القاضي عياض

عودة للموسوعة

القاضي عياض

القاضي عياض (15 شعبان 476هـ/28 ديسمبر 1083م -تسعة جمادى الآخر 544هـ/14 أكتوبر 1149م) حافظ وفقيه وأديب مغربي.

"مقام عياض مثل مقام البخاري والأئمة الأربعة؛ فهم حملة الشريعة وعلومها التي يبثُّونها في صدور الرجال بالتلقين والتأليف، ذَبُّوا عن الشريعة بسيوف علومهم؛ فبقيت علومهم خالدة تالدة إلى الأبد، وكم من ولي لله كان معهم وبعدهم بكثير، كان لهم تلاميذ وأوراد، وانبترت تلك الأوراد وباد المريدون بمرور الأزمان، وأئمة الفهم ما زالوا بعلومهم كأنهم أحياء.." هذا الكلام النفيس من بيان أبي عبد الله محمد الأمين في كتابه "المجد الطارف والتالد"، يصف مكانة القاضي عياض الفهمية، وقدره الرفيع بين فهماء الإسلام، وليس في كلام الشيخ مبالغة أوتزويد؛ فقد حقق القاضي عياض شهرة واسعة حتى قيل: لولا عياض لما عُرف المغرب، وكأنهم يعنون –في جملة ما يعنون- أنه أول من لفت نظر فهماء المشرق إلى فهماء المغرب حتى أواسط القرن السادس الهجري.

المولد والنشأة

يعود نسب القاضي "عياض بن موسى اليحصبي" إلى إحدى قبائل اليمن العربية القحطانية، وكان أسلافه قد نزلوا مدينة "بسطة" الأندلسية من نواحي "غرناطة" واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة "فاس" المغربية، ثم غادرها جده "عمرون" إلى مدينة "سبتة" حوالي سنة (373 هـ = 893م)، واشتهرت أسرته بـ"سبتة"؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض في (15 شعبان 476هـ = 28 ديسمبر 1083م)، ونشأ بها وتفهم، وتتلمذ على شيوخها.


الرحلة في طلب الفهم

رحل عياض إلى الأندلس سنة (507هـ = 1113م) طلبًا لسماع الحديث وتحقيق الروايات، وطاف بحواضر الأندلس التي كانت تفخر بشيوخها وأعلامها في الفقه والحديث؛ فنزل قرطبة أول ما نزل، وأخذ عن شيوخها المعروفين كـ"ابن عتاب"، و"ابن الحاج"، و"ابن رشد"، و"أبي الحسين بن سراج" وغيرهم، ثم رحل إلى "مرسية" سنة (508هـ = 1114م)، والتقى بأبي علي الحسين بن محمد الصدفي، وكان حافظًا متقنًا حجة في عصره، فلازمه، وسمع عليه السليمين البخاري ومسلم، وأجازه بجميع مروياته.

اكتفى عياض بما حصله في رحلته إلى الأندلس، ولم يلبث حتى رحل إلى المشرق مثلما يعمل غيره من طلاب الفهم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة الفهمية في الأندلس وظهور عدد كبير من فهمائها في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، يناظرون في سعة فهمهم ونبوغهم فهماء المشرق المعروفين.

عاد عياض إلى "سبتة" غزير الفهم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب الفهم وطلاب الفتوى، وكانت عودته في (7 من جمادى الآخرة 508هـ =تسعة من أكتوبر 1114م)، وجلس للتدريس وهوفي الثانية والثلاثين من عمره، ثم تقلد منصب القضاء في "سبتة" سنة (515 هـ = 1121م) وظل في منصبه ستة عشر عامًا، كان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ثم تولى قضاء "غرناطة" سنة (531هـ = 1136م) وأقام بها مدة، ثم عاد إلى "سبتة" مرة أخرى ليتولى قضاءها سنة (539هـ = 1144م).

القاضي عياض محدثًا

كانت حياة القاضي عياض موزعة بين القضاء والإقراء والتأليف، غير حتى الذي أذاع شهرته، وخلَّد ذكره هومصنفاته التي بوَّأَتْه مكانة رفيعة بين كبار الأئمة في تاريخ الإسلام، وحسبك مؤلفاته التي تشهد على سعة الفهم وإتقان الحفظ، وجودة الفكر، والتبحر في فنون مختلفة من الفهم.

وكان القاضي عياض في فهم الحديث الفذَّ في الحفظ والرواية والدراية، العارف بطرقه، الحافظ لرجاله، البصير بحالهم؛ ولكي ينال هذه المكانة المرموقة كان سعيه الحثيث في سماع الحديث من رجاله المعروفين والرحلة في طلبه، حتى تحقق له من علوالإسناد والضبط والإتقان ما لم يتحقق إلا للجهابذة من المحدِّثين، وكان منهج عياض في الرواية يقوم على التحقيق والتدقيق وتوثيق المتن، وهويعد النقل والرواية الأصل في إثبات صحة الحديث، وتشدد في قضية النقد لمتن الحديث ولفظه، وتأويل لفظه أوروايته بالمعنى، وما يجره ذلك من أبواب الخلاف.

وطالب المحدث حتى ينقل الحديث مثلما سمعه ورواه، وأنه إذا انتقد ما سمعه فإنه يجب عليه إيراد ما سمعه مع التنبيه على ما فيه؛ أي أنه يروي الحديث كما سمعه مع بيان ما يَعِنُّ له من تصويب فيه، دون بتر برأي يؤدي إلى الجرأة على الحديث، ويفتح بابًا للتهجم قد يحمل صاحبه على التعبير والتصرف في الحديث بالرأي.

وألَّف القاضي في شرح الحديث ثلاثة خط هي: "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" وهومن أدَلِّ الخط على سعة ثقافة عياض في فهم الحديث وقدرته على الضبط والفهم، والتنبيه على مواطن الخطأ والوهم والزلل والتصحيف، وقد ضبط عياض في هذا الكتاب ما التبس أوأشكل من ألفاظ الحديث الذي ورد في السليمين وموطأ مالك، وشرح ما غمض في الخط الثلاثة من ألفاظ، وحرَّر ما سقط فيه الاختلاف، أوتصرف فيه الرواة بالخطأ والتوهم في السند والمتن، ثم رتَّب هذه الحدثات التي عرض لها على ترتيب حروف المعجم.

أما الكتابان الآخران فهما "إكمال المفهم" شرح فيه سليم مسلم، و"بغية الرائد لما في حديث أم غرس من الفوائد".

وله في فهم الحديث كتاب عظيم هو" الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع"

... فقيهًا

درس القاضي عياض على شيوخه بـ"سبتة" المدونة لابن سحنون، وهومؤلَّف يدور عليه الفقه المالكي، ويُعَدُّ مرجعَهُ الأول بلا منازع، وقد كُتبت عليه الشروح والمختصرات والحواشي، غير حتى المدونة لم تكن حسنة التبويب؛ حيث تتداخل فيها المسائل المتنوعة في الباب الواحد، وتعاني من عدم إحكام وضع الآثار مع المسائل الفقهية.

وقد لاحظ القاضي عياض هذا عند دراسته "المدونة" على أكثر من شيخ؛ فنهض إلى عمل عظيم، فحرَّر رواياتها، وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في كتابه "التنبيهات المستنبَطة على الخط المدونة والمختلطة" ولا شكَّ حتى قيام القاضي عياض بمثل هذا العمل يُعد خطوة مهمة في سبيل ضبط الممضى المالكي وازدهاره.

القاضي عياض مؤرخًا

ودخل القاضي ميدان التاريخ من باب الفقه والحديث، فألَّف كتابه المعروف " تدريب المدارك"، وهويُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال الممضى المالكي ورواة "الموطأ" وفهمائه، وقد استهلَّ الكتاب ببيان فضل فهم أهل المدينة، ودافع عن نظرية المالكية في الأخذ بعمل أهل المدينة، باعتباره عندهم من أصول التشريع، وحاول ترجيح ممضىه على سائر المذاهب، ثم شرع في الترجمة للإمام مالك وأصحابه وتلاميذه، وهويعتمد في كتابه على نظام الطبقات دون اعتبار للترتيب الألفبائي؛ حيث أورد بعد ترجمة الإمام مالك ترجمة أصحابه، ثم أتباعهم طبقة طبقة حتى وصل إلى شيوخه الذين عاصرهم وتلقى على أيديهم.

والتزم في طبقاته التوزيع الجغرافي لمن يترجم لهم، وخصص لكل بلد عنوانًا يدرج تحته فهماءه من المالكية؛ فخصص للمدينة ومصر والشام والعراق عناوين خاصة بها، وإن كان ملتزما بنظام الطبقات.

وأفرد لفهمائه وشيوخه الذين التقى بهم في رحلته كتابه المعروف باسم "الغُنية"، ترجم لهم فيه، وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه "المعجم" تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان "الصدفي" عالمًا عظيما اتسعت مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لفهماء المشرق والمغرب؛ لكثرة ما قابل من الفهماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.


... أديبًا

غلاف كتاب الشفا للقاضي عياض

وكان القاضي أديبًا كبيرًا إلى جانب كونه محدثًا فقيهًا، له بيان قوي وأسلوب بليغ، يشف عن ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن ذلك غريبًا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة خط اللغة والأدب حرصه على تلقي الحديث والفقه، فقرأ أمهات خط الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما عمل مع خط الحديث والآثار، فدرس "الكامل" للمبرد و"أدب المحرر" لابن قتيبة، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت، و"ديوان الحماسة"، و"الأمالي" لأبي علي النطقي.

وكان لهذه الدراسة أثرها فيما خط وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير.

وللقاضي شعر دوَّنته الخط التي ترجمت له، ويدور حول النسيب والتشوق إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمعروف حتى حياته الفهمية وانشغاله بالقضاء صرفه عن أداء فريضة الحج، ومن شعره الذي يعبر عن شوقه ولوعته الوجدانية ولهفته إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم):

بشراك بشراك فقد لاحت قبابهم

فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار

هذا المحصب، هذا الخيف خيف منى

هذي منازلهم هذي هي الدار

هذا الذي وخذت شوقًا له الإبل

هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل

هذا الذي ما رأتْ عين ولا سمعت

أذْنٌ بأكرمَ من كَفِّهِ إذا سألوا

ولا يمكن لأحد حتى يغفل كتابه العظيم "الشفا بأحوال المصطفى" الذي تناول فيه سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقصد من كتابه إحاطة الذات النبوية بكل ما يليق بها من العصمة والتفرد والتميز عن سائر البشر، في الوقت الذي كانت فيه آراء جانحة تخوض في مسألة النبوة، وتسوِّي بين العقل والوحي. ولما كان النص الشرعي مصدرًا أساسيًا للفهم وأصلا لا يحتمل النزاع فيه متى ثبت بالسند السليم، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مصدر هذه الفهم، فقد انبرى القاضي عياض ببيان مقام النبوة وصيانته من جميع ما لا يليق به.

وفاته

عاش القاضي عياض الشطر الأكبر من حياته في ظل "دولة المرابطين"، التي كانت تدعم الممضى المالكي، وتكرم فهماءه، وتوليهم مناصب القيادة والتوجيه، فلما حلَّ بها الضعف ودبَّ فيها الوهن ظهرت "دولة الموحدين"، وقامت على أنقاض المرابطين، وكانت دولة تقوم على أساس دعوة دينية، وتهدف إلى تحرير الفكر من جمود الفقهاء والعودة إلى القرآن والسنة بدلاً من الانشغال بالفروع الفقهية، وكان من الطبيعي حتى يصطدم القاضي عياض -بتكوينه الثقافي وممضىه الفقهي- مع الدولة القادمة، بل قاد أهل "سبتة" للثورة عليها، لكنها لم تفلح، واضطر القاضي حتى يبايع زعيم "الموحدين" عبد المؤمن بن علي الكومي.

ولم تطُلْ به الحياة في عهد "الموحدين"، فتوفي في (9 جمادى الآخرة 544 هـ = 14 أكتوبر 1149م)

من مصادر الدراسة:

ابن بشكوال: كتاب الصلة ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ـ 1966م.

القاضي عياض: ترتيب المدارك ـ تحقيق أحمد بكير محمود ـ مخطة الحياة ـ بيروت ـ بدون تاريخ.

محمد الكتاني: القاضي عياض، الشخصية والدور الثقافي ـ مجلة الدارة ـ العدد الرابع ـ السنة السادسة عشر ـ 1411.


إسلام أون لاين: القاضي عياض.. حافظ المغرب       تصريح

تاريخ النشر: 2020-06-04 04:11:29
التصنيفات: عن إسلام أون لاين.نت, مغاربة, فقهاء مغاربة, علماء الحديث, أدباء مغاربة, مؤرخون مغاربة, مواليد 1083, مواليد 476 هـ, وفيات 544 هـ, وفيات 1149

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

أرسنال يكتسح إيندهوفن الهولندى برباعية فى دوري أبطال أوروبا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:23:19
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 47%

اجتماع البنك المركزي المصري خلال ساعات - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:20:43
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 70%

أخبار × 24 ساعة.. الزراعة: وقف تصدير أى سلعة حال تخزينها بقصد التلاعب

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:23:23
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 50%

“شكري” يلقي كلمة خلال قمة الطموح المناخي

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:22:29
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

الأسهم الأمريكية تغلق عند أدنى مستوى في 3 أسابيع رغم تثبيت الفائدة

المصدر: صحيفة الإقتصادية - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:23:07
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 45%

مجلس جامعة بنها يكرم مدير عام رعاية الشباب بالجامعة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:22:19
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

مسؤول أرميني: مقتل 200 شخص وإصابة 400 في معارك كاراباج - أخبار مصر

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:20:50
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 68%

بعد المصايف وتغيرات الجو.. طرق الحصول على بشرة نضرة فى الخريف

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:23:28
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 46%

"سو" طفلة الكبير أوى تحتفل بزفافها.. انظر كيف أصبح شكلها

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:23:14
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 45%

"عيشوشة" عرض عن الموسيقى التقليدية التونسية

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-09-21 00:20:11
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 52%

تحميل تطبيق المنصة العربية