الأدب العربي في العصر الجاهلي

عودة للموسوعة

الأدب العربي في العصر الجاهلي

الأدب العربي

حسب الفترة

العصر الجاهلي
صدر الإسلام
العصر الأموي
العصر العباسي
عصر الدول المتتابعة
العصر الأندلسي
العصر الحديث

أنواع

شعر(هاتى، مديح، غزل، فخر)
غير روائي (التصنيف والكتابات، التاريخ والجغرافيا، اليوميات)
روائي: (ملحمي، مقامات، معلقات، نثر)
نقد

حسب الجنسية

عراقي - سوري
لبناني - أردني
فلسطيني - سعودي
بحريني - قطري
إماراتي - عماني
يمني - كويتي
مصري - ليبي
تونسي - جزائري
مغربي - موريتاني
صومالي - سودني
جيبوتي

مدارس أدبية

مدرسة أبولو
مدرسة البعث والإحياء
مدرسة الديوان
مدرسة المهجر

انظر أيضاً

أدباء عرب
شعراء عرب
روائيون عرب

تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، الدكتور شوقي ضيف. انقر على الصورة للمطالعة.

الأدب العربي في العصر الجاهلي، العصر الجاهلي أقدم العصور الأدبية ويسميه بعض الدارسين عصر ما قبل الإسلام. وهوعصر موغل في القدم، بعيد العهد في الزمن والامتداد.

خلفية

موطن هذا الأدب العربي القديم هوالجزيرة العربية، أوشبه جزيرة العرب، ذات الصحارى الواسعة، والبطاح الممتدة، التي تحيط بها - أوتتخللها - جبال وهضاب مختلفة، منها ما يحاذي البحر الأحمر غرباً، ومنها ما يقع في اليمن جنوباً. فضلاً عن هضبة نجد التي ترتفع ممتدة في وسط الشمال، لتضم سلسلة أخرى من الجبال.

وهذه المناطق جميعاً كانت في العصر الجاهلي ميادين لحروب وغزوات، ولأحداث سياسية، وظواهر اجتماعية وتجارية واقتصادية، وأثرت في الأدب الجاهلي، شعره ونثره.

حدثة الجاهلية يراد بها الحال التي كان عليها العرب قبل الإسلام، وقد استحدثت هذه الحدثة بنزول القرآن وأطلقت على الزمن الذي كان قبل البعثة حتى فتح مكة وإرساء قواعد الدولة الجديدة.

والملْحَظ في التسمية الحماسة بتحكيم العصبية والقوة، والجهل الذي يناقض الحلم والأناة ويفيد التسرع إلى الشر، ومنه قول عمروبن كلثوم:

ألا لا يجهلـــن أحــــد علينــــا فنجهــــل فــــوق جهل الجاهلينـــا

وقد ارتدى هذا اللفظ لبوساً إسلامياً يفيد الانغماس في الضلال والبعد عن طريق الهداية إضافة إلى الدلالة السابقة.

وقد تطلق الحدثة مجازاً على جماعة الجاهلية وأنصارها، كما اتى في آية التنزيل ]يظنّونَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظَنَّ الجاهلية[ (آل عمران 154).

فالحدثة قرآنية الاشتقاق. ومن أقوال ابن عباس: «سمعت أبي في الجاهلية يقول...» ومن ثم نسبوا إليها فنطقوا: «جاهلي»، في الشعراء والخطباء والحكماء.


الشعر الجاهلي

ومهما يكن من أمر، فقد ورثنا عن تلك الحقبة الجاهلية أدباً ناضجاً في لغته وشعره ونثره، ولكن هذا الأدب الذي وصل إلينا لا يضم الحقبة كلها، قبل الإسلام، ذلك أننا لا نملك نصوصاً مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن تطوره حتى بلوغه الفترة التي كان عليها عند ظهور الإسلام. والمعروف حتى أقدم ما وصل إليه فهمنا من ذلك الشعر لا يرقى عهده إلى أكثر من قرنين عن الهجرة. وقد أشار الجاحظ إلى قضية قدم الشعر العربي فنطق: وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له - إلى حتى اتى الإسلام - خمسين ومئة عام. وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام.

ومن أقدم الشعراء الذين عهدنا أخبارهم ووصلتنا أشعارهم امرؤ القيس بن حجر الكندي، الذي ينطق إنه أول من وقف بالديار واستوقف وبكى واستبكى، لكنه هونفسه يذكر شاعراً آخر أقدم منه، بكى الأطلال قبله، وهوابن خذام، فيقول:

عــوجا على الطلل المحيل، لعلنا نبكي الديـــار كما بكى ابن خذام

ولم يكن بنوكلب بنادىً في القبائل، فكل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول أوالأقدم: فامرؤ القيس في اليمانية، وعبيد بن الأبرص في بني أسد، ومهلهل بن ربيعة في تغلب، وعمروبن قميئة والمرقش الأكبر في بكر، وأبودواد في بني إياد. وهؤلاء جميعاً متقاربون في الزمن، ولم يعثر الفهماء على شعر قديم مدون بقلم جاهلي، وكل ما يعهد من هذا الشعر مستمد من أفواه الرواة الذين كانوا يتناقلون الأشعار الجاهلية عن طريق الرواية والحفظ. وتعود مسببات ذلك إلى انتشار الأمية عند العرب، وقلة وسائل التدوين الرقمي والكتابة لديهم، إذ اقتصر على الحجارة الرقيقة، والجلود، والعظام، وسعف النخيل، وما إليها. ومن ثم كان المفهمون قلة بينهم.

وفي بعض الأشعار الجاهلية إشارات إلى وجود الكتابة ونقوشها، وهي ترد في مطاوي وصف الشعراء للأطلال والرسوم الدارسة، كقول الأخنس بن شهاب التغلبي، مشبهاً أطلال المحبوبة بالكتابة على الجلد الرقيق:

نطقب:قصيدةاابنةِ حطّان بــن عوف منــــازل

على حتى استعمال الكتابة يقتصر على شؤون من الحياة الاجتماعية والتجارية وما إليها، مماقد يكون ميدانه النثر، من دون الاتكاء عليها في كتابة الشعر؛ لأن العرب كانوا يعتمدون في حفظ الأشعار على الرواية الشفوية، حتى في خطبهم ووصاياهم وأمثالهم، يسعفهم في هذا الحفظ ذاكرة قوية تأنس بموسيقى الشعر وأوزانه، خاصة، واعتادت ذلك حتى صارت سجية من سجاياهم، وطبيعة متأصلة فيهم، فضلاً عن حبهم للشعر وعنايتهم الفائقة بروايته وتناقله، لأنه ديوان مناقبهم، وسجل حياتهم وفوزاتهم، ولم يكن لهم - كما يقول ابن رشيق - فهم أصح منه. فلا غروحتىقد يكون نادىمة السّامرعندهم، ومدارَ حلقات القوم لديهم، في مواسمهم وندواتهم، وقد أدى ذلك أيضاً إلى ظهور حلقات من الشعراء الرواة، الذين يأخذ بعضهم عن بعض، مما يمكن حتى يسمى اليوم بالمدارس الشعرية، وأشهرها تلك التي تبدأ بأوس بن حجر، وعنه أخذ الشعر ورواه زهير ابن أبي سلمى. ولزهير راويتان: ابنه كعب، والحطيئة، وكان هدبة بن الخشرم راوية الحطيئة، وعن هدبة تلقن الشعر ورواه جميل بن معمر، صاحب بثينة، وراوية جميل هوكثير عزة، الذي يُعد آخر من اجتمع له الشعر والرواية.

و«لما اتى الإسلام شغل العرب والمسلمون عن الشعر بالغزووالفتوح. ولما اطمأنوا بالأمصار، واستقرت دولتهم، راجعوا رواية الشعر - كما يقول ابن سلام - فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، ومضى عليهم منه كثير».

ومع ذلك، فقد نشطت رواية الشعر في القرن الهجري الأول، لأسباب مختلفة، ولازمها بعد قليل نشاط حركة التدوين الرقمي عامة، ونشأت طبقة من الرواة الذين يتخذون رواية الأخبار عن الجاهلية وأيامها. وكان من نتائج ذلك وجود شعر مفتعل صنعه الرواة الوضاعون، ونسبوه إلى شعراء جاهليين، سنداً لعصبية قبلية، أورفداً للقصص والأخبار، أوإذاعة لنزعة شعوبية، أوإرهاصاً للبعثة النبوية.

وقد عهد بالوضع من رواة الكوفة: خلف الأحمر، وحماد الراوية، كما اشتهر - إلى جانبهم - رواة ثقات من أهل البصرة والكوفة: كالمفضل الضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي عمروبن العلاء، والفراء، وابن سلام، وغيرهم، ميزوا الشعر السليم من الشعر الزائف، وكان في مقدمة هؤلاء ابن سلام الجمحي الذي عالج هذا الموضوع مفصلاً في طبقاته، ومما نطقه: وليس يشكل على أهل الفهم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون. كما حتى في كتاب «الأغاني» إشارات كثيرة إلى أشعار منحولة، وأخبار موضوعة، نص عليها أبوالفرج بعد حتى تفحص رواياتها، ورجع إلى دواوين الشعراء أنفسهم.

ومع جميع هذه الجهود، وغيرها، التي حرص أصحابها على تنقية الشعر القديم من الشوائب الزائفة، وإيصاله إلينا سليماً موثقاً، قام في العصر الحديث لفيف من المستشرقين والدارسين العرب يثيرون قضية النحل والانتحال في الشعر الجاهلي، ويشككون في صحة هذا الشعر، على تفاوت فيما بينهم، شططاً وتحاملاً، أواعتدالاً وحياداً، وبلغ الأمر ذروته عند المستشرق الإنكليزي مرغليوث Margoliouth الذي نشر سنة 1925م منطقة له بعنوان «أصول الشعر العربي» أنكر فيها صحة الشعر الجاهلي جملة، وأقام ممضىه هذا على مزاعم وتصورات متناقضة، جعلت بعض المستشرقين أنفسهم يردون عليه ويفندون آراءه، ومنهم جيمس لايل Lyalle ناشر المفضليات.

وفي مصر قام طه حسين يحذوحذومرغليوث، حين نشر سنة 1926 كتابه «في الشعر الجاهلي» وضمنه آراء جريئة جعلت بعض الفهماء والنقاد يردون عليه: كالرافعي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضري، ومحمد لطفي جمعة، ومحمد الخضر حسين.

وأدى ذلك إلى حتى يعيد طه حسين النظر في كتابه، تعديلاً وحذفاً وزيادة، ويصدره في العام التالي 1927 بعنوان آخر: «في الأدب الجاهلي» بعد حتى ضم إليه درس النثر الجاهلي، وأفاض في شرح نظريته وتطبيقاتها، ووقف عند مسببات الوضع والنحل في الشعر العربي، كما أوضح مسببات الشك في الشعر الجاهلي، ودوافعه، ولخص ذلك بقوله: «إن الكثرة المطلقة - مما نسميه أدباً جاهلياً - ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين».

ولم يسلم - مع ذلك - كتاب طه حسين الثاني من النقد والتفنيد. ومرت السنوات بعد ذلك، ولم يخط لنظرية طه حسين وأمثاله القبول التام، وإن أيقظت الأذهان، ولفتت الأنظار إلى ضرورة التثبت من صحة الشعر الجاهلي، بل صحة جميع شعر، قبل روايته أوالاستشهاد به.

ويضاف إلى ذلك ظهور خط ودراسات جديدة زادت من توثيق الشعر الجاهلي وتسليم ما صحّ منه، ونوّهت بكثير من مصادره الأصلية، وفي مقدمة هذه الخط كتاب «مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد. وقد عثر الباحثون المعاصرون بين أيديهم عدداً من مصادر الشعر الجاهلي التي اتىت عن طريق الرواة الأمناء الصادقين، الذين وقفوا جهودهم على التحري والتثبت، ولم يخف عليهم وجود شعر جاهلي منحول كشفوا جانباً منه.

ولقد حازت آثار أولئك الرواة القبول والتقدير، وعُدّت مصادر أساسية للشعر الجاهلي. وأهم هذه الآثار:

  • دواوين الشعراء القدماء، التي جمعت في عصر التدوين الرقمي: كزهير، والنابغة، وامرئ القيس.
  • دواوين القبائل العربية: كديوان الهذليين، الذي لم يصل إلينا كاملاً.
  • المجموعات الشعرية الموثوق بها: كالمعلقات وشروحها، والمفضليات، والأصمعيات، والنقائض وشروحها، والحماسات.
  • خط الأدب، واللغة، والنحو: كالبيان والتبيين، والحيوان، ومجالس ثعلب، وعيون الأخبار، والكامل، والأمالي. وكذلك بعض خط المتأخرين التي احتفظت بكثير من الأشعار الجاهلية التي ضاعت أصولها: كخزانات الأدب، وشرح أبيات مغني اللبيب، وكلاهما للبغدادي، وشرح شواهد المغني للسيوطي.
  • الخط النقدية البلاغية: كالموشح، والصناعتين، والموازنة والوساطة.
  • خط التراجم والطبقات: كمعجم الشعراء، والمؤتلف والمختلف، وطبقات ابن سلاّم، والشعر والشعراء، والأغاني.

فهذه المصادر وأمثالها، تجعل بين أيدينا مادة وافرة للشعر الجاهلي، وهذه المادة غنية وكافية، لكي تهيئ للدارسين مجالاً واسعاً للبحث والتحليل والموازنة، في رحاب أغراض ذلك الشعر وفنونه المتنوعة.

فنون الشعر الجاهلي وأغراضه

هذا الشعر، الذي قيل فيه إنه ديوان العرب، يعد صورة للبيئة التي نشأ فيها أصحابه قبل الإسلام في كثير من جوانبها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والمعهدية، والدينية، كما يعكس ذلك الشعر طائفة من الجوانب النفسية، والمثل الأخلاقية للعرب، من شجاعة وفروسية وفتوة، ومن إكرام للضيف وإغاثة للصَّريخ وغير ذلك.

ومن ثم تعددت أغراض الشعر الجاهلي وفنونه، فكان فيه غزل، ومدح، كما كان فيه فخر، ورثاء، وهاتى، فضلاً عن الحكمة والوصف.

ووجود هذه الفنون والأغراض في الشعر الجاهلي، لا يعني حتى القصيدة منه كانت خالصة دائماً لموضوع واحد، وأغراض لا تحيد عنه، فقد تضم غرضين أوأكثر، ولكنها تنسب إلى ما نظمت من أجله، هاتى، أومدحاً، أوفخراً، وإن تخللتها موضوعات جانبية أخرى.


الأغراض والفنون في الشعر الجاهلي

الغزل

يكاد الغزل يفوز بالنصيب الأوفى بين سائر الأغراض الأخرى، على تفاوت حظوظ الشعراء الجاهليين منه، ذلك أنه أعلق الفنون الشعرية بالأفئدة، وأقربها إلى النفوس، لما للمرأة من آثار عميقة في حياة الرجل، وتغذية عواطفه وأحاسيسه، ومرافقته في حله وترحاله، وفي حربه وسلمه، وزيارته لأحبته وذوي قرباه، ووقوفه على أطلالهم بعد الرحيل والفراق.

وفي موضوع الغزل، تتردد عند النقاد والدارسين، من قدماء ومعاصرين، أربعة ألفاظ تتقارب في مفهومها، وتتشابك في دلالاتها، وهي: الغزل، والتغزل، والنسيب، والتشبيب.

وقد حاول بعضهم حتى يبين الفروق المعنوية بينها، ولكنهم لم يصلوا إلى القول الفصل في ذلك.

ومن أبرز سمات الغزل عند الجاهليين، ظاهرة التعلق بالمرأة والسعي إلى مودتها، ووصف مفاتنها الجسدية. وإمام الشعراء في ذلك هوامرؤ القيس، الذي قضى شبابه في اللهووالشراب، وأصاب من الغزل والمرأة ما جعله السابق المجلّي في هذا المضمار. وأشعاره، ولاسيما معلقته، صُوَرٌ وحكايات لما كان بينه وبين النساء.

وكذلك ثمة جانب من هذا الممضى الحسي، في الحديث إلى المرأة وفي وصفها عند شعراء آخرين كالأعشى والنابغة الذبياني. ويمكن الخروج من قراءة أشعارهم الغزلية إلى جملة من المقاييس التي كانوا يعتدون بها في تقويم الجمال، والمفاتن الجسدية: فالمرأة تشبه بالدرة الصدفية حيناً، والدمية المرمرية حيناً آخر. وأصابعها لينة كالعَنَم، ولونها المفضل هوالبياض، وخصرها ضامر نحيل، بخلاف ردفها الذي يستحسن حتىقد يكون ثقيلاً مكتنزاً وساقيها اللتين يستحب حتى تكونا ممتلئتين، والشعر طويل فاحم، والأسنان بيضاء نقية، والمشية هينة مترسلة.

وقد ينصرف الشاعر في غزله إلى التغني بفضائل المرأة وذكر مناقبها وكريم سجاياها، وعفتها، ولا سيما عند وقوفه على الأطلال توخياً لتهيئة الأذهان وشد الأسماع قبل الوصول إلى غرضه الأساسي.

أما تصوير الشاعر الغزِل لما يقاسيه من تباريح الصبابة، وما يعانيه من عذاب مقيم، وآلام مبرحة، وهيام طاغ، فهذا كله منبث في أشعار المتيمين من الجاهليين الذين قضوا حياتهم يعانون ألم النوى، ويقضون الليل ساهرين أرقين ويشكون من تجني المحبوبة، حتى تنحدر دموعهم، وتتقرح أكبادهم.

والشعراء، الذين سلكوا هذا الممضى، معظمهم من العشاق الذين عهدوا بالعفة والبعد عن الأوصاف الحسية للجسد، ومعاناة الأشواق اللاذعة، ويمكن حتى يعد غزلهم النواة الأولى للغزل العذري الذي عهد في العصر الأموي، ذلك حتى جميع واحد منهم اقترن اسمه بصاحبته التي اشتهر بها، ومنهم عنترة صاحب عبلة، ومثلا المخبَّل السَّعدي ومَيْلاء، وعبد الله بن العَجْلان وهند، وغيرهم.

المديح

كانت للناس في العصر الجاهلي مثل عليا، ومعايير خلقية تعارفوا عليها، وورثوها عن أجدادهم، كالشجاعة والكرم، وحماية الجار، وإغاثة الملهوف وعراقة النسب. واتى شعر المديح ليشهد بهذه السجايا وما هومنها بسبب: كالعقل، والعفة، والعدل، والرأي السديد. وقد يستدعي المقام والمناسبة ذكر مناقب أخرى تأتي في ساعتها: من جميل يؤثر، وصنيع يقدم، وأسير يطلق سراحه، فيكون الاعتراف بذلك الجميل، والشكر لذاك الصنيع.

إلى غير ذلك قام المديح مقام السجل الشعري في رسمه لنواح كثيرة من حياة الأعلام، ملوكاً، وسادة، وأجواداً، وبذلك أغنى التاريخ وكان رديفاً له ومتمماً، وإن كان يمتزج غالباً بالإسراف والمبالغة، ويختلط فيه الواقع بالخيال، والعقل بالعاطفة والحق بالباطل. ولذلك ينبغي حتى يقف الباحث من شعر المدح موقف الحذر والنقد والتمحيص، وألا يأخذه على أنه صدق لا كذب فيه، أوحقيقة لا يشوبها الشك.

وقد سلك الشعراء المدَّاحون في العصر الجاهلي طريقين، أحدهما أوكليهما، الأول هوطريق التكسب والاحتراف، وميدانه قصور الملوك، ومجالس الأمراء، وأفنية الأشراف والأعيان. وقد انحرف الشعر إلى هذا الميدان على يد النابغة الذبياني، الذي سن للشعراء سنة المديح الرسمي - في تنقله بين قصور المناذرة والغساسنة - ومدح ملوكهم، كما سخر شعره لكل من يجود عليه أويرعاه في كنفه، وكان هذا أول الاحتراف في المديح والتكسب به. وقد حظي النعمان بن المنذر بنصيب وافر من ذلك.

واتى الأعشى ليسير على سنن النابغة في المديح، بل إنه أسرف في المسألة والتكسب، فأصبح يمدح جميع من منح، ويشكر بشعره كلَّ من أكرم، حتى يخرج عن حدود التصديق، كما في مديحه للأسود بن المنذر اللخمي - شقيق ملك الحيرة - ولهوذة الحنفي.

ومن هؤلاء الشعراء المتكسبين أيضاً: حسان ابن ثابت، والمسيب بن علس، والمنخل اليشكري، والممزق العبدي، والحارث بن ظالم، وعلباء بن أرقم.

أما الطريق الثاني: فهوطريق الإعجاب والشعور الصادق. والشعر هنا يصدر - فيما يقول - عن حب عميق، وإحساس نقي، لا تملق فيهما ولا تزلف. وحامل لواء هذا الشعر هوزهير ابن أبي سلمى، الذي سخر شعره لكل من قام بإصلاح ذات البين، أو خلق مأثرة كريمة، نائياً بأشعاره المدحية عن المبالغة والشطط.

ومن ممدوحيه: هرم بن سنان، والحارث بن عوف، اللذان أصلحا بين عبس وذبيان، في حرب داحس والغبراء، وبذلا من أموالهما ديات القتلى حقناً للدماء، ونشراً للسلام بين المتحاربين.

الفخر

وهذا فن شعري تربطه بالمدح صلات وشيجة، فالمعاني التي تتردد في المدح، هي نفسها مما يتغنى به الشعراء مفتخرين. ذلك حتى الحياة العربية في العصر الجاهلي قامت على لقاءة المخاطر، والمزاحمة على الماء والكلأ، والشجاعة في القتال، وما يتصل من ذلك كله بسبب: كالتغني بالبطولات وشن الغارات، وتمجيد الفوزات، وكثرة العدد والعدة، ومنازلة الأقران، ونجدة الصريخ، والحفاظ على الشرف والجار، وهذه الأمور جميعاً أذكت قرائح الشعراء، ووفرت لهم مسببات التفاخر والتباهي، منفردين ومجتمعين، فانطلقت ألسنتهم بأشعار زاخرة بالعاطفة القوية، والانفعال العميق، تبرز فيها الحقائق التاريخية مجلببة بجلباب الخيال والمغالاة.

=وهذا الفخرقد يكون قبلياً تارة تسيطر عليه روح حماسية جارفة، وهذا شأنه دائماً في مواطن الكر والفر، والأخذ بالثأر وتضييق الخناق على الأعداء، واستطابة الموت عند الحرب، إذ ينطوي شعر الفخر على دفقات قوية من الحماسة، ويكون من ذلك مزيج متلازم. ومن خير ما يمثل هذا الفخر القبلي الحماسي معلقة عمر بن كلثوم التغلبي، التي سجل فيها فوزات قبيلته، ومنعتها، وما يتحلى به أفرادها من شجاعة وإقدام، وسطوة وهيبة وأنفة وإباء.

وهذه الحماسة المزهوة لا تحول دون إنصاف الشاعر لأعدائه، والإقرار بقوتهم وشجاعتهم، وعهدت في الشعر الجاهلي قصائد من هذا القبيل سميت «المنصفات» ومن أصحابها: العباس ابن مرداس، وعوف بن الأحوص، وخداش بن زهير.

ويكون الفخر تارة أخرى ذاتياً ينبعث من نفوس تهوى العزة والمجد، وتحرص على بناء المكارم، والتباهي بمآثرها الفردية، ويبدوهذا الفخر الذاتي لدى طائفة من الشعراء الفرسان والأجواد، كعنترة، وحاتم الطائي، وعمروبن الإطنابة، والشعراء الصعاليك كالشنفرى، وتأبط شراً، وهنا يحلوللشاعر حتى يتحدث عن نفسه وخصاله، وعراقة أصله، وطيب منبته، ومايتحلى به من كرم ومروءة وحماية للجار، وغير ذلك من الفضائل الخلقية. وفي معلقات طرفة بن العبد، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد، صور كثيرة من هذا الفخر الفردي، تتلاقى على صعيد واحد، وقد وشحها أولئك الشعراء بذكر القصف واللهو، والفخر بشرب الخمرة في معرض الحديث عن الكرم والإكرام.


الرثاء

يلتقي الرثاء والمديح في أنهما كليهما إشادة بالمرء وإعلاء شأنه، لكن الأول إشادة بالميت وخصاله، والثاني إشادة بالحي وتمديد لمآثره وسجاياه. ويمتاز الرثاء أيضاً بأنه فن شعري ثابت المعاني والهدف، لأنه يعبر في معظم أحواله عن انفعال وجداني، وشعور عميق بالحزن والألم، حين تفقد الأسرة أوالقبيلة، عزيزاً فيغمرهم الحزن وتتحرك الشاعرية لتعبر عن الأسى المشهجر، والخسارة الفادحة والمجد الذي انهد ركنه، والشمائل التي حكم بها الموت للقبر والتراب. وقد يصحب تعداد شمائل الميت، والبكاء عليه، أخذ بأسباب العزاء فيه، ودعوة إلى الصبر على حدثان الدهر، والتأسي بمن طوتهم المنون من قبل، لأن الدنيا دار فراق وزوال، لا دار خلود وبقاء، وليس أمام الإنسان سوى الاستسلام للأقدار، والقبول بالقضاء.

هذه المعاني والأفكار، في جملتها تتردد في أشعار الرثاء عند الجاهليين، وقد يطغى جانب منها في القصيدة على آخر، أوتتفرع عنها معان جرئية، ولكن تظل المناحي الأساسية بارزة في تلك الأشعار.

وإذا كان المرثي ذا منزلة رفيعة لجأ الشاعر إلى المبالغة وتهويل الخطب وإشراك الطبيعة في استعظام المصاب.

وقد اشتهر عدد من الشعراء أجادوا الرثاء في العصر الجاهلي، منهم: المهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، وأعشى باهلة، ولبيد، وطفيل الغنوي، وأوس بن حجر، وأبودواد الإيادي. كما عهد كثير من النساء بإجادة هذا الفن الشعري والنبوغ فيه، كالخنساء، وجليلة زوجة كليب، وسعدى بنت الشمردل.

والرثاء عند هؤلاء الشعراء والشواعر، منه ماقد يكون في الأقرباء الأدنين: كما في رثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لأخويها صخر ومعاوية، ولبيد لأخيه أربد. ومنه ماقد يكون في أناس آخرين، من ذوي المكانة والشأن في قبيلة الشاعر، أوفي غيرها من القبائل، ممن تقربهم إلى الشاعر صلات وثيقة. ومن ذلك قصيدة أوس بن حجر، التي رثى فيها فضالة الأسدي، وتعد من عيون المراثي في العصر الجاهلي: ومطلعها:

أيتهــا النفــــس أجملــي جـــزعاً إن الـــذي تحـــذرين قــد سقطــا

وقصيدة أبي دواد الإيادي، التي رثى فيها من طواهم الردى من شباب قبيلته وكهولها، وذكر ما لهم من صفات ومفاخر ومجد، وأشاد بما كان لهم من بأس وسخاء في أوقات الشدة والجدب، وما تحلوا به من عقول راجحة وآراء سديدة. وأول هذه القصيدة:

منـــع النـــوم، مـــاوي، التهمام وجـــدير بالهـــم مـن لا ينــــام

والرثاء عند الجاهليين يكثر فيه ترداد ألفاظ معينة، كالجملة النادىئية: «لا تبعد» أو«لا تبعدن» كما يكثر النادىء بالسقيا لقبر الميت: «سقيا لقبرك» «سقاك الغيث» وذلك ليبقى ما حول القبر خصباً ممرعاً.

الهاتى

حظ هذا الفن في الشعر الجاهلي قليل؛ إذا قيس إلى الفخر أوالغزل مثلاً؛ ولكن أثره كبير في النفوس، وسقطه أليم في الأفئدة، لأنه يقوم على إذلال المهجو، وتجريده من الفضائل والمثل التي يفتخر بها القوم، أوالتي بها يمدحون. ومن ثم الفخر، والمدح، والهاتى، تجمع ثلاثتها جملة من الفضائل وأضدادها، فالكرم، مثلاً، فضيلة لديهم، وفي لقاءه تكون نقيصة البخل والشح، والشجاعة ضدّها الجُبن. إلى غير ذلك.

وعلى هذا، فإن الهاتى في الشعر الجاهلي هوانتقاص للخصم، وتعيير له بجملة من المخازي والمساوئ التي يستهجنها مجتمعه، فمنها ما في مجال الحروب والغزوات التي حفلت بها حياتهم: كالجبن، والفرار عند اللقاء، والوقوع في الأسر، ودفع الفدية، ومنها ما في حيز العلاقات الاجتماعية، والنقائص النفسية: كالبخل، والاعتداء على الجار، واللؤم، والغدر، والقعود عن المكارم، وما يتفرع عن ذلك كله من المعايب والسقطات التي يعدها العربي عاراً يبرأ منه، أويحذر الوقوع فيه، لئلا يصيب منه الشاعر مقتلاً. فضلاً عما تحرص عليه القبيلة في أفرادها كافة من كرم الأحساب، ونقاء الأنساب، لئلا تتحطم سمعتهم، أوينهار بناء أحسابهم وأنسابهم، فيكونوا نصباً للهاتى.

والهاتى عندهم على ضربين: هاتى فردي، وآخر جماعي يتجه إلى القبيلة نفسها وقد يجمع الشاعر بينهما.

وهاتى الجاهليين عامة يسلك مسلك الجد. ولا يدخله الإفحاش ولا الشتيمة الصريحة، ولكن من الممكن داخله شيء من السخرية والتعريض والتلميح الموجع، بدلاً من الهاتى المباشر.

الحكمة

الحكمة قديمة في أشعار الجاهليين، لأننا نعثر عليها عند أوائلهم، كامرئ القيس وعبيد بن الأبرص، كما حفلت بها قصائد الشعراء الآخرين على مر السنين. وحكمهم مستمدة من بيئتهم التي عاشوا في كنفها، حرباً وسلماً، وعلاقات وعادات، وأخلاقاً وسجايا.. وهذه الحكم صدى لصفاء الفطرة، ودقة الإحساس، وغنى التجارب، والقدرة على استخلاص العبرة من الحوادث، ولا تخلو، في الوقت نفسه، من قيمة تاريخية، ودلالة اجتماعية، ونواح أخلاقية، وفلسفة عملية تختلف من زمن إلى زمن، ومن إنسان إلى آخر، لأنها تعبر عن آراء أصحابها، ومواقفهم من الحياة والناس، وتفكيرهم في تقلبات الأيام. وتحمل في طياتها نظرات ثاقبة، وبصيرة واعية، إزاء قضايا الناس والحياة، ويسوقها الشاعر في مطاوي القصيدة أوفي نهايتها.

وتعد المعلقات أوضح الأمثلة للقصائد التي تحفل بالحكم، على تنوع موضوعاتها وأغراضها، كمعلقة زهير، التي أوفد فيها نحوالعشرين بيتاً، وبدا في سردها هادئ النفس، رصين التأمل، واقعي التناول لقضايا الحرب والسلم، والحياة والموت، وخفايا النفس الإنسانية.

وأما طرفة، الشاعر الشاب، فإن حكمه في معلقته تنبع من شخصيته العابثة، التي ترغب حتى تستبق اللذات قبل حتى يفاجئها الموت، لأن الحياة أشبه بكنز يتناقص شيئاً فشيئاً، والموت سيأتي على جميع حي، ولا راد لما يأخذ.

وتنبث الحِكم في قصائد الشعراء الآخرين: كلبيد، وعبيد بن الأبرص، وحاتم الطائي، وأوس ابن حجر وعلقمة بن عبدة، والأفوه الأودي. وانفرد منهم أمية بن الصلت بالإكثار من الحكم التي تعتمد على أخبار الأديان والأمم الغابرة، وقراءة الخط، ولذلك اجتمعت فيها روافد التجربة والثقافة معاً. وكان طابعها دينياً ممزوجاً بالكلام على زوال الحياة وتحكم حوادث الدهر في الناس.

الوصف

الوصف يغلب على أبواب الشعر جميعاً، فهوباب واسع، يضم جميع ما يقع تحت الحواس من ظواهر طبيعية، حية وصامتة. إلى غير ذلك كان عند شعراء العصر الجاهلي الذين عايشوا الصحراء في حلهم وترحالهم، وألفوا القفار الموحشة، وما فيها من جبال ووديان ومياه وحيوانات أليفة وغير أليفة، فوصفوا ذلك كله لأنه وثيق الصلة بحياتهم وتقلباتهم.

وكانت الناقة صاحبة الشاعر في جوبه لتلك الفيافي والمفاوز، وعليها اعتماده في كثير من أحواله، لذلك أكثر فيها القول، وافتن في وصف أجزاء جسمها، وصور جميع أحوالها في سيرها وسرعتها، وصبرها على مشاق السفر، حتى كادت الناقة تستأثر بنصيب وافر في طول القصائد التي نظمها أصحاب المعلقات وغيرهم، كبشامة بن الغدير، والمثقب العبدي، والمسيب بن علس، وأوس بن حجر، وغيرهم.

والفرس هوالحيوان الثاني الذي يرافق الشاعر الجاهلي، ويقاسمه العيش، ويتحمل معه التعب والعناء، والسير والسرى، ولاسيما في خروجه إلى الصيد، وخوضه الحروب. وقد عني العرب بالخيول الأصيلة، واتخذوا لها أسماء خاصة، وحفظوا أنسابها أيضاً، فلا غرابة حتى يصفها شعراؤهم في قصائدهم، ولكل واحد من هؤلاء الشعراء طريقته الخاصة في وصف فرسه، سواء أكان ذلك في مجال الصيد واللهو، كامرئ القيس، أم كان في ميادين الحرب والقتال: كعنترة والمزرَّد، أم كان وصفاً عاماً للفرس، على أنه مجلى النظر وموضع الفخر، كما هوالشأن عند طفيل الغنوي وأبي دواد.

ولم يكتف الشعراء بوصف الناقة والفرس، وإنما وصفوا ضروب الحيوان الأخرى في بيئتهم ولاسيما الثور الوحشي، والبقرة الوحشية، وجعلوا وصفهم لهذين الحيوانين ذريعة إلى وصف الناقة بالسرعة والخفة عن طريق تشبيهها بأحدهما، وتخيل معركة ضارية بين الثور، أوالبقرة من جهة، وكلاب الصيد من جهة أخرى. وتنتهي هذه المعركة غالباً بنجاة الحيوان الوحشي، وتغلبه على الكلاب، أوطعنه أحدها بقرنه.

كما يرد في قصائد الشعراء أوصاف لحيوانات أخرى: كالهر، والديك، والحية، والذئب،والنعامة، والغراب. وهذه الأوصاف كلها تأتي في ثنايا القصائد الطويلة، أما مطالع تلك القصائد فقد استأثر بها وصف الأطلال والرسوم الدارسة، التي تؤلف ركناً قوياً ثابتاً في أول القصيدة الطويلة، كالمعلقات وغيرها، إذ يقف الشاعر على تلك الأطلال ويصفها ويناجيها، ويذكر ما عملته فيها الرياح والأمطار مشبهاً إياها بآثار الكتابة أوالوشم.

وكذلك وصف الشعراء الجاهليون مظاهر الطبيعة حولهم كالليل، والسحاب، والرعد، والبرق،ووصفوا كذلك الخمر ومجالس الشرب واللهووالحرب وأسلحتها المتنوعة. وهذا كله يشير على عناية أولئك الشعراء وغيرهم بوصف جميع ما يحيط بهم وصفاً دقيقاً، في بساطة وجمال، وصدق في التعبير عن المشاعر والإحساسات، وتعاطف مع الحيوان عامة، بوساوسه وحذره وجرأته. معتمدين على النطقب القصصي في كثير من الأحيان، وعلى التشبيه وسيلة للأداء والتصوير.

خصائص الشعر الجاهلي: هذا الشعر الذي وسم بأنه «ديوان العرب» وسجل حياتهم وعاداتهم، قد صور البيئة التي نشأ فيها أصحابه أصدق تصوير، في واقعية وبساطة ووضوح، لا غلوفيها ولا تعقيد، إلا بما يتفق ومهمة الشعر، من حيث كونه فناً جمالياً لا يلتزم الحقيقة والواقع التزاماً فهمياً دقيقاً، وإنما يهدف إلى الإمتاع والإثارة والتشويق. ومن شأنه في هذه الحالة حتى يتجاوز الواقع أحياناً، أويعتمد على الخيال والتصوير الحسي المستمد في الوقت نفسه من البادية ومعطياتها، منتقلاً بين الحقيقة والمجاز، في نقل الصور والمشاهد، أوالتعبير عن الأفكار والمشاعر، في إيجاز حيناً، وإطالة حيناً آخر بحسب المقام والغرض.

ويلاحظ في الشعر الجاهلي كثرة ذكر الأماكن والمياه والوديان، ولاسيما في مطالع القصائد، وصفاً أومناجاة، لأنها تحفل بالذكريات الحية: فهي مواطن الأحبة ومسارح الصبا وميادين الحروب والفوزات.

والطابع القصصي يغلب على الكثير من المواقف، في جاذبية وجمال، ولكنه يميل إلى السرعة والإيجاز، كما في وصفهم للحيوان الوحشي، ووصف الصعاليك لمغامراتهم وغزواتهم الفردية، وغزل بعض الشعراء كالمنخل اليشكري، والمرقشين: الأصغر والأكبر. ويبدوذلك أيضاً في أبيات أوس بن حجر التي وصف فيها سيرة القوس وحفظ الراعي لها في رأس جبل عال، حتى حظي بها امرؤٌ استخدمها في الرمي، بعد حتى أعدها صانعها وتأنق فيها.

وقد يتشابه الشعراء الجاهليون، في بعض المعاني، والصور حتى في الألفاظ أيضاً، وهذا ظاهر في أوصافهم للناقة والفرس، والمرأة، وأدوات الحرب، والوقوف بالديار، حتى ضاق عنترة ذرعاً بذلك فنطق: هل غادر الشعراء من متردم؟، ومثله زهير في قوله:

مـــا أرانـــا نقـــول إلا معـــاراً أومعـــاداً مــن قـــولنا مــكرورا

وسبب ذلك ضيق الحياة في ذلك العصر، واقتصار البيئة على معطيات واحدة، وشدة تطبع العربي بتلك البيئة التي ترعرع فيها، ونشأ على أعرافها وتنطقيدها. واقتفاء الشاعر خطا من سبقوه من الشعراء وتأثره بهم. ولكن هذه الظاهرة لم تحل دون بروز شخصية الشاعر الفنية، وأدواته الخاصة في التعبير والتصوير، والابتكار والتوليد، والنفوذ إلى دقائق كثيرة، يجلوها أتم جلاء، ويكشف عنها ببراعة ومهارة.

ومما يلفت النظر، في طول القصائد الجاهليات، فقدان وحدة الموضوع منها. ويخضع ذلك لما نادىه النقاد بمنهج القصيدة، أوهيكلها.

وقد استمر ذلك إلى العصر العباسي، وتمسك به كثير من الشعراء والنقاد المحافظين، وتحدث عنه ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» وعلل مراحل الانتنطق من موضوع إلى آخر ضمن القصيدة المدحية، راوياً عن بعض أهل الأدب: «أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها.. ثم وصل ذلك النسيب، فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرْط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه.. فإذا فهم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل فإذا فهم أنه قد أوجب على صاحبه حق الراتى.. بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل». ويعقب ابن قتيبة على ذلك قائلاً: «فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يبتر وبالنفوس ظمأ إلى المزيد».

ويمكن تعليل تعدد الموضوعات في طوال القصائد بأن الشاعر كان يخضع لأصول فنية متوارثة تأصلت على مرور الزمن والتزمها الشعراء فغدا الهيكل العام للقصيدة يؤلف وحدة فنية داخلية بديلة عن الوحدة الموضوعية.

ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضاً حتى هذا الشعر قد وصل إلينا باللغة التي غلبت في العصر الجاهلي قبيل الإسلام، وهي اللغة الأدبية المشهجرة بين الشعراء والكتاب والخطباء، وإن كان هؤلاء ينتمون إلى قبائل مختلفة. وقد وصل إلينا هذا الشعر تام الصياغة، ناضج اللغة، موحد القوالب، ذا قوة وجزالة، ومتانة في العبارة، وإذا عثر قارئه شيئاً من الألفاظ الغريبة فيه، فإنما هي كذلك بحسب ما نعهده نحن اليوم من تلك الألفاظ التي بعد العهد بها، وندر استعمالها بين الشعراء والكتاب، لكنها لدى الجاهليين أنفسهم كانت مألوفة ومعروفة.

النثر الجاهلي

بنى العرب مجدهم الأدبي، في العصر الجاهلي، على الشعر. ومع حتى الكتابة كانت معروفة لهم - فإن ما وصل إلينا من نثرهم قليل جداً. وكانت الكتابة تقتصر على جوانب تتصل بحياتهم السياسية والاجتماعية والتجارية، من رسائل، وعقود ووصايا ومواثيق. وفي القرآن الكريم إشارات إلى كتابة الديون، وحديث عن رحلتي قريش.. ومثل هذه الرحلات التجارية تستدعي الكتابة والتسجيل.

وليس المراد بالنثر الجاهلي هنا ذلك النثر العادي الذي يتخاطب به الناس، وإنما المراد به النثر الأدبي أوالفني الذي يعنى صاحبه بتجويده، وإتقانه لينال إعجاب القارئ، من حكمة تنطق، أوسيرة تروى، أومثل يضرب، أوخطبة تلقى، أورسالة تدبَّج، أووصية بليغة تنقل.

مثل هذا النثر الفني قليل الوجود بين أيدينا بلفظه الأصلي الذي صدر عن أصحابه لأن حفظ النثر أصعب من حفظ الشعر، لكن الذاكرة الأدبية للرواة اكتسبت على مر العصور أصالة ومراناً، مما أعطى لهم حتى يحتفظوا بنصوص من ذلك النثر، في صورتها الأصلية، وبأخرى ليست موافقة لأصلها جميع الموافقة، ولكنها صورة قريبة منه، يمكن من خلالها تحديد خصائصه الفكرية والفنية. وهذه النصوص النثرية الجاهلية، الأصلية والقريبة من الأصل، وردت في طائفة من المصادر الأدبية والتاريخية القديمة. وكان في تلك النصوص فنون أدبية نثرية، تأتي في مقدمتها: الخطابة - ويلحق بها المنافرات، وسجع الكهان - ثم الحكم والأمثال - ويلحق بها الوصايا والنصائح - ثم القصص، فالرسائل.

فنون النثر الجاهلي وأغراضه

الخطابة

ازدهرت الخطابة عند العرب متأخرة في الزمن، لأن الشعر كان متفوقاً عليها، فلما أصبح الشعر مطية للتكسب صارت منزلة الخطيب هي المقدَّمة. واشتهر في العصر الجاهلي خطباء كثيرون، مثل: قس بن ساعدة الإيادي، وهانئ بن قبيصة الشيباني وعامر بن الظَّرب العدواني، وعمروبن كلثوم التغلبي، وأكثم بن صيفي وعمروبن الأهتم التميميان، وهاشم بن عبد مناف القرشي.

وقد تعددت أغراض الخطابة وأنواعها، إزاء هذا الازدهار، فكانت وسيلة للتحريض على القتال، أوللأخذ بالثأر، وربما كانت في الوقت نفسه سبيلاً إلى إصلاح ذات البين أوإرساء قواعد السلم. وقد تكون في إشاعة المفاخر، والإشادة بالأنساب أمام الملوك وزعماء القبائل، والأمراء. وقد تلقى الخطب في مناسبات الزواج، والمصاهرات بين ذوي الأحساب والأنساب، فيتحدث خطيب من جميع جانب. نطق الجاحظ: «كانت خطبة قريش في الجاهلية، يعني خطبة النساء: باسمك اللهم ذكرت فلانة، وفلان بها مشغوف. باسمك اللهم، لك ما سألت، ولنا ما أعطيت».

وكانت للخطباء سنن وتنطقيد يتبعونها عند إلقاء خطبهم، كأن يقف الخطيب على مرتفع من الأرض، معتمداً على قوسه، أوممسكاً بعصا يشير بها، وقد يخطب راكباً على ناقته، وبيده الرمح، وقد لاث العمامة على رأسه.

ومما يمدح به الخطيب عندهم: حضور البديهة، وقلة التلفت، وقوة الجنان، وظهور الحجة، مع جهارة الصوت. وفي لقاء ذلك كانوا يعيبون على الخطيب التنحنح، والانقطاع، والاضطراب، والتعثر في الكلام. وقد استقرت للخطابة في العصر الجاهلي مجموعة من الخصائص الفنية، كان الخطباء يحرصون عليها في خطبهم، منها مراعاة السجع في مقامات الفخر خاصة. أما في خطب المحافل وإصلاح ذات البين، مثلاً، فكانوا يستخدمون الأسلوب المرسل الذي لا يغفل صاحبه - في الوقت نفسه - تجويده وتنقيحه، والتروي فيه، سعياً إلى إثارة السامعين واستمالتهم. وهذا ما جعلهم يؤثرون قصر العبارة في خطبهم، وتوشيحها ببعض الحكم والأمثال، أما الخطبة نفسها فقد تطول، وقد تقصر، ولكل منهما مقام وموضع وقدر من العناية.

المنافرات

وهي مفاخرات كانت تحدث بين اثنين أوأكثر من سادة العرب وأشرافهم، وفيها يشيد جميع من المتفاخرين بحسبه ونسبه ومجده وسجاياه، أمام حكم من أشراف العرب أوكهانهم، ليكون له القول الفصل في تفضيل أحد الطرفين على الآخر. ولكن الحكم يسعى في كثير من الأحيان إلى الصلح بين المتنافرين، تفادياً للشر، ويتحاشى الحكم لأحدهما على الآخر، ويلقي عليهم كلاماً بليغاً يدعوهما فيه إلى السلام والصفاء. ومن ذلك ما كان من هرم ابن قطبة الفزاري، حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بعد حتى اشتد النزاع بينهما، فجعل هرم يطاولهما، ويمهد للصلح بينهما، حتى نطق لهما أخيراً: «أنتما كركبتي البعير، تقعان إلى الأرض معاً وتقومان معاً». فرضيا بقوله وانصرف جميع منهما إلى قومه. واشتهر من هؤلاء الحكام أيضاً: ربيعة بن حذار، والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزى، وهاشم بن عبد مناف.

وربما جرت المنافرة بين قبيلتين: كربيعة ومضر، أوقيس وتميم. وهذا ما يحيل المنافرة إلى صورة من صور الخطابة، إذ يقف جميع سيد ليعدد مآثر قومه أمام الحكم، بحضور سادة القبائل وأشرافها ويحاول التأثير في السامعين ليحوز الإعجاب والحكم له بالغلبة على خصمه.

وإذا فصل الحكم بين المتنافرين، سجع في كلامه حيناً، وأوفده حيناً آخر. وهويحرص على السجع والقسم ولاسيما إذا كان من الكهان.

سجع الكهان

والكهّان عند العرب طائفة ذات قداسة دينية، وسلطان كبير لدى القبائل، شأنهم شأن الحكام في المنافرات. وكانوا يزعمون الاطلاع على الغيب، وأن لكل منهم رئيّاً - أي صاحباً من الجن - يعهد الكاهن عن طريقه ما سيكون من أمور. وكان الناس يتوافدون على هؤلاء الكُهّان من مختلف الجهات فيحكمونهم في منازعاتهم، ويستشيرونهم في أمورهم الخاصة وما يزمعونه من أعمال، أوما يرونه في منامهم من أحلام. وكانوا يستخدمون في أحكامهم وأقوالهم ضرباً من النثر المسجوع عهدوا به.

وقد ظهر في العرب عدد من هؤلاء الكهان، وفيهم من كانوا حكاماً في المنافرات أيضاً. ومنهم: سطيح الذئبي، وشق الأنماري، وسلمة ابن أبي حيّة، المشهور باسم عُزّى سلمة، وعوف الأسدي، .بل كان فيهم نساء كاهنات أيضاً، من أمثال: فاطمة الخثعمية، وطريفة اليمينية، وزبراء.

ويلاحظ في نصوص الكهان أنها تحمل طابع التكلف الشديد في سجعها ولهذا لا يطمأن إليها كلها، فربما شاب بعضها الوضع والنحل، وربما كان بعضها محفوظاً سليماً، لقصره وإيجازه.

ومن خصائص أسجاع الكهان أنها - في جملتها - كلام عام، لا يرشد السامع إلى حقائق جلية، وإنما يضعه في الغموض والإبهام، باصطناع السجع، والإيماء، وقصر الجمل لإلهاء السامع عن تتبع ما يلقى إليه من الأخبار العربية، وجعله في حالة نفسية مضطربة تساعد الكاهن على الوصول إلى ما يريد، بكل سهولة ويسر، ويكون المخاطب، بتلك الإشارات الغامضة، والألفاظ المبهمة، والأقسام المؤكدة، والأسجاع المنمقة، مستعداً لقبول جميع ما ينطق له، بلا جدال أواعتراض، وتأويل ما يسمعه بحسب حالته ومدى فهمه.

الحكم والأمثال

وربما كانت وحدها التي وصلت إلينا كلها كما نطق بها أصحابها، بلا تغيير أوتحريف، ولا زيادة أونقص، لما تمتاز به من هجريز بالغ، وإيجاز شديد، وقبول للحفظ والشيوع على الألسنة في جميع مناسبة، وبذلك تكون أصح ما بقي من النصوص الجاهلية، وأقربها إلى أصولها الأولى، وإن كانت لا تقدم صورة كاملة عن النثر الجاهلي.

الحكم والأمثال جمل قصيرة بليغة، خالية من الحشو، أوحت بها تجارب الحكماء والمعمرين في الحياة والعلاقات بين الناس، وهي ثمار ناضجة من ثمرات الاختبار الطويل، والرأي المحكم. وقد اشتهر عند العرب في العصر الجاهلي طائفة من أولئك الحكماء، مثل: لقمان عاد وهوغير لقمان الحكيم، المذكور في القرآن الكريم، وأكثم بن صيفي، وعامر بن الظرب، وأكثم بن عامر، وهرم بن قطبة، ولبيد بن ربيعة. وبعض هؤلاء يُعدون في الخطباء، وحكام المنافرات أيضاً. ولا يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيد، أوشريف، أوخطيب مشهور إلا أضيفت إليه جملة من الحكم والأمثال.

والفرق بين الحكمة والمثل، حتى الحكمة قول موجز جميل، يتضمن حكماً سليماً مسلماً به. لأنه نابع من الواقع ومعاناة التجارب في الحياة، مثل: «آخر الدواء الكي، وأول الشجرة النواة، وإنك لا تجني من الشوك العنب، وإن العوان لا تفهم الخمرة...».

وأما المثل فهو- في أصله - قول يقترن بسيرة أدت إليه، ويدري به اللسان أول مرة، ثم يدخل في نطاق الأمثال حين يستشهد به في مقامات مماثلة، وفي حالات مماثلة للحالة الأولى التي ورد ذلك القول فيها. ولذلك تحكى الأمثال بألفاظها الأصلية، بلا تغيير ولا تصرف، مهما كان وضع المخاطب أونسق الكلام.

وقد دون العرب حكمهم وأمثالهم منذ أوائل العصر الأموي، وهذا مما ساعد على حفظها وتواترها على الألسنة.

وأكثر تلك الحكم والأمثال لا يعهد أصحابها أوقائلوها، وقد سيقت بأسلوب سهل، لا أثر للصنعة الإنشائية فيه، وبعضها بل أكثرها، يعد من الإنشاء الرفيع، والسبك الجيد. وكثير منها أشطار موزونة، من الممكن كانت مقتطعة من أبيات كاملة، مثل: «رضيت من الغنيمة بالإياب» وهوعجز بيت لامرئ القيس، و«خلا لك الجوفبيضي واصفري» وهوأيضاً عجز بيت لطرفة. «والبس لكل حالة لبوسها» وهورجز قديم، لا تعهد تتمته ولا صاحبه.

ولا تخلوصياغة بعض الحكم والأمثال أحياناً، من خروج على النظام اللغوي. كقولهم: «مكره أخاك، لا بطل» و«أعط القوس باريها» و«أجناؤها أبناؤها» والقياس: «جناتها بناتها» لأن «فاعلاً» لا يجمع على «أفعال». وهذه الحكم أوالأمثال هي - على جميع حال - صورة لحياة العرب في الجاهلية، ولأساليبهم ولهجاتهم، وجانب من نثرهم، فيها البساطة والسهولة التي لا تخلوأحياناً من السجع والاحتفال بتوازن الحدثات وجمال الصنعة والتصوير.

الوصايا

يمكن إلحاق الوصايا بالحكم والأمثال لتضمنها كثيراً من تلك الأقوال الموجزة النابعة من التجربة، حتى لكأن الوصايا أحياناً قائمة على جملة من الحكم والأقوال المأثورة.

وتروى هذه الوصايا عادة على ألسنة طوائف من الحكماء والمعمرين، الذين عهدوا بكثرة تجاربهم وخبرتهم في الحياة، من أمثال: ذي الإصبع العدواني، وزهير بن جناب الكلبي، وعامر بن الظرب العدواني، وحصن بن حذيفة الفزاري. ومن النساء: أمامة بنت الحارث. ويغلب على الظن حتى هذه الوصايا جميعاً رويت بالمعنى، ولكنها لا تخلومن بعض العبارات الأصلية المحفوظة، ولاسيما في الوصايا القصيرة. وهي - مع ذلك - تقدم صورة عن هذا الفن النثري، لأن من رووها أوحفظوها قد راعوا أصوله وتنطقيده.

وما وصل إلينا من تلك الوصايا بعضه موجه إلى الأبناء والبنات، وبعضه الآخر موجه إلى أفراد من القبيلة. أما من حيث الموضوع والمضمون؛ فيمكن تقسيم الوصايا إلى نوعين:

وصايا اجتماعية: كالوصايا المتعلقة بالزواج، والمال، والصداقة، والعناية بالخيل وإكرامها، ومكارم الأخلاق كتهذيب اللسان، وتربية النفس، والحث على الصدق، والبذل والجود... ومن شواهدها وصية ذي الإصبع العدواني - لما احتضر - لابنه أسيد.

وصايا سياسية: تكون بين الراعي والرعية، والدعوة إلى الحرب، والدعوة إلى السلم والتحذير من التنازع. والطابع العام للوصايا هوالأسلوب المرسل، الذي يهجر فيه الموصى نفسه على سجيتها، من دون تنميق أوزخرفة، مؤثراً وضوح العبارات، ورشاقة التراكيب، وقصر الجمل بما يحقق المناسبة بين المعنى واللفظ وطبيعة المقام الذي تنطق فيه الوصية.

القصص

ومن فنون النثر الجاهلي القصص وما يتصل منها بسبب، كالأسمار، والحكايات، والأساطير، التي تتناثر في خط الأدب والتاريخ والأمثال، والتفسير، وخط الشواهد النحوية والبلاغية، ومؤلفات الشرَّاح مما يؤلف ذخيرة قصصية غزيرة، تمثل في مضمونها جوانب من المجتمع العربي في العصر الجاهلي، أوما قريب منه، إذا صحت نسبتها إلى ذلك العصر.

وقد بقي الناس يتداولون هذه القصص عن طريق الرواية الشفوية، حتى بدأ تدوين بعضها في العصر الأموي، ولكن لم يصل إلينا شيء منه، بل وصل ما دُوَّن في أوائل العصر العباسي، وما بعد ذلك، بعد حتى تنقلت روايته في المجالس، وزيد فيه، ونقص منه، ولا يعهد مدونه ولا راويه، وإن حمل بعضه على الأصمعي وغيره، سواء في ذلك ما كان فيه إطالة وتفصيل، أوقصر وإيجاز. وقد كانت هذه القصص الجاهلية المتداولة نواة للقصص الشعبي الذي ازدهر في العصرين: العباسي والمملوكي.

ولهذا كله، يقع الشك في صحة نصوص القصص التي تحمل إلى العصر الجاهلي، من حيث الصياغة على الأقل. ذلك أنها لم تدون في ذلك العصر قط، ولا فيما هوقريب منه، بل صيغت بأساليب العباسيين، ومن بعدهم، الذين تصرفوا فيها صيغة ومضموناً، ولاسيما الطويلة منها. وتكفي الإشارة إلى حتى أيام العرب وملامحهم الحربية تؤلف ينبوعاً قوياً لتلك القصص، وقد دونها أبوعبيدة في شرحه لنقائض جرير والفرزدق. ومن هذا التراث القصصي أيضاً ما يتصل بملوك المناذرة والغساسنة والدولة الحميرية، وغيرهم ممن سبقوهم أوعاصروهم، كالزباء أوزنوبية. ومنه أيضاً قصص العشاق وأخبارهم، وبعض الأساطير عن الحيوانات كسيرة الحية والفأس في خبر المثل: «كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟».

هذا، إلى قصص أخرى متناثرة في كتاب الأغاني وغيره عن عمروبن كلثوم وربيعة بن مكدم، وعبد الله بن جنادىن، وغيرهم. وكل ذلك من موروثنا النثري، ولكنه لا يمثل أسلوب الجاهليين ولا صياغتهم.

الرسائل

وآخر أنماط النثر الجاهلي وفنونه الرسائل، التي تعد أقل فنون النثر شيوعاً، ولكنها أكثرها حاجة إلى التدوين الرقمي لاستخدام الجاهليين إياها في الأمور التجارية والسياسية والقبلية، وفي السفارة بينهم وبين الأكاسرة وملوك المناذرة والغساسنة. ومما يثبت ذلك حتى لقيط بن يعمر الإيادي. مثلاً، كان يحسن الفارسية، وكان من مقدمي تراجمة كسرى سابور، وكذلك كان عدي بن زيد العبادي وإخوته من كتاب الأكاسرة والمترجمين عندهم.

وما وصل إلينا من نصوص الرسائل الجاهلية قليل جداً، منها ما ذوطابع سياسي كرسالة النعمان بن المنذر إلى كسرى، حين جهز إليه وفداً ضم وجوه العرب من قبائل مختلفة، ليتحدث جميع منهم أمام كسرى بما يحضره عن مآثر العرب ومفاخرهم إذا صح هذا الخبر.

ومن تلك الرسائل ماقد يكون في القبائل، من عهود ومحالفات تقتصر على أغراض ضيقة جداً، ويمكن حتى تعد وثائق تاريخية. ومثالها كتاب التحالف بين عبد المطلب بن هاشم، وقبيلة خزاعة على التناصر والتعاون مدى الأيام في جمل مرسلة معبرة، تطول وتقصر، مع قوة وإحكام.

خصائص النثر الجاهلي

هذا العرض السريع لفنون النثر الجاهلي، والأعلام الذين اشتهروا في جميع فن، يمكن حتى يخرج منه بجملة من خصائص النثر الجاهلي، الذي تناول - في مضمونه - قضايا تهم الفرد والجماعة معاً، في تلك المجتمعات القبلية التي تتحكم فيها عادات وأعراف موروثة، وتنشد أخلاقاً وشمائل وغايات لا تكاد تحيد عنها. فكان ذلك النثر، بفنونه كلها متمماً للشعر الجاهلي أيضاً في تصوير جوانب أخرى من الحياة العربية، تصويراً أقرب إلى الحقيقة والواقع، بما في تلك الحياة من مفارقات ومتناقضات. فبينما تلاحظ توجُّه القوم إلى نواح خلقية وتهذيبية، وميلهم إلى الخير والإصلاح في وصاياهم، وبعض خطبهم وحكمهم، إذ بك تؤنس منهم ارتداداً إلى الغضب والتهور، وإشادة بالأحساب والأنساب، وإشاعة للعصبيات والمفاخر القبلية، والمصالح الخاصة، في المنافرات وبعض الخطب والحكم الأخرى، ولوأدى ذلك إلى إشعال نار الحرب.

إن تصوير النثر الجاهلي لذلك كله هوتصوير أقرب إلى الحقيقة والواقع، لأن واضعي بعض تلك النصوص، أوصائغيها، قد حاولوا، بقوة ملاحظتهم ومزيد عنايتهم حتى يجعلوها محاكية لأصولها الأولى، مستهدين في ذلك بقرائن مختلفة. ولهذا فإن تلك النصوص النثرية - مع ما اعترى معظمها من تغيير أوزيادة أونقص - هي في روحها وبنائها مقاربة لأصولها الجاهلية، حتى يمكن حتىقد يكون الحديث عن خصائص النثر الجاهلي مقارباً للحقيقة.

فهذا النثر، بفنونه المتنوعة تغلب عليه العناية والتجويد، والبعد، ما أمكن، عن الهلهلة والضعف. فيأتي مرسلاً طبيعياً تارة، ومتكلفاً محلى بالسجع والتصوير البياني تارة أخرى، بحسب الفن النثري من جهة، وبحسب الحال والمقام من جهة ثانية، رغبة في تحقيق الإمتاع، أوالتأثير والإقناع لدى السامع، والنفوذ إلى مكامن نفسه. ومعنى ذلك أنهم كانوا يتخيرون الكلام ويحرصون على القوة والجزالة، والتنغيم الموسيقي بين الجمل إذا احتاجوا إلى ذلك، كما في سجع الكهان والمنافرات.

ومن مراعاتهم للمقام، حتى نصوصهم تترجح بين الطول والقصر، ولكل منها موضع يحسن فيه. فالخطبة نفسها قد تطول وقد تقصر، وكذلك الوصية، أما الحكم والأمثال وأسجاع الكهان فلا تخرج عن القصر والإيجاز.

ويغلب على ذلك النثر الوضوح والسهولة في ألفاظه وتراكيبه، إلا ما نجده في سجع الكهان من غرابة في الأداء، وغموض في التعبير، إمعاناً منهم في الإيهام والإبهام، وكذلك ما قد نجده من ألفاظ تبدولنا اليوم غريبة، في طائفة من وصاياهم ومنافراتهم وبعض خطبهم، وما هي بغريبة عندهم.

المصادر

  1. ^ محمود فاخوري. "الأدب العربي في العصر الجاهلي". الموسوعة العربية. Retrieved 2013-02-10.
تاريخ النشر: 2020-06-04 11:39:44
التصنيفات: أدب عربي, جاهلية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

صفاقس : لا سيارات تاكسي ليومين بداية من اليوم

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:11:09
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 59%

الصحة: إنشاء أول مصنع لمشتقات البلازما فى العاصمة الإدارية

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:20:49
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 52%

ضبط المتهمين بالتشاجر لالتقاط صورة مع شعراء ليبيين فى مطروح

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:20:52
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 65%

«تنظيم الاتصالات» ينفي تحريك أسعار كروت الشحن - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:20:31
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 59%

43 % من التونسون تعرضوا للاحتيال مرة واحدة على الأقل

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:11:25
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 69%

«الأرصاد»: أجواء خريفية وممطرة.. وتوقعات بسقوط أمطار - أي خدمة

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:20:43
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 69%

طلبت

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:21:31
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 54%

جاليري بيكاسو يستضيف معرض “الأرض” للفنان أحمد عبد الكريم

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:21:26
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 66%

نادي الانصار السعودي يتعاقد مع المدافع التونسي بهاء السلامي

المصدر: جريدة المغرب - تونس التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:11:18
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 52%

طفلة عمرها 3 سنوات تطلق النار على نفسها

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:08:57
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 75%

القوات المسلحة تهنئ الرئيس السيسي بذكرى نصر أكتوبر - أخبار مصر

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:20:38
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 59%

رئيس الوزراء يهنئ السيسي بذكرى نصر أكتوبر المجيد - أخبار مصر

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:20:35
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 50%

صربيا تفوز على مصر في الطائرة ١/٣

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:21:23
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 66%

لا تزال محاولات النيل من الفنان هاني رمزي مستمرة

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:21:29
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 59%

صباح الخير يا مصر

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-10-03 09:21:36
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 63%

تحميل تطبيق المنصة العربية