التاريخ الاقتصادي للمملكة المتحدة

عودة للموسوعة

التاريخ الاقتصادي للمملكة المتحدة

التاريخ الاقتصادي للمملكة المتحدة يتعامل مع التاريخ الاقتصادي لبريطانيا منذ 1660.

الاقتصاد الإنجليزي 1625-1649

إن الثورة التي سودت برلماناً وقتلت ملكاً-قبل حتى يكفر لويس السادس عشر عن ذنوب أسلافه، بمائة وأربعة وأربعين عاماً-كانت لها جذورها في الصراع الاقتصادي والخلاف الديني.

كان الإقطاع تنظيماً يعتمد جميع الاعتماد على الزراعة. وكانت الملكية تنظيماً بلغ بالإقطاع ذروته. وكانت مرتبطة أشد الارتباط باقتصاد يقوم على الملاك والأرض. وحدث في إنجلترا تطوران اقتصاديان بترا هذه الجذور الإقطاعية. أحدهما نموطبقة كرام المحتد ذوي الملكيات الصغيرة من غير ذوي ألقب النبالة (Gentry)، وهم في موقف وسط بين الأشراف أوالنبلاء ذوي الألقاب، وبين صغار مالكي الأرض الأحرار أوالمزارعين الذين يملكون أرضاً. وكانت أيديهم مغلولة في ظل ملك وحاشية ومجموعة من القوانين لا تزال تفكر أوتصاغ بعقلية النظام الإقطاعي. ولقد اشتروا المقاعد في مجلس النواب أواستولوا عليها عنوة، وتطلعوا إلى حكومة لبرلمان خاضع لهم هم أنفسهم. أما التطور الثاني فهونموثروة البرجوازية-أصحاب المصانع والمحامون والأطباء-ومطالبتهم بتمثيل سياسي يتناسب مع قوتهم الاقتصادية، ولم يكن لهذه الدوافع الثورية مصلحة مشهجرة، بل تعاونوا لمجرد حتى يحاولوا كبح جماح ذوي النسب والحسب والحاشية المنتفخة الأوداج، وملك اعتبر حتى الأرستقراطية الوراثية، مصدر ضروري للنظام الاقتصادي والسياسي والاستقرار.

وكان النظام الاقتصادي يغير، من عام لعام، قاعدته ونقطة ارتكازه من الأرض الثابتة إلى المال المتحرك. وقبل 1540 كان مصنع النحاس يحتاج توظيف 300 دولار، (بعملة الولايات المتحدة 1958) وفي عام 1620، 125 ألف دولار. وما اتى عام 1650 حتى كانت المشروعات الرأسمالية التي تستلزم إنفاق اعتمادات ضخمة، قد نهضت بمصانع حجر الشب في يوركشير، ومصانع الورق في دارتفورد، ومصانع صب المدافع في برنديلي، والمناجم البعيدة العمق التي ازداد التهافت عليها للحصول على مزيد من الفحم والنحاس والزنك والحديد والرصاص. وفي 1540 كان هناك عدة مناجم ابتكر الواحد منها عشرين ألف طن. واعتمد الحرفيون والصناع الذين يستخدمون المعادن، على التعدين والصناعات المعدنية التي هجرزت في أيدي الرأسماليين، وزودت مؤسسات النسيج بالمواد اللازمة، الحوانيت التي كانت تستخدم ما بين 500 وألف عامل، والنساجين والخياطين الذين انتشروا في آلاف الدور في المدن والقرى. وكانت الزراعة تسم في التحول الرأسمالي في الإنتاج. واقتنى الرأسماليون مساحات كبيرة من الأرض وسوروها، بغية إمداد المدن باللحوم، والمصانع بالصوف داخل إنجلترا وخارجها. وارتفعت تجارة إنجلترا الخارجية إلى عشرة أمثالها فيما بين عامي 1610 و1640.

ولم يدر بخلد إنجلترا حتى الهوة كانت سحيقة جداً بين الغني والفقير، و"انحطت تعويضات العمال إلى أدنى مستوى لها في النصف الأول من القرن السابع عشر، لأن أسعار الطعام زادت على حين بقيت الأجور على ما هي عليه(1)". فإذا اتخذنا (100) كأساس، فإن الأجور الحقيقية للنجارين الإنجليز كانت 300 حوالي سنة 1380، و370 في سنة 1480، 200 في عهد إليزابث، 120 في عهد شارل الأول-وهذا أدنى أجر في بحر أربعمائة سنة(2). وفي 1634 كانت البطالة فظيعة إلى حد حتى شارل أمر بتدمير مصنع ميكانيكي لنشر الخشب أنشئ حديثاً، لأنه عطل كثيراً من النشارين عن العمل(3). وكانت الحرب مع فرنسا سبباً في حمل الضرائب، كما كانت الحرب في فرنسا سبباً في تعطيل تجارة الصادرات، وسوء المحاصيل (1629-1630) سبباً في تضخم الأسعار حتى صارت البلاد على حافة المجاعة(4). وأخذ هذا الاقتصاد المتضخم في الهبوط فجأة (1629، 1632، 1638)؛ وتضافرت جميع هذه العوامل مع الصراع الديني في حتى تدفع بكثير من الأسرات الإنجليزية إلى أمريكا، وتسقط إنجلترا في حرب أهلية غيرت وجه الأمة ومصائرها.

وكذلك أصبحت حرب الطبقات صراعاً بين المذاهب الدينية والقوانين الأخلاقية. وكان الشمال زراعياً بأغلبية ساحقة، وكاثوليكياً في معظمه ولوفي الخفاء. أما لندن والجنوب فكانت تنموفيها الصناعة والبروتستانتية بشكل متزايد. وعلى حين تعلقت قلوب رجال الأعمال الجديدة باحتكاراتها وبتعريفة الحماية الجمركية. فإنها في نفس الوقت طالبت باقتصاد حر تتحدد فيه الأجور على قدر العمل والسلع، وحيث لا تكون ثمة سيطرة إقطاعية ولا حكومية على الإنتاج والتوزيع والربح والملكية، وحيث لا توصم بوصمة عار، الأعمال التجارية، وال تقاضى الفوائد على الأموال، ولا المضاربة بالثروة. وتمسك البارونات وفلاحوهم بمفهوم الإقطاع عن الالتزام المتبادل والمسئولية الجماعية، وتنظيم الدولة للأجور والأسعار، وضوابط العهد والقانون لشروط الاستخدام والربح. واحتج البارونات بأن الاقتصاد التجاري (المركنتلي ) الجديد، الذي ينتج لسوق وطنية أودولية، كان يمزق العلاقات بين الطبقات ويقوض الاستقرار الاجتماعي. وأحسوا (كما أحس صغار ملاك الأراضي والحكومة) حتى قدرتهم على الوفاء بديونهم والتزاماتهم مهددة بخطر آثار التضخم على قيمة الرسوم والإيجارات والضرائب التي اعتمدوا عليها. ونظروا في ازدراء غاضب إلى المحامين الذين أسهموا بشكل واضح في الإدارة، وإلى التجار الذين حكموا المدن، وأوجسوا خفية من سلطان لندن التي سادتها الروح التجارية (المركنتلية)، والتي كان عدد سكانها يبلغ نحو300 ألف نسمة، من مجموع سكان إنجلترا البالغ خمسة ملايين، ومن ثم كانت تستطيع تمويل جيش وثورة.


الاقتصاد الإنجليزي 1660-1702

قدر عدد سكان إنجلترا وويلز في 1660 بنحوخمسة ملايين نسمة (55) من الممكن ازداد إلى خمسة ملايين ونصف المليون في 1700(56)، أي أنه لا يكاد يبلغ ربع عدد سكان فرنسا وألمانيا، وأقل من ربع سكان إيطاليا أوأسبانيا(57). وكان سبع السكان من طائفة "اليومن"، أي صغار مالكي الأرض الأحرار الذين يملكون الأرض التي يفلحونها، وشكل المزارعون المستأجرون الذين يعملون في الأراضي النبلاء وذوي احسب والنسب، نحوسبع آخر من السكان. أما بقية السكان فكانوا يقيمون في المدن.

وبازدياد السكان قل نصيب الأسرة من الخشب، وتزايد استخدام الفحم في البيوت والحوانيت، وتطور على المعادن واستخراجها من المناجم وأصبحت شفيلد مركزاً لصناعة الحديد. وسرت في إنجلترا حمى الإنتاج وجمع الثروات. وتوسل أصحاب المصانع إلى البرلمان حتى يصدر تشريعات ترغم العاطلين الكسالى على مزاولة العمل. وتزايد تشغيل الأولاد في الصناعات المحلية، وبخاصة النسيج. وتهلل وابتهج ديفولأنه في" كولشستر وتونتون": "لم يكن ولد فوق الخامسة من العمر، في المدينة أوفيما حولها من القرى، أهمله والده أولم يتلق تعليماً، الا واستطاع حتى يكسب قوته" وبالمثل حول "وست رايدنج": "لا يكاد يوجد ولد جاوز الرابعة إلا كفته يداه مؤونة العيش(58)".

وكان معظم الصناعة يتم في البيت أوفي حوانيت الأسرة. وحدث توسع في نظام المصانع في النسيج والحديد. وتذكر نشرة ظهرت في 1685 كيف من الممكن أن حتى "أصحاب المصانع يشيدون بتكاليف باهظة، دوراً ضخمة تضم جميع القائمين بعمليات صناعة الصوف، من فرز وتمشيط وغزل ونسج وكبس بل وصباغة، في صعيد واحد". وقيل أنه كان هناك مصنع من هذا القبيل يعمل فيه 340 شخصاً. وكان في جلاسجوفي 1700 مصنع نسيج يضم 1400 عامل(59). وكان تقسيم العمل والمجال فيه آخذين في التقدم، وخط سير وليم بتي في 1683 "في صناعة الساعة"، إذا قام فرد بعمل التروس، وآخر بصنع الزنبرك، فثمة ثالث يحفر القرص المدرج، ورابع يتولى صناعة الأغلفة ومن ثم تخرج الساعة أحسن وأرخص مما لوكلف بالعمل كله فرد واحد(60).

وظلت أجور الأعمال الزراعية يحددها الحكام المحليون وفقاً لقانون الغلمان المهنيين "الذي صدر في 1585 في عهد اليزابيث، فإذا دفع رب العمل، أوأخذ العامل، أكثر من الأجر المحدد، تعرض كلاهما للعقاب. وتراوحت أجور العمال الزراعية في تلك الفترة بين خمسة وسبعة شلنات في الأسبوع مع الإقامة والطعام(61). أما الصناعة فكانت الأجور فيها أعلى قليلاً. فكان الأجر اليومي شلناً في المتوسط، وربما كان هذا، من حيث القيمة الشرائية، يعادل، دولارين ونصف دولار في 1960. أما أجور المساكن فكانت منخفضة نسبياً، حيث كان إيجار البيت المتوسط في لندن يبلغ نحو30 جنيهاً في السنة(62). وكانت البيرة رخيصة الثمن، أما السكر والملح والفحم والصابون والأحذية والملابس، فكانت أثمانها في 1685 تعادل أثمانها في 1848(63). وازدادت أسعار الحبوب إلى خمسة أمثالها بين عامي 1500 و1700(64). وأكلت طبقات العمال خبز الجاودار والشعير والشوفان، أما خبز القمح فكان ترفاً ينعم به ذواليسار، ونادراً ما ذاق الفقراء اللحم. واعتبر الفقر الذي كان عليه جمهور الشعب أمراً عادياً, وربما كان أشد منه في أخريات العصور الوسطى(65). ويقول ثورولد روجرز:

"سعى مالكوالأرض طوال القرن السابع حتى يحصلوا من مستأجري الأرض على أكبر ما يستطيعون من إيجار، وبأقصى ما يمكن من قوة فرضوا على العمال أجور تؤدي بهم إلى الجوع والعوز، وبذلوا قصارى جهدهم في استغلال التشريع ليحصلوا من المستهلك على أسعار عالية تقرب الناس من حافة المجاعة والقحط. والتاريخ زاهر بالشواهد الكثيرة على تفاقم الحال يوماً بعد يوم(66)".

وفي 1696 قدر گرگوري كنگ حتى ربع سكان إنجلترا كان يعيش على الصدقات، وأن الأموال التي تجمع لإعانة الفقراء كانت تعادل ربع تجارة الصادرات(67). وقهر الأغنياء الفقراء وغلبوهم على أمرهم إلى حد بات معه الأُجراء والفلاحون أضعف من حتى يثوروا ويتمردوا، ولمدة نصف قرن خمد صراع الطبقات في إنجلترا(68).

أما الكنيسة الأنجليكانية التي كانت قد تجاسرت أيام شارل الأول على حتى تدفع عن الفقراء من وقت لآخر، فقد خلصت الآن، نتيجة للثورة البيوريتانية، إلى حتى مصالحها تحقق على أحسن وجه، إذا ربطتها بمصالح طبقات الملاك ربطاً تاماً(69). وكان البرلمان من ائتلاف بين مالكي الأرض وأصحاب المصانع والتجار والرأسماليين. ومن ثم أصغى، بحكم شعور الزمالة المتبادل، إلى صيحات طبقة أرباب العمل ليخلصهم من القوانين التي تعوق انطلاق القوى الاقتصادية للعمل دون قيود. وقبل نهاية القرن السابع عشر، وقبل ظهور آدم سميث بزمن طويل، سمعت إنجلترا بصيحة رب العمل"أهجره يعمل" (سياسة عدم التدخل) من أجل الحرية الاقتصادية، وتخلص أرباب العمل من العوائق الاقتصادية والإقطاعية والنقابية، في تشغيل العمال والإنتاج والتجارة(70)، وتجاوزوا القيود النقابية وانهارت النظم المهنية، وبطل العمل بتحديد الأجور عن طريق الحكام المحليين، بعمل القوة النسبية للمساومة بين أرباب العمل الأثرياء والعمال الجياع(71). إذا الأيديولوجية الحديثة للحرية، بدأت هنا الآن، حين طالب المقاولون والملتزمون المغامرون، في صخب وغضب، بالتحرر من القيود القانونية والأخلاقية.

وباتت التجارة الآن عنصراً هاماً فعالاً في الاقتصاد الإنجليزي، وعاملاً حيوياً في حصول البرلمان على الاعتمادات التي يقررها، إلى حد أنها، أي التجارة، شقت طريقها لتعمل ما تشاء مع الحكومة يسيطر عليها مالكوالأرض. وأصبح التشريع الإنجليزي في التجارة، يحابي الإنجليز لا على حساب الهولنديين وحدهم، بل على حساب الايرلنديين والاسكتلنديين كذلك، وحرم اتيراد الماشية والأغنام والخنازير من ايرلندا واستبعد الغلال الاسكتلندي، وفرضت ضرائب ثقيلة على واردات اسكتلندا، إذا الرغبة في التوسع في التجارة الإنجليزية وتفير الحماية العسكرية لها، هي التي حثت على التحالف مع البرتغال، وزواج شارل الثاني من كاترين براجانزا، وعلى تجدد الحرب مع المقاطعات المتحدة، والتصميم على الاحتفاظ بجبل طارق. وتضاعف حجم تجارة إنجلترا بين عامي 1660 و1688، بسبب الفوز على الهولنديين، إلى جانب مسببات أخرى(72)، وخط شارل الثاني إلى أخته يقول: "إن أقرب شيء إلى قلب هذه الأمة هوالتجارة وكل ما يتعلق بها(73)". وبات ثراء التجارة ينافس الآن اقتناء الأراضي الواسعة الطيبة.

ومدت المشروعات المغامرة الإنجليزية أذرعها في جميع اتجاه، فاتسعت للمشروعات الجديدة في نيويورك ونيوجرسي ومنسلفانيا وكارولينا وكندا، ومُنحت شركة الهند الشرقية جميع الحقوق فيما تستطيع حتى تضع يدها عليه في الهند، وكان لهذه الشركة أسطولها وجيشها وحصونها وعملتها وقوانينها، وكانت تعلن الحرب وتفاوض لعقد الصلح، وتم الاستيلاء على بومباي بالمصاهرة في 1661، وعلى منهاتن (في نيويورك) بحق الفتح في 1664. وفي العام نفسه استولى الإنجليز على الممتلكات الهولندية على الساحل الغربي لأفريقية. ومن أجل تزويد هذه المستعمرات بالأيدي العاملة نشأت عادة "الإكراه" وهي إغراء الشبان الإنجليز بالعمل في هذه "المزارع" بتقديم الخمر لهم أوضربهم حتى يفقدوا وعيهم، وعندئذ يحملونهم إلى ظهر سفينة على وشك الإقلاع، ثم يوضحون لهم أنهم كانوا قد سقطوا عقداً للعمل(74). إذا القانون قد حرم هذا الإجراء، ولكنه لم ينفذ. وكان موقف البرلمان واضحاً، فإنه على حين انتهت ثورتا 1642-1649 و1688- 1689 إلى تغلب البرلمان على الملك، حدثت في نفس الوقت ثورة اقتصادية متزامنة انتهت بسيطرة التجارة والصناعة والمال على البرلمان.

وكان في إنجلترا في تلك الأيام مئات من "الصائغين أصحاب المصارف" (مقرضوالنقود) الذين يدفعوا 6% أرباحاً على الودائع، ويتقاضون 8% على القروض(75). وكان شارل الثاني يلتمس أي منفذ لتجنب سلطة البرلمان على الخزانة، فلجأ إلى الإستدانه كثيراً من أصحاب المصارف هؤلاء، حتى بلغت ديونه منهم في 2 يناير 1672، 1328526 جنيهاً(76)، وفي هذا التاريخ كان مجلس الملك على وشك حتى يشن الحرب على المقاطعات المتحدة فأحدث في مجتمع المال هزة عنيفة "بإغلاق خزانة الدولة" أي منع تسديد فوائد ديون الدولة لمدة عام. فساد الذعر، ورفض أصحاب المصارف الوفاء بالتزاماتهم تجاه أصحاب الودائع، أوتطبيق اتفاقاتهم مع التجار، وعمل المجلس بوعود قاطعة باستئناف الدفع في نهاية العام. واستأنف الدفع في 1674، وسدد رأس المال عن طريق تعهدات والتزامات حكومة جديدة. والواقع أنه في 2 يناير 1672 تحددت بداية الدين الوطني في إنجلترا، وتلك حيلة جديدة في تمويل الدولة.

ومذ باتت لندن موطن أصحاب المصارف وأمراء التجارة ومركز الثورة المجموعة عن طريق نظام الأسعار، من منتجي الطعام والسلع، فإنها كانت الآن أكثر مدن أوربا اكتظاظاً بالسكان، فنافست قصور الرجال الأعمال الأرستقراطية في البذخ والترف، إذا لم يكن في الذوق. وكانت فيها مجموعة من المخازن بشعاراتها الفاتنة ولافتاتها المزخرفة ونوافذها ذات الأعمدة الحجرية، تعرض منتجات العالم أمام أنظار الأقلية، ورصفت الشوارع الرئيسية وحدها بالحصى عادةً وحوالي 1684 أضيئت بنور ضعيف حتى منتصف الليل في الليالي غير المقمرة بقناديل يعلق الواحد منها جميع عشرة أبواب. ولم يكن للشوارع أرصفة للمشاة، وكانت نهاراً تعج بالحركة الصاخبة من الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم في سلاسل أوعربات يد، أوعجلات يد، وبالمنادين الذين يعرضزن القيام بخدمات منزلية مثل "قتل الفئران والجرذان(27)". وكان هناك المتسولون واللصوص في جميع شارع، كما عثر أيضاً المغنون الذين يحملون عقيرتهم بالأغنيات من أجل الحصول على بنس. وكان حي الأعمال يسمى "السيتي". وكان يحكمه العمدة وهيئة البلدية ومجلس أرباب البيوت في الأحياء أعضاءه. والى القرب من هذا الحي، كان يقع "الحي السياسي" وستمنستر، وفيه الكنيسة والقصر اللذان يحملان هذا الاسم (وكان القصر مقر البرلمان)، وفيه القصران الملكيان هويتهول وسان جيمس، وخارج هذين القسمين من المدينة كانت أحياء الأكواخ التي تعج بالفقراء الكثيري التناسل. ولم تكن الشوارع فيها مرصوفة فكانت العربات ترش، مزهوة، ماء المطر أوالوحل على المشاة، وهي تصطدم بالجدران في الأزقة الضيقة. وكانت المنازل ضيقة جداً بعضها من بعض، والأدوار العليا متلاصقة متقابلة، مما لا يدع مجالاً لضوء الشمس المتبتر حتى ينفذ إليها. ولم يكن نظام المجاري الحالي معروفاً في لندن آنذاك، بل كانت مراحيض خارجية وبالوعات، وكانت العربات تحمل الفضلات وتقذف بها خارج حدود المدينة، أوفي نهر التيمز بطريق خفيفة غير مشروعة.

وكان تلوث الهواء آنذاك بالعمل معضلة وبناء على طلب الملك أعد جون افلين ونشر 1661 خطة لتبديد الدخان الذي علق بسماء لندن، نطق:

"إن الإسراف في استخدام الفحم يعرض لندن لأسوأ الإزعاج والخزي والعار، وليس هذا ناشئاً من نيران المطابخ التي لا يكاد يرى لها أثر، بل من بعض مداخن معينة في مصانع البيرة ومحال الصباغة وإحراق الجير، ومصانع الملح وغلي الصابون وبعض مصانع أخرى، تكفي فوهة إحدى المداخن فيها، وحدها وبشكل واضح، لتلويث الهواء وإزعاج لندن أكثر مما تعمل مداخل المدينة مجتمعة ... إذا لندن تكون أقرب شبهاً ببركان اتنه أوبضواحي جهنم، منها بمجتمع تعيش فيه مخلوقات عالقة، حين تفتح هذه المداخن أفواهها وتنفث القتام والسخام ... حتى السائح المنهوك سرعان ما يشم، من مسافة عدة أميال، رائحة المدينة التي يقصد إليها، قبل حتى يراها ... حتى هذا الدخان الأسود الكريه ... يقرح الرئتين، وهذا داء لا شفاء منه، إلى حد أنه يقضي على أعداد كبيرة من الناس، نتيجة السل المنهك الخطير، كما ينبئ بذلك نشرات الوفيات الأسبوعية(78)".

وأعد ايفلين مشروع قانون للبرلمان الذي كان أقرب منالاً لرجال الصناعة الأثرياء منه للجمهور الذي يعوزه التنظيم، ومن ثم لم يحرك هذا البرلمان ساكناً. وبعد ثلاثة عشر عاماً سوياً حمل سير توماس براون صوت الطب عالياً، يحذر من:

"الروائح الكريهة التي تنفثها البالوعات العامة، والأماكن المنتنة وفضلات المواد المغلية التي تستخدمها المصانع القذرة غير الصحية كما حتى الضباب والسديم يعوقان دخان الفحم من حتى يهبط ويتبدد، ومن ثم يمتزج بالسديم ويتنفسه الناس، ولكل هذا آثار سيئة، حيث يلوث الدم ويعرض السكان إلى النزلات الشعبية والسعال(79)".

إن الهواء الفاسد، وضعف الرعاية الصحية وسوء التغذية كان يهدد بانتشار الأوبئة في جميع عام وما حتى تجيء فترة تتجمع فيها ظروف غير مواتية، حتى تنزل كارثة الطاعون. وفي 31 أكتوبر 1663 دون بيبز في مذكراته: "أن الطاعون منتشر في أمستردام، ونحن في فزع منه هنا". وكانت السفن القادمة من هولندا تخضع للحجر الصحي، وفي ديسمبر 1664 توفي إنسان واحد بالطاعون في لندن، واثنان في أبريل 1665، وفي مايو43 شخصاً، إلى غير ذلك تفاقم الحال حتى حل الصيف الحار مع مطر قليل يساعد على تنظيف الشوارع، فكان ضغثاً على إبالة، وأيقنت لندن التي ملأها الفزع والجزع، أنها تقابل شيئاً شبيهاً بالموت الأسود 1348 الذي لا تزال ذكراه عالقة بالأذهان. وكان ديفوآنذاك صبياً في السادسة، ولكنه استطاع حتى يعي قدراً كبيراً مما تردد في هاتيك الأيام عن الطاعون، فخط بترة خيالية بعنوان "صحيفة عام الطاعون" تكاد نتكون في منزلة التاريخ(80):

"منذ الأسبوع الأول من يونيوانتشرت العدوى بصورة الرهيبة، وارتفعت أرقام الوفيات، وعمد الناس إلى إخفاء قلقهم قدر الطاقة، حتى يحولون دون ابتعاد جيرانهم عنهم، أودون إغلاق الحكومة لبيوتهم. وفي يونيوتزاحم الأغنياء على مغادرة المدينة، وفي هويتشا بل ما كان يمكن حتى ترى إلا العربات، وعربات اليد تحمل البضائع والنسوة والأطفال وغيرهم، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الرجال على ظهور الخيل .. وهومنظر رهيب وكئيب(81)".

وزادت النذر والتنبؤات عن المصير المشئوم من الرعب، وأغلقت المسارح وحلبات الرقص والمدارس ودور المحاكم. وانتقل الملك وحاشيته في يونيوإلى أكسفورد "حتى يحوطهم الله برعايته إذا شاء" دون حتى يمسهم سوء، ولوحتى صيحات التأنيب تعالت ضدهم لأنهم هم الذين جلبوا هذا البلاء، عقاباً من عند الله، على فسادهم وفجورهم، وبقي رئيس أساقفة كنتربري في مقره في لامبث، ينفق في جميع أسبوع عدة مئات من الجنيهات عوناً للسقمى والأموات. وبقي موظفوا المدينة فيها يقومون بأعمال بطولية. وأوفد الملك ألف جنيه ورجال الأعمال في "السيتي" ستمائة جنيه أسبوعياً، وهرب كثير من الأطباء ورجال الدين، وبقي آخرون وقضى كثيرون نحبهم متأثرين بالعدوى. وجرب الناس الأدوية والعلاجات على أختلاف أنواعها، فلما أخفقت لجأوا إلى التمائم والتعاويذ التي قد تصنع المعجزات. وفي 31 أغسطس 1665 نطق بيبز "في هذا الأسبوع توفي 7496 شخصاً منهم 1602 بالطاعون". وكان حفاروالقبور يحملون من يموتون في الشوارع على عربات اليد، ويدفنونهم في مقابر عامة. وبلغت جملة من ماتوا بالطاعون من أهالي لندن 1665، نحوسبعين ألفاً، وهذا سبع السكان. وخف الوباء في ديسمبر، وعاد الناس لمزاولة أعمالهم شيئاً فشيئاً. وفي فبراير 1666 عادت الحاشية إلى العاصمة.

وما كاد السكان الباقون على قيد الحياة يروضون أنفسهم على احتمال ما كلفهم الطاعون من خسائر حتى داهمت المدينة كارثة أخرى. وكانت كارثة حقاً، ذلك أنه في يونيو1666 أبحر الهولنديون في جرأة إلى التيمز ودمروا المراكب الإنجليزية فيه بمدافع سمع صوتها في لندن. ولكن في الساعة الثالثة من صباح الأحد ثلاثة سبتمبر، في حانوت خباز في بودنج لين، شب حريق، أتى في ثلاثة أيام على معظم الجزء من لندن الواقع شمال النهر، ومرة أخرى تآمرت الظروف وتجمعت المصائب: صيف جاف، وبيوت كلها تقريباً مبنية من الخشب، متلاصقة، كثير منها خال من السكان الذين يقضون عطلة نهاية الأسبوع في الريف، مخازن ملآى بالزيت والقار والقنب والكتان والخمور وغيرها من المواد القابلة للاحتراق في الحال، ثم هبت رياح عاصفة حملت النار من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، أضف إلى ذلك سوء التنظيم وعدم الاستعداد للقاءة مثل هذا الحريق في مثل هذا الوقت من الليل. ومن حسن حظ ايفلين أنه كان في سوثوارك، فأسرع إلى شاطئ النهر.

"حيث شهدنا المدينة بأسرها وقد أندلع فيها اللهب الرهيب بالقرب من الماء، في جميع الدور من جسر لندن، وفي شارع التيمز، صعداً نحوتشيسيد ... وامتدت النيران في جميع مكان، وعرت الدهشة الناس، إلى حد أننا لم ندر منذ البداية، ماذا تولاهم من قنوط وجزع حتى أنهم بشق النفس تحركوا لإخمادها، فلم نكن نسمع أ نرى إلا الصرخات والعويل والنواح وهم يجرون هنا وهناك، ذاهلين مخبولين، كذلك أحرقت النار الكنائس والقطاعات العامة، وسوق الأوراق المالية والمستشفيات والآثار والزخارف والبيوت والأثاث كما أنها أتلفت جميع شيء ..‍‍‍."

وهنا رأينا النهر مغطى بالبضائع الطافية فوق الماء والزائريق والقوارب محملة بالضائع التي عثر بعض الناس فسحة من الوقت وأوتوا شيئاً من الشجاعة لإنقاذها. كما كان هناك على الجانب الآخر العربات وغيرها، تنقل إلى الحقول، التي انتشرت لعدة أميال جميع من جميع نوع ... كما نصبت الخيام ليأوى إليها الناس وما استطاعوا حتى يستخلصوه من بضاعة ومتاع. يا لهول المنظر الأليم المفجع الذي لم تصادف الدنيا مثله منذ بدء الخليقة. وغطت ألسنة النيران وجه السماء، فبدت وكأنها أتون ملتهب ... إني أرجوالله ألا يقع عيناي ثانية على مثل هذا المنظر، منظر أكثر من عشرة آلاف بيت تحترق كلها في لحظة واحدة وكان صوت اللهب المندلع وفرقعته ورعده، وصراخ النساء والأطفال، وهرولة الناس، وسقوط الأبراج والمنازل والكنائس، أشبه شيء بعاصفة هواتى، وكان الهواء ساخناً إلى حد حتى الناس اضطروا إلى الوقوف جامدين، تاركين النار يشتد أوارها، وتمتد ألسنتها لمسافة تقرب من ميلين طولاً وميل عرضاً(82)".

وأبلى الملم وأخوه المكروه جيمس، كلاهما، بلاء حسناً في هذه الأزمة، وجدوا في العمل بأيدهم مع مكافحي النيران، وأشرفوا على أعمال الإغاثة ومولها وهيئوا المأوى والطعام لمن يأتوا بلا مأوى، وأصروا، برغم المعارضة الشديدة، على هدم البيوت ليحولوا دون امتداد الحريق، مما كان له الأثر في إنقاذ جزء من المدينة في شمال التيمز(83) وكاد الحي التجاري حتى يمحى عن آخره، أما حي السياسة "وستمنستر"، فقد أنقذ، ودمر ثلثا مدينة لندن، بما في ذلك 13200 منزل، 89 كنيسة بما فيها كنيسة سانت بول العتيقة، ولقي ستة أشخاص فقط مصرعهم، ولكن مائتي ألف إنسان فقدوا مساكنهم(84). ودمرت معظم المخطات واحترق من الخط ما قيمته 150 ألف جنيه. وقدر مجوع الخسائر والأضرار بنحو10730000 جنيه(85)، وهوما من الممكن يعادل اليوم 500 مليون دولار.

وبعد الكارثة نظم المجلس البلدي في لندن إدارة للمطافئ، وركبت خراطيم الماء في أنابيب الماء الرئيسية. وكان على جميع شركة حتى تعين بعض أعضائها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتشغيلها لدى سماع أي إنذار، وكان على جميع العمال حتى يذوهم إذا استنادىهم عمدة المدينة. وأعيد بناء لندن في شيء من التمهل، على طراز أمتن وأقوى، وإن لم يكن أجمل من ذي قبل. وبأمر من الملك حول الطوب والحجر محل الخشب، واختفت الطوابق العليا الناتئة، وأصبحت الشوارع أوسع وأكثر استقامة، ورصفت بالحجر السلس الأملس، وخصصت الطوارات للمشاة. وتحسنت الرعاية الصحية. وقضت النيران على كثير من الأقذار والفئران والجراثيم فتخلصت لندن من الطاعون، وجدد المهندس المعماري "رن" بناء كنيسة سانت بول.


انظر أيضاً

  • اقتصاد المملكة المتحدة
  • تاريخ المملكة المتحدة
  • اقتصاد إنگلترة في العصور الوسطى
  • التاريخ الاقتصادي لاسكتلندة
  • قوانين الاتحاد 1707
  • UK labour law history
  • UK company law history

الهامش

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

  1. ^ Roderick Floud and Deirdre McCloskey, eds. The Economic History of Britain since 1700 (2 vol 1994) is a standard survey

وصلات خارجية

  • Shift to Privatization documentary from the Dean Peter Krogh Foreign Affairs Digital Archives

نطقب:Mercantilism

تاريخ النشر: 2020-06-04 12:41:03
التصنيفات: Portal templates with all redlinked portals, Pages with citations using unsupported parameters, Use dmy dates from May 2011, مقالات تستعمل قوالب صيانة غير مؤرخة, التاريخ الاقتصادي للمملكة المتحدة, تاريخ الجزر البريطانية, التاريخ الاجتماعي للمملكة المتحدة

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الاعلان عن وجود سائحتين مغربيتين ضمن الجرحى إثر انفجار إسطنبول

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:15:30
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 40%

"الفيفا": "عالم كرة القدم كله معك أمين حارث.. بالشفاء العاجل"

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:16:15
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 65%

سيدات الجيش الملكي يتوجن بطلات لدوري أبطال إفريقيا

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:15:36
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 35%

حاليا 690 مصابا بكورونا منهم ٠ثلاث حالات حرجو

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:15:34
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 46%

مربو الدجاج يطالبون بوضع حد للممارسات المنافية لقواعد المنافسة

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:15:35
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 41%

سيدات فريق الجيش الملكي يتمكنون من الفوز بلقب دوري أبطال إفريقيا

المصدر: زاكورة بريس - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:15:18
مستوى الصحة: 17% الأهمية: 18%

بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية.. تركيا تعين سفيرا لدى إسرائيل

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-11-14 00:15:32
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 40%

تحميل تطبيق المنصة العربية