النظائر المشعة
تُعد النظائر المشعة من أبرز اكتشافات الفهم الحديث وأعظمها، ومن أبرز ما حققه الفكر الإنساني في الغوص إلى عالم الصغائر، للإجابة عن تساؤلات الحضارات المتلاحقة، حول المادة وسر تكوينها، فقد تمت الإجابة عن الكثير من التساؤلات، وأعطت النظائر المشعة بعض الإجابات الوافية والشافية عن تكوين الذرة والغوص في عمق النواة، وما زالت تساؤلات أخرى قائمة يطمح العقل البشري إلى الإجابة عنها كي يتعهد تعهداً موثوقاً ومؤكداً على القوانين الطبيعية، التي تتحكم في الكون من أصغر الصغائر (الذرة) إلى أكبر الكبائر (الكون وبضمنه ما فيه ومن فيه). تحتوي المادة المكونة للطبيعة على اثنين وتسعين عنصراً، نظمها العالم (مندلييف) في جدول دوري ورتبها في بيوت حسب رقمها الذري من الهيدروجين (1) إلى اليورانيوم (92)، وأضيف إليها خمسة عشر عنصراً، تم تصنيعها واكتشافها وتحديد مكانها في جدول العناصر (بعد بيت اليورانيوم)، وقد كانت النظرية السائدة حتى جميع ذرات العنصر الواحد متماثلة في الخاصيات، وتعطي النتائج نفسها في التفاعلات الكيميائية، إلى حتى تبين من خلال دراسة العناصر بطريقتي القطوع والمحلل الطيفي للكتلة، حتى أغلب العناصر تعطي أكثر من بتر واحد ومن طيف واحد، وهذا يتناقض مع نظرية التماثل والتجانس، التي تستوجب وجود بتر واحد وطيف واحد، واستنتجت التجربة حتى ذرات العنصر الواحد غير متماثلة في الكتلة، وبالتالي فهي مزيج ذوخاصيات كيميائية واحدة، وفيزيائية مختلفة، وبما حتى ذراته متوازنة كهربائياً، فهي تضم في مداراتها العدد نفسه من الإلكترونات السالبة، التي توازنها الشحنة الموجبة نفسها في النواة. وقد بينت التجارب على الأوكسجين الطبيعي أنه مزيج من ثلاث نظائر مستقرة: الأوكسجين 16 (16O8) والأوكسجين17 (17O8) والأوكسجين18 (18O8)، والزئبق مزيج من تسعة نظائر... إلخ، وأطلق على هذه النظائر اسم isotopes، من اليونانية iso وتعني (نفس)، وtopes وتعني (مكان)، للتذكير بأنها تحتل المكان نفسه في جدول مندلييف الدوري للعناصر. وقد منح اكتشاف النترون عام 1932 تفسيراً جديداً لهجريب النواة، وأصبح التعريف الجديد للنظائر على أنها الذرات التي تضم العدد نفسه من الإلكترونات والبروتونات، لكنها تختلف في عدد نتروناتها، وكان لهذا الاختلاف في عدد النترونات نتائج هامة في الفيزياء النووية، إذ تتغير به بنية النواة، وتتبدل خصائصها واستقرارها بإضافة نترون واحد أوبحذفه منها، فتصبح فاقدة للاستقرار وفي حالة هيجان، وتصدر إشعاعات تختلف نوعيتها حسب درجة الإثارة، وتسمى هذه الذرات الهائجة بالنظائر المشعة. وتتكون الإشعاعات التي تصدرها الذرات المشعة طبيعياً، أوالذرات المستقرة التي سقط تهيجها وإثارتها في المفاعلات أوفي المسرعات، من إشعاعات ذات طاقة مرتفعة (غاما)، أومن جزيئات مادية مشحونة بالكهرباء (السالبة والموجبة) مثل جزيئات بيتا (السالبة) وبيتا (الموجبة) وألفا (الموجبة)، وكذلك إشعاعات أخرى صنفت جميعها في مجموعات هي: الفوتونات، واللبتونات، والميزونات، والباريونات. في البداية جرى الكشف عن النظائر المشعة بوساطة جهاز سهل متكون من وريقات مضى، وأول من فكر في استعمال هذا المكشاف في اقتفاء أثر المادة المشعة هو(هيفزي) الحاصل على جائزة نوبل عام 1943 عندما كان طالباً ومعيداً في مانشستر عام 1911، فقد كان يتناول طعاماً مطبوخاً منذ أيام وأسابيع، تقدمه له ربة المنزل المتواضع الذي كان يسكنه لتناسبه مع حالته المادية، فتشكك فيه، وتكدر منه، ولم يكن لديه مرشد على إثبات قدمه، فما كان منه إلا حتى وضع مادة مشعة في الطعام المتبقي من العشاء، وبعد أيام قدَّمت له الجارة الطعام نفسه، فقرَّب منه مكشاف الإشعاع البسيط، فشاهد حالاً انفراج وريقات المضى، ولم تدرك ربة المنزل مرماه من هذه التجربة، وعدَّت أعماله ضرباً من السحر، وطلبت منه مغادرة منزلها. واكتُشفت بعض النظائر المشعة في الطبيعة مثل الراديوم، لكن أكثر الذرات المشعة تنتج في المفاعلات النووية، أوفي المسرعات، وقد تمكن الفهماء من تحضير نظائر مشعة لأغلب العناصر الطبيعية ومن فصلها عن مزيجها. وأهم تطبيقات النظائر المشعة هواقتفاء الأثر وتعقب حركة بعض الذرات ومسارها في الغازات والسوائل وفي الكائنات الحية الحيوانية والنباتية، وتشتمل هذه الحالات مجالات عديدة ومختلفة تمس مباشرة حياة الإنسان وتحسين عيشه في بيئة سليمة من التلوث، وتوفير الماء والغذاء وفي المعالجة الصحية الناجعة، وفيما يلي بعض استخدماتها: في مجال البيئة: استخدمت النظائر المشعة للكشف عن ملوثات البيئة وتحليلها ومراقبتها المستمرة حتى لا تتأثر مياه الشرب بكمية غير مسموح بها من النترات المتسربة من الأسمدة أومن مبيدات الحشرات أومن الفضلات السائلة، إضافة إلى استعمال الأشعة في تطهير مياه المجاري وفي معالجة فضلات الصناعة. في مجال الطب: استخدمت النظائر المشعة في مختلف اختصاصات الطب مثل التشخيص، والتصوير، والمعالجة، والتكهن بتطور السقم، وفي تعقيم الأدوات والضمادات، وفي تطوير اللقاح لحماية الحيوانات من الأمراض، بالإضافة إلى المعالجة الدقيقة لسقم السرطان بأشعة اليود وأشعة الكوبالت حسب مكان الورم. في مجال الغذاء والزراعة: استخدمت النظائر المشعة لتحسين الإنتاج الزراعي من خلال تحديد كمية الأسمدة اللازمة، ولإنتاج أصناف تعطي محصولين أوثلاثة في العام، وفي مكافحة الحشرات الضارة والناقلة للعدوى، وكذلك استخدمت في مراقبة الهرمونات التي تتحكم في تكاثر الحيوانات بتقصير المدة بين الولادات، والزيادة في عددها وتحسين نوعيتها، إضافة إلى استعمالها في تعقيم الأغذية (حبوب، فواكه، لحوم، سمك) وحفظها من التفكك والتعفن والتلف لمدة طويلة. أما في مكافحة الحشرات الضارة بالإنتاج الزراعي، والتي تنقل العدوى مثل ذبابة تسي - تسي، والبعوض، فقد أمكن للنظائر المشعة حتى تعطي نتائج هامة في هذه المكافحة أحسن من المبيدات الكيميائية، التي أصبحت لا تؤثر على بعض الحشرات المكتسبة للمقاومة، إضافة إلى أنها تهجر أثاراً سامة وخطيرة على جسم الإنسان، وتحدث تلوثاً للبيئة إلى درجة منع استعمال بعض هذه المواد الكيميائية. في مجال المياه: استخدمت النظائر المشعة في قياس السيلان السطحي لمياه الأمطار والثلوج، وفي فهم جريان الأودية والأنهار، وفي قياس تسرب الماء من السدود والبحيرات، وكذلك في دراسة المياه الجوفية بتحديد مصدرها وعمرها وسرعة جريانها واتجاهها، وفي فهم الاتصال بين الأحواض المائية وقابلية ترشحها. يفترض أن نعود في منطقات قادمة إلى جميع حالة من الحالات السابقة بالتفصيل والتحليل.