلحة.

- القسم الثَّالث: وهوالمباح: وهذا المباح قد يحدث مستحبًّا، وذلك حتى تؤثر غيرك في أمر غير تعبُّدي أي تؤثر غيرك، وتقدِّمه على نفسك في أمرٍ غير تعبُّدي).

  • شروط هذا النَّوع مِن الإيثَار:

ذكر ابن القيم شروطًا للإيثَار المتعلِّق بالمخلوقين تنقله مِن حيِّز المنع أوالكراهة إلى حيِّز الإباحة منها: 1- حتى لا يضيع على المؤْثِر وقته. 2- حتى لا يتسبَّب في إفساد حاله. 3- حتى لا يهضم له دينه. 4- ألَّاقد يكون سببًا في سدِّ طريق خير على المؤْثِر. 5- حتى لا يمنع للمُؤْثر واردًا.

فإذا توفَّرت هذه الشُّروط كان الإيثَار إلى الخَلْق قد بلغ كماله، أمَّا إذا وُجِد شيء مِن هذه الأمور كان الإيثَار إلى النَّفس أَوْلَى مِن الإيثَار إلى الغير، فالإيثَار المحمود -كما نطق ابن القيِّم هو: (الإيثَار بالدُّنْيا لا بالوقت والدِّين وما يعود بصلاح القلب).

أنواع الإيثار

1- نوع فطري أوغريزي:

كالذيقد يكون عند الآباء والأمَّهات وأصحاب العِشْق، وهذا كما يقول عبد الرحمن الميداني الباعث إليه فطري في النُّفوس ينتج عنه حبٌّ شديدٌ عارم، والحبُّ مِن أقوى البواعث الذَّاتية الدَّافعة إلى التَّضْحية بالنَّفس وكلُّ ما يتَّصل بها مِن مصالح وحاجات مِن أجل سلامة المحبوب أوتحقيق رضاه، أوجلب السَّعادة أوالمسرَّة إليه.

تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((اتىتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كلَّ واحدة منهما تمرة. وحملت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت ترغب حتى تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنطق: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، أوأعتقها بها مِن النَّار)). فهذا الإيثَار دافعه حبُّ الأم لابنتيها ورحمتها بهما.

2- نوعقد يكون الدَّافع هوالإيمان، وحبَّ الخير للغير، على حساب النَّفس وملذَّاتها ومشتهياتها، وهوكما نطق الميداني: (ليس إيثارًا انفعاليًّا عاطفيًّا مجردًا، ولكنَّه إيثار يعتمد على محاكمة منطقيَّة سليمة، ويعتمد على عاطفة إيمانيَّة عاقلة).

وسائل اكتساب صفة الإيثَار

نطق ابن القيِّم: (فإن قيل: فما الذي يسهِّل على النَّفس هذا الإيثَار، فإنَّ النَّفس مجبولة على الأَثَـــرَة لا على الإيثَار،يا ترى؟ قيل: يسهِّله أمور:

- أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها؛ فإنَّ مِن أفضل أخلاق الرَّجل وأشرفها وأعلاها: الإيثَار. وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبَّته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.

- الثَّاني: النُّفرة مِن أخلاق اللِّئام ومقت الشُّح وكراهته له.

- الثَّالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهويرعاها حقَّ رعايتها، ويخاف مِن تضييعها، ويفهم أنَّه إذا لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدِّه؛ فإنَّ ذلك عَسِر جدًّا، بل لا بد مِن مجاوزته إلى الفضل أوالتَّقصير عنه إلى الظُّلم، فهو-لخوفه مِن تضييع الحقِّ، والدُّخول في الظُّلم- يختار الإيثَار بما لا ينقصه ولا يضرُّه، ويكتسب به جميل الذِّكر في الدُّنْيا، وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثَار مِن البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه مِن إيثاره أفضل ممَّا بذله، ومَن جرَّب هذا عهده، ومَن لم يجرِّبه فليستقرئ أحوال العالم، والموفَّق مَن وفَّقه الله سبحانه وتعالى).

من قصص الإيثار

- عن سهل بن سعد، نطق: ((اتىت امرأة ببردة، نطق: أتدرون ما البردة،يا ترى؟ فقيل له: نعم، هي الشَّملة منسوج في حاشيتها. نطقت: يا رسول الله، إنِّي نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النَّبيُّ محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها إزاره، فنطق رجل مِن القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فنطق: (نعم). فجلس النَّبيُّ في المجلس، ثمَّ عاد فطواها، ثمَّ أوفد بها إليه، فنطق له القوم: ما أحسنت، سألتها إيَّاه، لقد فهمت أنَّه لا يردُّ سائلًا. فنطق الرَّجل: والله ما سألته إلَّا لتكون كفني يوم أموت. نطق سهل: فكانت كفنه)).

- عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ ، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلَّا الماء. فنطق رسول الله : مَن يضمُّ- أويضيف- هذا،يا ترى؟ فنطق رجل مِن الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فنطق: أكرمي ضيف رسول الله . فنطقت: ما عندنا إلَّا قوت صبياني. فنطق: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثمَّ قامت كأنَّها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين، فلمَّا أصبح غدا إلى رسول الله ، فنطق: ضحك الله اللَّيلة-أوعجب مِن فعالكما-، فأنزل الله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:9])) .

-وعن أنس بن مالك رضي الله عنه نطق: ((لما قدم المهاجرون المدينة نزلوا على الأنصار في دورهم، فنطقوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أبذل في كثير منهم، لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة، ولقد خشينا حتىقد يكونوا مضىوا بالأجر كلِّه. فنطق رسول الله : كلَّا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم به عليهم)). - وهذا عبد الرحمن بن عوف ((لـمَّا قدم المدينة آخى النَّبيُّ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاريِّ، وعند الأنصاريِّ امرأتان، فعرض عليه حتى يناصفه أهله وماله، فنطق له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السُّوق...)).

- وفي غزوة اليرموك نطق عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله في مواطن وأفرُّ منكم اليوم؟! ثمَّ نادى: مَن يبايع على الموت،يا ترى؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة مِن وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدَّام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعًا جراحًا، وقُتِل منهم خلقٌ، منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم... فلمَّا صرعوا مِن الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلمَّا قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فنطق: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فنطق: ادفعها إليه. فتدافعوها كلُّهم -مِن واحد إلى واحد- حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم -رضي الله عنهم- أجمعين.

- نطق ابن عمر رضي الله عنه: أهدي لرجل مِن أصحاب رسول الله رأس شاة، فنطق: إنَّ أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منَّا. فبعث به إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوَّل، فنزلت: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ~[الحشر: 9].

- خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم، وفيه غلام أسود يعمل فيه، إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلبٌ ودنا مِن الغلام، فرمى إليه الغلام بقرصٍ فأكله، ثمَّ رمى إليه الثَّاني والثَّالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه، فنطق: يا غلام، كم قوتك كلَّ يوم،يا ترى؟ نطق: ما رأيت. نطق: فلِمَ آثرت به هذا الكلب؟! نطق: ما هي بأرض كلاب، إنَّه اتى مِن مسافة بعيدة جائعًا، فكرهت حتى أشبع وهوجائع. نطق: فما أنت صانع اليوم؟! نطق: أطوي يومي هذا. فنطق عبد الله بن جعفر: أُلام على السَّخاء! إنَّ هذا الغلام لأسخى منِّي. فاقتنى الحائط والغلام وما فيه مِن الآلات، فأعتق الغلام ووهبه منه.

-ودخل على عائشة رضي الله عنها مسكينٌ فسألها -وهي صائمة وليس في بيتها إلَّا رغيف- فنطقت لمولاة لها: أعطيه إيَّاه. فنطقت: لا يناسبك ما تفطرين عليه،يا ترى؟ فنطقت: أعطيه إيَّاه. نطقت: فعملتُ. نطقت: فلمَّا أمسينا أهدى لنا أهل بيت أوإنسان ما كان يُهدِي لنا: شاة وكفنها. فدعتني عائشة فنطقت: كلي مِن هذا، فهذا خيرٌ مِن قرصك).

- وعن أبي الحسن الأنطاكيِّ: أنَّه اجتمع عنده نيِّف وثلاثون رجلًا بقرية مِن قرى الرَّيِّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشْبِع جميعهم، فكسروا الرُّغفان، وأطفئوا السِّراج، وجلسوا للطَّعام، فلمَّا رُفع فإذا الطَّعام بحاله، لم يأكل منه أحد شيئًا إيثارًا لصاحبه على نفسه.

طالع أيضاً

  • عطاء.
  • سخاء.

مراجع

  1. ^ Neusner, Jacob Eds (2005). Altruism in World Religions. Washington, D.C.: Georgetown Univ. Press. صفحات 79–80. ISBN .
  2. ^ M (2004). Key Concepts in the Practice of Sufism: Emerald Hills of the Heart. Rutherford, N.J.: Fountain. صفحات 10–11. ISBN .
  3. ^ المعجم الوسيط (ص1/5)
  4. ^ التعريفات للجرجاني (1/59)
  5. ^ (تهذيب الأخلاق) المنسوب للجاحظ (19)
  6. ^ مدارج السالكين لابن القيم (2/292)
  7. ^ جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (ص22/527)
  8. ^ تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ص8/70)
  9. ^ منهاج السنة النبوية لابن تيمية (7/129)
  10. ^ تفسير السمعاني (1/172)
  11. ^ أضواء البيان لمحمد الأمين الشنقيطي (ص8/394)
  12. ^ تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص1/970)
  13. ^ رواه مسلم (1032) والبخاري (13/19)
  14. ^ شرح سليم البخاري (5/193)
  15. ^ رواه مسلم (2500) والبخاري (2486)
  16. ^ عمدة القاري للعيني (13/44)
  17. ^ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/452)
  18. ^ رواه مسلم (2058) والبخاري (5392)
  19. ^ شرح سليم البخاري لابن بطال (9/471)
  20. ^ منازل السائرين لعبد الله الأنصاري الهروي (22/138)
  21. ^ مدارج السالكين لابن القيم (2/297)
  22. ^ مدارج السالكين لابن القيم (2/311)
  23. طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم
  24. ^ شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين
  25. ^ رواه مسلم
  26. ^ الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن الميداني
  27. رواه البخاري
  28. ^ البداية والنهاية لابن كثير
  29. ^ رواه البيهقي والحاكم
  30. ^ أحياء علوم الدين ،للغزالي
  31. ^ رواه مالك في الموطأ

وصلات خارجية

تاريخ النشر: 2020-06-01 23:09:15
التصنيفات: أخلاق إسلامية, أخلاقيات اجتماعية, إيثار, صفحات لا تقبل التصنيف المعادل, بوابة الإسلام/مقالات متعلقة, بوابة أخلاقيات/مقالات متعلقة, جميع المقالات التي تستخدم شريط بوابات

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الزمالك فى صدارة جدول الدوري المصرى قبل ختام الجولة العاشرة اليوم

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:35
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 35%

رئيس الوزراء البريطاني يتعهد بمواصلة دعم أوكرانيا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:53
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 66%

بوادر على انسحاب بعض القوات الإرتيرية من إقليم تيجراي

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:42
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 68%

الرئيس الصينى يقيل وزير الخارجية ويعين "تشين جانج" بدلا منه

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:31
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 49%

ترجمة خاطئة أثارت ذعر العالم.. متحور كورونا الجديد لا يدعى "

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:39
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 66%

7 مباريات نارية تنتظر الأهلى فى يناير 2023.. أهمها الزمالك وبيراميدز

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:24
مستوى الصحة: 31% الأهمية: 46%

7 مباريات نارية تنتظر الزمالك فى يناير 2023.. أهمها مع الأهلى وبيراميدز

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:29
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 41%

إسبانيا تفرض قيودا مشددة على الوافدين من الصين

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:49
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 68%

رئيس جامعة بنها يترأس اجتماع مجلس الجامعة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:21:57
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 63%

نونيز: محمد صلاح أفضل من ميسي ورونالدو "فيديو"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:34
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 44%

غدا شبورة كثيفة على الطرق وفرص أمطار خفيفة والصغرى بالقاهرة 10 درجات

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2022-12-30 15:22:32
مستوى الصحة: 41% الأهمية: 46%

تحميل تطبيق المنصة العربية