المجتمع الساساني

عودة للموسوعة

المجتمع الساساني

ومن وراء نهر الفرات أودجلة كانت تقوم طوال تاريخ اليونان وروما تلك الإمبراطورية التي تكاد تكون خافية على العالم الغربي، والتي لبثت ألف عام تصد أوربا المتوسعة وجحافل آسية الهمجية، لا تنسى قط ما ورثته من مجد الأخمينيين، وتنتعش على مهل مما أصابها في حروب الپارثيين، وتحتفظ في زهووخيلاء بثقافتها الأرستقراطية الفذة تحت حكم ملوكها الساسانيين الأشداء الشجعان، احتفاظاً أمكنها به حتى تحول فتح المسلمين لإيران إلى نهضة فارسية جليلة الشأن.

وكان لفظ إيران في القرن الثالث الميلادي أوسع معنى من لفظ إيران أوفارس في هذه الأيام. فقد كانت، كما يشير اسمها "الآريين"، وكانت تضم أفغانستان وبلوخستان، وسنجديانا، وبلخ والعراق. ولم تكن فارس، وهي الاسم القديم لإحدى الولايات الحديثة، إلا جزءاً صغيراً يقع في الجنوب الشرقي من هذه الإمبراطورية، ولكن اليونان والرومان الذين لمقد يكونوا يعنون بشؤون "البرابرة" أطلقوا اسم الجزء على الكل. وكان يخترق إيران في وسطها من الجنوب الشرقي لجبال هملايا إلى الشمال الغربي لجبال القفقاس حاجز جبلي يقسم البلاد قسمين، في الشرق منه هضبة عالية جدباء، وفي الغرب وديان خضراء يسقيها النهران التوأمان، ويجري ماء فيضانهما الموسمي في شبكة من القنوات تكسب البلاد الخصب والنماء فتنتج أرضها القمح، والبلح، والعنب، والفاكهة. وكان بين النهرين، وعلى ضفافهما، وفي ثنايا التلال، وواحات الصحراء، عدد لا حصر له من القرى وعشرات المئات من البلدان وعشرات من المدائن الكبيرة: منها إكباتانا، والري، وموصل، واصطخر (برسبوليس القديمة)، والسوس، وسلوقية، وطيسفون (المدائن) العظيمة عاصمة الملوك الساسانيين.

ويصف أميانوس الفرس في ذلك الوقت بأنهم "يكادون كلهمقد يكونون نحاف الأجسام، سمر البشرة إلى حد ما... لهم لحى على جانب من الظرافة، وشعر طويل أشعث"(1). غير حتى الطبقات العليا لم تكن ذات شعر أشعث، ولم يكن أفرادها نحاف الأجسام على الدوام، وكان يغلب عليهم الجمال، وكانوا ذوي أنفة وكبرياء، ودماثة في الأخلاق، يميلون إلى الرياضة الشاقة الخطرة، والثياب الفخمة. وكان رجالهم يلبسون العمائم على رءوسهم، والسراويل المنتفخة في سيقانهم، والصنادل أوالأحذية ذات الأربطة في أقدامهم. وكان أغنيائهم يلبسون معاطف أوجلابيب من الصوف أوالحرير ويتمنطقون بمناطق يعلقون فيها السيوف. أما الفقراء فكانوا يقنعون بأثواب من نسيج القطن، أوالشعر، أوالجلد. وكان النساء يلبسن أحذية طويلة، وسراويل قصيرة، وقمصاناً واسعة، وعباءات أوأثواباً مهفهفة، ويعقصن شعرهن الأسود من الأمام في غديرة يهجرنها تنوس خلفهن ويزينها بالأزهار. وكانت جميع الطبقات مولعة بالزينة والألوان الجميلة. وكان الكهنة والزرادشتيون المتحمسون يلبسون ثياب القطن الأبيض يرمزون به إلى الطهارة؛ أما قواد الجنود فكانوا يفضلون اللون الأحمر، وكان الملوك يميزون أنفسهم من سائر الطبقات بالأحذية القصيرة الحمراء، والسراويل الزرقاء، وأغطية للرءوس تعلوها كرات منتفخة أورءوس حيوانات أوطيور. وكانت الملابس في بلاد فارس، كما كانت في جميع المجتمعات المتحضرة، تكون نصف الرجل أوأكثر قليلاً من نصف المرأة..

وكان الرجل الفارسي العادي المتفهم سريع الانفعال كالرجل الغالي، شديد التحمس، كثير التقلب؛ يغلب عليه الخمول، ولكنه سريع التيقظ، يميل بطبعه إلى "الحديث الجنوني، يسرف فيه إسرافاً... أميل إلى الدهاء منه إلى الشجاعة، لا يخافه إلا البعيدون عنه"(2) -إي حيثقد يكون أعداء الفرس. وكان فقراؤهم يشربون الجعة، ولكن الطبقات كلها تقريباً، بما فيها الآلهة، كانوا يفضلون النبيذ؛ فقد كان أتقياء الفرس والمقتصدون منهم يصبونه حسب الطقوس الدينية، وينتظرون حتى تأتي الآلهة لتشربه، ثم يشربون هم بعدها الشراب المقدس(3). ويصف المؤرخون الفرس في عصر الساسانيين بأنهم أغلظ أخلاقاً مما كانوا في عهد الأكيمينيين، وأرق منهم في عهد البارثيين(4)، ولكن قصص بروكبيوس تحملنا على الاعتقاد بأن الفرس ظلوا طوال العهود أحسن أخلاقاً من اليونان(5). ولقد أخذ أباطرة الروم عن البلاط الفارسي نظم حفلاتهم وطرائقهم الدبلوماسية. وكان ملوكهم المتنافسون يخاطب بعضهم بعضاً بلفظ "الأخ". ويضمنون للدبلوماسيين الأجانب سلامتهم من الاعتداء ومرورهم سالمين بأرضهم، ويعفونهم من التفتيش الجمركي والعوائد(6). وفي وسعنا حتى نرجع التنطقيد الدبلوماسية المتبعة في أوربا وأمريكا إلى الأساليب التي كانت متبعة في بلاط ملوك الفرس.

ويقول أميانوس إذا "معظم الفرس يسرفون في الجماع"(7)، ولكنه يعترف مع ذلك بأن اللواط والنادىرة كانا أقل انتشاراً بينهم مما كانا بين اليونان. وقد امتدح غماليل الفرس لثلاث صفات فيهم فنطق: "هم معتدلون في الطعام، قنوعون في علاقاتهم الخاصة وفي العلاقات الزوجية"(8). وكانوا يستخدمون جميع الوسائل لتشجيع الزواج وزيادة المواليد، حتىقد يكون لهم من الأبناء ما يسد مطالب الحرب ولهذا كان إله الحب عندهم هوالمريخ لا فينوس. وكان الدين يأمر بالزواج، ويحتفل به احتفالاً مصحوباً بطقوس رهيبة، ومن تعاليمه حتى الإخصاب يقوي أهورا مزدا إله النور في صراعه العالمي مع أهرمان وهوالشيطان في الديانة الزرادشتية(9). وكان رب البيت يعبد أسلافه حول نار الأسرة، ويطلب الأبناء لكي يضمن لنفسه العناية به وعبادته فيما بعد، فإذا لم يولد له أبناء من صلبه تبنى ولداً من أبناء غيره. وكان الآباء هم الذين ينظمون عادة زواج أبنائهم يساعدهم في هذا غالباً موثق رسمي لعقود الزواج، ولكن المرأة كان في وسعها حتى تتزوج على خلاف رغبة والديها. وكانت البائنات والهبات تقوم بنفقات الزواج المبكر والأبوة المبكرة. وكان يسمح للرجال بتعدد الزوجات. وكان يوصي به إذا كانت الزوجة الأولى عاقراً. وكان الزنى منتشراً(10). وكان في وسع الزوج حتى يطلق زوجته إذا خانته، كما كان في وسع الزوجة حتى تطلق زوجها إذا هجرها أوقسا عليها. وكان التسري مباحاً. وكان لهؤلاء المحظيات كما كان لنظائرهن عند اليونان، الهتايراي Hetairai، الحرية الكاملة في حتى يسرن أمام الجماهير وأن يحضرن مآدب الرجال. أما الزوجات الشرعيات فكن في العادة يبقين في أجنحة خاصة بهن في البيوت، وقد ورث المسلمون عن الفرس هذه العادة القديمة. وكانت نساء الفرس ذوات جمال بارع، ولعله كان من الصواب حتى يمنع الرجال من الاختلاط بهن. والنساء في شاهنامة الفردوسي هن اللآئي يبدأن بخطبة الرجال وإغوائهن، وكانت مفاتن النساء تتغلب على قوانين الرجال.

وكان يستعان على تربية الأبناء بالعقيدة الدينية، ويبدوحتى هذه كان لابد منها لتدعيم سلطان الأبوين. وكانوا يسلون أنفسهم بألعاب الكرة؛ والرياضة البدنية، والشطرنج(13)، ويشهجرون منذ نعومة أظفارهم في وسائل التسلية التي يمارسها الكبار كالضرب بالنبال، وسباق الخيل، وحجف الكرة، والصيد. وكان جميع ساساني يرى في الموسيقى عوناً لابد منه في شؤون الدين، والحب، والحرب. وفي هذا يقول الفردوسي إذا الموسيقى وأغاني النساء الجميلات كانت تلازم المآدب وحفلات الاستقبال الملكية(14). وكانت القيثارة، والناي، والمزمار، والقرن، والطبلة، وغيرها من الآلات الموسيقية كثيرة عندهم. وتؤكد الرواية المأثورة حتى برباد مغني كسرى أبرويز ألّف 360 أغنية، ظل يغني في جميع ليلة واحدة منها لسيده عاماً كاملاً(15). وكان للموسيقى كذلك شأن كبير في التعليم؛ فقد كان مقر المدارس الابتدائية هوأبنية الهياكل، وكان الكهنة هم الذين يقومون بالتعليم فيها. أما التعليم العالي في الآداب، والطب، والعلوم، والفلسفة فكان يتلقى في دار المجمع الفهمي الشهير في گنديسابور في سوريلنا. وكان أبناء أمراء الإقطاع وحكام الولايات يعيشون في الغالب بالقرب من الملوك، وكانوا يتلقون الفهم من أمراء الأسرة المالكة في مدارس كبرى متصلة بالبلاط(16).

وظلت اللغة الفهلوية الهندي-أوروبية لغة فارس البارثية هي المستعملة في البلاد. ولم يبق مما خط بها في ذلك العهد إلا نحو600.000 حدثة كلها تقريباً تبحث في شؤون الدين. لكننا نفهم أنها كانت لغة واسعة(17)؛ غير حتى الكهنة كانوا هم حفظتها وناقليها، ولذلك هجروا الكثير مما خط بها في غير الدين يفنى على مر للزمان (ولعلنا قد خُدِعنا بخطة شبيهة بهذه الخدعة فظننا حتى الكثرة الغالبة مما خط من أدب العصور الوسطى في العالم المسيحي كان أدباً دينياً). وكان الملوك الساسانيون ملوكاً مستنيرين يناصرون الأدب والفلسفة، وكان أكثرهم مناصرة لها كسرى أنوشروان، فقد أمر بترجمة خط أفلاطون وأرسطوإلى اللغة الفهلوية، وبتدريس هذه الخط في غنديسابور، بل قرأها هونفسه. وقد خط في عهده كثير من المؤلفات التاريخية لم يبق منا كلها إلا الكرنماكي-أرتخشتر أوأعمال أردشير وهومزيج من التاريخ والقصص كان هوالأساس الذي استمد منه الفردوسي كتاب الشاهنامة. ولما أغلق جستنيان مدارس أثينة فر سبعة من أساتذتها إلى فارس ووجدوا لهم في بلاط كسرى ملجأ أميناً.

ولكنهم حنوا فيما بعد إلى أوطانهم، فاشترط الملك "البربري" في المعاهدة التي عقدها مع جستنيان عام 533 حتى يسمح للحكماء اليونان بالعودة إلى أوطانهم وألا يمسهم أي أذى.

وفي عهد هذا الملك المستنير أصبحت جامعة گنديساپور التي أنشئت في القرن الرابع أوالخامس "أعظم المراكز الثقافية في ذلك العهد(18)"، ويهرع إليها الطلاب والمدرسون من كافة أنحاء العالم. وكان يؤمها النساطرة المسيحيون، الذين اتىوا معهم بتراجم سريانية لخط الطب والفلسفة اليونانية. واتى إليها أتباع الأفلاطونية الجديدة وبذروا فيها بذور العقائد الصوفية، وامتزجت فيها علوم الطب الهندية، والفارسية، والسورية، واليونانية. ونتج عنها مدرسة للعلاج مزدهرة ناجحة(19). وكان السقم حسب النظرية الفارسية ينتج إذا دنس أوتلوث ركن أوأكثر من الأركان أوالعناصر الأربعة -النار، والماء، والتراب، والهواء. ويقول أطباء الفرس وكهنتهم إذا الصحة العامة تتطلب إحراق جميع المواد المتعفنة، وإن صحة الأفراد تتطلب الطاعة التامة لقانون الطهارة الزرداشتي.

ولسنا نعهد عن فهم الفلك عند الفرس في ذلك الوقت أكثر من أنه قد احتفظ لهم بتقويم منظم، وأن سنتهم كانت تنقسم إلى اثني عشر شهراً في جميع منها ثلاثون يوماً، وأن الشهر كان ينقسم إلى أربعة أسابيع، اثنان منها يحتوي جميع منها على سبعة أيام واثنان في جميع منهما ثمانية، وأنهم كانوا يضيفون خمسة أيام في آخر العام(21). وكان التنجيم والسحر منتشرين في البلاد، فلمقد يكونوا يقدمون على عمل هام دون الرجوع إلى أبراج النجوم، وكانوا يعتقدون حتى جميع مصائر الناس على هذه الأرض تحددها النجوم الطيبة والخبيثة التي تحترب في السماء - كما تحترب الملائكة والشياطين في النفس البشرية - حرب أهورا مزدا وأهرمان القديمة.

وأعاد الملوك الساسانيون إلى الدين الزرادشتي ما كان له من سلطان ورونق. فوهبت الأراضي والعشور إلى الكهنة، وأسس نظام الحكم على أساس الدين كما كانت الحال في أوربا، وعين كاهن أكبر ذوسلطان لا يفوقه سلطان الملك نفسه رئيساً لطائفة الكهنة المجوس الوراثية، التي كانت تشرف على جميع نواحي الحياة الذهنية في فارس إلا القليل منها، وكانت تنذر جميع من تحدثه نفسه بالإثم أوبالخروج على سلطان الدولة بالعذاب الدائم في الجحيم؛ وظلت تسيطر على عقول الفرس وعلى جماهير الشعب مدى أربعة قرون. وكانوا من حين إلى حين يحمون الأهلين من عسف الحياة والفقراء من استبداد الحكام(23). وقد بلغ من ثراء هذه الجماعة حتى كان الملوك أنفسهم يستدينون أموالاً طائلة من خزائن الهياكل. وكان في جميع بلدة كبيرة معبد للنار تشتعل فيه نار مقدسة يقولون إنها لا تنطفئ أبداً وترمز إلى إله النور. وكانوا يفهمون الناس حتى حياة الفضيلة الطاهرة وحدها هي التي تنجي الروح من أهرمان؛ وكان لا بد للروح في حربها القائمة على الشيطان من حتى تستعين بكهنة المجوس وبما يعهدونه عن الغيب، وبراقهم وسحرهم، ودعواتهم. فإذا ما نالت الروح هذه المعونة سمت إلى درجة القداسة والطهارة، وخرجت سالمة من محكمة يوم الحساب الرهيبة، واستمتعت بالنعيم المقيم في الجنة.وكانت أديان أخرى أقل منزلة من هذا الدين الرسمي تجد لها مكاناً حوله. فكان مثراس إله الشمس المحبب للبارثيين بين عدد قليل من أفراد الشعب بوصفه مساعداً لأهورا. ولكن الكهنة الزرداشتيين كانوا يعدون الخروج على الدين القومي، كما يعده المسيحيون، والمسلمون، واليهود جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام. وشاهد ذلك ما وقع حين قام ماني Mani حوالي (216-276) يدعي أنه رسول رابع مكمل لبوذا، وزرادشت، ويسوع، ويدعوإلى دين قوامه العزبة، والسلام، والهدوء، إذ صلب بناء على طلب المجوس ذوي النزعة الحربية القومية، واضطر أتباعه إلى العمل على نشر دينهم في خارج البلاد. أما اليهودية والمسيحية فكانتا بوجه عام تلقيان من الملوك والكهنة الساسانيين كثيراً من التسامح، كما كانت البابوات أكثر تسامحاً مع اليهود منهم مع المارقين من الدين المسيحي. وقد عثر كثير من اليهود ملجأ لهم في الولايات الغربية من الإمبراطورية الفارسية. وكانت المسيحية قد ثبتت نادىئمها في تلك الولايات حين جلس الساسانيون على العرش، وظلت لا تلقى معارضة منهم حتى أضحت الدين الرسمي لعدوي الفرس القديمين وهما بلاد اليونان وروما؛ فلما أشهجر قساوستها اشتراكاً عملياً في الدفاع عن الأنطقيم البيزنطية ضد شابور الثاني، كما وقع عند نصيبين عام 338، شرع ملوك الفرس يضطهدونهم(24)، وبدأ المسيحيون في فارس يجهرون بآمالهم الطبيعية في فوز الدولة البيزنطية. وأمر شابور في عام 341 بذبح جميع المسيحيين الساكنين في الإمبراطورية، ولما حتى رأى حتى قرى بأكملها من القرى المسيحية قد أقفرت من أهلها أمر بأن يقتصر على اغتال القسيسين، والرهبان، والراهبات؛ ولكن 16.000 مسيحي قد أهلكوا نتيجة لهذا الاضطهاد الذي دام حتى موت شابور (379). ولما جلس يزدگرد الأول على العرش (339-420) رد للمسيحيين حريتهم الدينية، وساعدهم على بناء كنائسهم، حتى إذا كان عام 422 قرر مجلس من أساقفة الفرس استقلال الكنيسة المسيحية الفارسية عن الكنيستين المسيحيتين اليونانية والرومانية.

وفي داخل هذا الإطار المكون من العبادات والمنازعات الدينية، والمراسيم والأزمات الحكومية والحروب الداخلية والخارجية، في داخل هذا الإطار كان الناس يمدون الدولة والكنيسة بمقومات حياتهما -يفلحون الأرض، ويرعون الماشية والضأن، ويمارسون الصناعات اليدوية، ويتبادلون التجارة. وكانت الزراعة عندهم من الواجبات الدينية، فكان الشعب يفهم حتى تنظيف الفلوات من الأشجار والأعشاب، وغرس الأرض، والقضاء على الآفات، واستئصال الأعشاب الضارة بالنبات، وإصلاح الأراضي البور، وتسخير مجاري الماء لري الأرض -كان الشعب يفهم حتى هذه الأعمال المجيدة كلها تضمن فوز أهورا مزدا في آخر الأمر على أهرمان. وكان الفلاح الفارسي في مسيس الحاجة إلى كثير من مسببات السلوى الروحية، لأنه كان يعمل عادة بوصفه مستأجراً لأرض الأمير الإقطاعي، ويؤد ضرائب ورسوماً أخرى قدراً من المحاصيل يتراوح بين سدسه وثلثه. ونقل الفرس عن الهند حوالي عام 450 استخراج السكر من القصب حتى لقد عثر الإمبراطور الشرقي هرقل مخازن ملأى بالسكر في القصر الملكي بطيسفون (المدائن) (627)؛ ولما فتح العرب بلاد فارس بعد أربعة عشر عاماً من ذلك الوقت، عهدوا من فورهم كيف من الممكن أن يغرسون القصب، وأدخلوا زراعته في مصر وصقلية، ومراكش، وأسبانيا ومنها انتشرت في أوربا(26). وكانت تربية الحيوانات من أبرز الأعمال في بلاد الفرس، فلم تكن تفوق الخيل الفارسية إلا الجياد العربية الأصيلة في تسلسل أنسابها، وجرأتها، وجمالها، وسرعتها. وكان لكل فارسي جواد يعزه كما يعز رستم راكوش، وقد قدس الفرس الكلب لعظيم نفعه في حراسة بتران الماشية والبيوت، وكان للقطة الفارسية شأن عظيم في كافة أنحاء البلاد.

وتطورت الصناعة في عهد الساسانيين فانتقلت من المنازل إلى الحوانيت في المدن. وكثرت نقابات الحرف، ووجدت في بعض البلدان جماعات ثورية من الصعاليك(27)، وأدخل نسج الحرير من الصين، وسرعان ما انتشرت هذه الصناعة وتقدمت حتى كان الحرير الساساني يطلب في جميع مكان، وكان نموذجاً يحتذيه فن النسيج في بيزنطية، والصين، واليابان؛ وكان تجار الصين يفدون إلى إيران ليبيعوها حريرهم الخام ويشتروا منها الطنافس. والجواهر، والأصباغ الحمراء؛ وعمل الأرمن، والسوريون، واليهود على ربط بلاد الفرس، وبيزنطية، ورومة في سلسلة من التبادل التجاري البطيء. وأعانت الطرق والجسور الصالحة، التي كانت تتعهدها الدولة بعنايتها، على إنشاء طائفة من المراكز، وطرق القوافل التجارية التي ربطت طيسفون بسائر ولايات الدولة؛ وأنشئت المرافئ في الخليج الفارسي، لتيسير التجارة مع الهند. وكانت الأنظمة الحكومية تحدد أثمان الحبوب، والأدوية وغيرها من ضروريات الحياة، وتمنع تخزينها لحمل أثمانها، واحتكارها(28). وفي وسعنا حتى نقدر ثراء الطبقات العليا من سيرة الشريف الذي نادى ألف ضيف إلى وليمة، فلما اتىوا عثر أنه لا يملك من الصحاف ما يكفي لأكثر من خمسمائة، فاستطاع حتى يستعير الخمسمائة الباقية من جيرانه(29).

ونظم أمراء الإقطاع، الذين كانوا يعيشون في الغالب في ضياعهم، طريقة استغلال الأرض ومن عليها، وألفوا الفيالق من مستأجري أرضهم ليحاربوا حروب الآمة. وكانوا يتدربون على الحرب بمطاردة الصيد بحماسة وشجاعة، فكانوا لذلك ضباطاً في سلاح الفرسان ذوى شهامة؛ وكانوا هم وجيادهم مسلحين كما كانت جيوش الإقطاع مسلحة في أوربا فيما بعد؛ ولكنهم لم يبلغوا ما بلغه الرومان في فرض النظام على جنودهم، أوفي استخدام ما عهد فيما بعد من فنون هندسة الحصار والدفاع. وكان يعلوا عليهم في المنزلة الاجتماعية عظماء الأشراف الذين كانوا يتولون حكم الولايات ويرأسون المصالح الحكومية. وما من شك في حتى الإدارة الحكومية كانت حازمة قديرة إلى حد بعيد؛ وشاهد ذلك حتى الخزانة الفارسية كانت في أغلب الأوقات أكثر عمراناً بالمال من خزائن أباطرة الرومان، وإن كانت الضرائب في الدولة الفارسية أقل إرهاقاً مما كانت عليه في الإمبراطورية الرومانية الشرقية أوالغربية. ولقد كان في خزائن كسرى أبرويز في عام 626 ما قيمته 460,000,000 دولار أمريكي(30)، وكان دخله السنوي يقدر بنحو170,000,000 دولار_ وهما مبلغان ضخمان إذا ذكرنا ما كان للفضة والمضى من قوة الشراء في العصور الوسطى.


وكان سن القوانين من عمل الملوك، ومستشاريهم، والمجوس؛ وكانوا يعتمدون في سنها على قوانين الأبستاق القديمة، وكان يهجر للكهنة تفسير هذه القوانين وتطبيقها. ووصف أميانوس، الذي كان يحارب الفرس، قضاتهم بأنهم كانوا "رجالا عدولا، ذوي تجربة، وفهم بالقوانين(31)". وكان المعروف عن الفرس بوجه عام أنهم يحافظون على الوعد، وكانت الإيمان التي يقسمونها في المحاكم تحاط بهالة من التقديس، وكان الحنث في اليمين يلقى أشد العقاب في هذا العالم بحكم القانون، ويعاقب صاحبه في الدار الآخرة بوابل من السهام، والبلط والحجارة. وكان التحكيم الإلهي من الوسائل التي يلجأ إليها لكشف الجرائم، فكان يطلب إلى المتهمين حتى يمشوا على مواد تحمى في النار حتى تحمر، أويخوضوا اللهب، أويطعموا الطعام المسموم. وكان وأد الأطفال وإسقاط الأجنة محرمين يعاقب من يرتكبهما بالإعدام. وكان الزاني إذا عهد ينفى من البلاد والزانية يجع أنفها وتصلم أذناها. وكان في وسع المتقاضين حتى يستأنفوا الأحكام أمام محاكم عليا؛ ولم يكن الحكم بالإعدام ينفذ إلا إذا نظر فيه الملك وأقره.

وكان الملك يقول إنه يستمد سلطانه من الآلهة، وإنه وليهم في الأرض، وإنه يضارعهم في قوة أحكامهم، وكان يلقب نفسه حين تسمح الظروف "ملك الملوك، وملك الآريين وغير الآريين، وسيد الكون، وابن الآلهة(32)". وأضاف شابور الثاني إلى هذه الألقاب: "أخا الشمس والقمر، ورفيق النجوم" وكان الملك الساساني مطلق السلطان من الوجهة النظرية، ولكنه كان يعمل في العادة بمشورة وزرائه الذين كانوا يؤلفون مجلساً للدولة. وقد أثنى المسعودي المؤرخ المسلم على ما كان الملوك الساسانيين من إدارة ممتازة، وعلى سياستهم الحسنة النظام، وعنايتهم برعاياهم ورخاء بلادهم(33).

ويقول كسرى أنوشروان، كما اتى في كتاب ابن خلدون "لولا الجيش لما كان الملك، ولولا موارد الدولة ما كان الجيش، ولولا الضرائب ما كانت الموارد؛ ولولا الزراعة ما كانت الضرائب، ولولا الحكومة العادلة ما كانت الزراعة(34)". وكانت المَلَكِية في الأوقات العادية وراثية، ولكن كان في وسع الملك حتى يختار غير ابنه الأكبر ليخلفه على العرش. وجلست ملكتان على العرش في زمنين مختلفين؛ وإذا لم يهجر الملك من بعده ولياً من نسله اختار الأشراف ورجال الدين حاكماً على البلاد، ولكنهم لمقد يكونوا يستطيعون حتى يختاروا واحداً من غير الأسرة المالكة.

وكانت حياة الملك مثقلة بالواجبات والتبعات التي لا آخر لها. فقد كان ينتظر منه حتى يخرج للصيد والقنص بلا خوف، وكان يخرج إليه في هودج مزركش تجره عشرة من الجمال، وعليه ثيابه الملكية. وكانت سبعة جمال تحمل عرشه، ومائة جمل تحمل الشعراء المنشدين. وقد يحدث في ركابه عشرة آلاف من الفرسان؛ ولكن إذا صدقنا ما خط من النقوش الساسانية على الصخور قلنا إنه كان ينبغي له آخر الأمر حتى يمتطي صهوة جواد، ويقابل بنفسه وعلاً، أوغزالاً، أورئماً، أوجاموساً برياً، أونمراً، أوأسداً، أوغيرها من الوحوش التي جمعت في حديقة حيوان الملك أو"جنته". فإذا عاد من الصيد إلى قصره قابل مهام الحكم الشاقة، وسط ألف من الحشم وفي حفلات ا آخر لها. وكان عليه حتى يرتدي ثياباً مثقلة بالجواهر، وأن يجلس على عرش من المضى، ويضع على رأسه تاجاً يبلغ من الثقل حداً لابد معه حتى يعلق على مسافة جد صغيرة، لا يمكن رؤيتها، من رأسه الذي لا يستطيع تحريكه. وعلى هذا النحوكان يستقبل الشعراء، والأضياف، ويتبع ما لا يحصى من المراسم الشاقة الدقيقة، ويصدر الأحكام، ويستقبل الوافدين الذين حددت لهم المواعيد ويتلقى التقريرات. وكان على الذين يدخلون عليه حتى يخروا سجداً أمامه، ويقبلوا الأرض بين يديه، وألا يقفوا إلا إذا أمرهم بالوقوف، ولا يتحدثوا إليه إلا وفي فمهم منديل خشية حتى تعدي أنفاسهم الملك أوتدنسه. فإذا اتى الليل ولج على إحدى زوجاته أومحظياته يبذر فيها بذوره العليا.

الهامش


المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

تاريخ النشر: 2020-06-04 09:05:17
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, ساسانيون

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الرئيس الليتواني: "يجب تجاوز الخطوط الحمراء" عندما يتعلق الأ

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:48
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 69%

مبادرة صور وابعت.. أتوبيسات الزوار تصل معرض الكتاب 2023

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:29
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 50%

روسيا تعلن السيطرة على قرية شمال باخموت

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:40
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

ارتفاع ضحايا تفجير مسجد فى باكستان إلى 100 شخص وإصابة 170 آخرين

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:22
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 49%

جلسة اليوم لهيئة المحامين: في انتظار القرارات على المستوى الوطني

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:17
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 54%

خلى بالك.. "ثغرة الشراكة" فى عقد الإيجار تؤدى لطردك.. عن "برلمانى"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:21
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 41%

وزيرا الدفاع الأمريكي والكوري الجنوبي يتعهدان تعزيز التدريبا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:36
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 61%

رئيس الوزراء اللبناني يعلن عن جلسة حكومية ثالثة هذا الأسبوع

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:56
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 64%

هل يشهد ميركاتو الشتاء فى مصر صفقات اللحظة الأخيرة؟

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:24
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 38%

أمطار متفاوتة الشدة غدا بأغلب الأنحاء تمتد للقاهرة والصغرى 10 درجات

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:20
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 38%

مؤشر توناندكس يغلق في المنطقة الحمراء

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:15
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 65%

صحة الإسكندرية تعلن خطة القوافل العلاجية لشهر فبراير

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:12
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 70%

آرسنال يعلن غياب محمد الننى لفترة طويلة بعد جراحة ناجحة فى لندن

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:17
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 49%

اليابان والناتو يتفقان على تعزيز التعاون الثنائي وسط تهديدات

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:52
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

الصين تنتقد الرئيس التشيكي المنتخب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:32
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 60%

ألمانيا ومصر تحتفلان بمرور 15 عاما على إنشاء اللجنة العليا ل

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-01-31 15:22:44
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 50%

تحميل تطبيق المنصة العربية