التصوير الهليني

عودة للموسوعة

التصوير الهليني

التصوير في العادة آخر فن عظيم ينضج في الحضارة؛ فهوفي المراحل الأولى من مراحل الثقافة يخضع للعمارة الدينية ولعمل التماثيل الدينية، ولا يصبح فناً مستقلاً إلا حين تدعوه الحياة الخاصة والثروة الخاصة إلى زخرفة المنازل أولتخليد ذكرى اسم من الأسماء. ولما حتى أضعفت موت الديمقراطية من معنى الدولة في عقول الناس، عاد الفرد إلى طلب السلوى في منزله، فشاد الأغنياء قصوراً يسكنون فيها، وأدوا أجوراً عالية للفنانين الذين يستطيعون حتى يزينوا فسقية أويجملوا جداراً. فكانت الإسكندرية تتخذ التصوير على الزجاج وسيلة من الوسائل التي تزين بها الجدران؛ وكانت جميع المدن الهلنستية تستخدم لهذا الغرض إطارات متحركة من الخشب؛ وكان الأمراء والكبراء يفضلون عن هذه الإطارات الصور الضخمة المرسومة على ألواح من الرخام يمكن فصلها ووضعها في أي مكان شاءوا. ويصف بوسنياس عدداً لا يُحصى من الصور التي رآه في تجوالهِ ببلاد اليونان، ولكن الدهر لم يبقِ منها إلا على رسوم حائلة من الخشب أوالحجارة، ولهذا لا نجد سبيلاً لفهم حقيقة هذه الصور إلا الحدس والتخمين والاعتماد على الصور الحائلة المتوسطة القدر المنقولة عنها والتي عُثر عليها في بمبياي، وهركولانيم Hercolaneum ورومة.

وظلت بلاد اليونان تضع مصوريها في المستوى العالي الذي تضع فيهِ مثاليها ومهندسيها، بل لعلها كانت تضع الأولين في مستوى أعلى من مستوى الآخرين. وكانت تؤدي إليهم من الأجور مثل ما يؤديه الأمريكيون للمصورين في هذه الأيام، وتروي عن حياتهم قصصاً تدل على حبها وتكريمها لهم. ومنها حتى ثسكليز الإفسوسي، حين لم ينل من الملكة استرتنيس Stratonice ما كان يرجومن عطاء صورها وهي تعبث مع صائد سمك، وعرض الصورة على الجماهير، ثم ركب البحر لينجومن القتل. ورأت استرتنيس "أن الصورتين قد عبرتا عن ملامحها وملامح الصياد تعبيراً يدعوإلى الإعجاب" فعفت عنه وسمحت له بالعودة(8). ولما استولى أراتس على سكيون أمر بإتلاف جميع صور طغاتها السابقين. وكان ملانثوس Milanthus (وهومصور من رجال القرن الرابع) قد صور أحد هؤلاء الطغاة ومسماه أركستراتوس Archestratus إلى جانب مركبته الحربية تصويراً حياً واضحاً تأثر به الفنان نيكليز Neacles فتوسل إلى أراتس حتى يبقي على الصورة، وقبل أراتس راتىه على شريطة حتى يستبدل بصورة أراتس صورة أخرى لا تثير من البغض ما تثيره صورة هذا الرجل(9). ويقول استرابون إذا بروتجنيز Poatogenes صور ساتيرة Satyr ، وإلى جانبها صورة حجل وقد بلغت صورة الحجل من الإتقان درجة جعلت أخواته الحية تناديه، ثم محا المصور بعدئذ صورة الطائر حتى يقدر الناس جمال صورة الساتيرة(10). ويقول بلني حتى هذا المصور نفسه وضع أربع طبقات من اللون على صورته الذائعة الصيت صورة ياليسوس Ialyisus (الذي يزعم الناس أنه مؤسس المدينة المسماة بهذا الاسم في رودس)، حتى تظل الألوان ناضرة زاهية إذا ما أزال الدهر الطبقة العليا منها. وينطق إذا بروتجنيز قد غضب من عجزه عن حتى يصور الزبد الذي يتساقط من فم كلب ياليسوس تصويراً صادقا، فلم يتمالك نفسه ورمى الصورة بأسفنجة يريد حتى يتلفها. وسقطت الأسفنجة بطبيعة الحال على المكان، وهجرت في ذلك المكان بقعة من اللون شبيهة جميع الشبه بالزبد الخارج من فم كلب يلهث. ولما حتى حاصر دمتريوس بليورسيتيز جزيرة رودس أبى لأن يشعل النار في تلك المدينة لئلا تتلف هذه الصورة. ولم ينبتر بروتجنيز عن العمل أثناء الحصار في مرسمه، وكان هذا المرسم أما خط زحف المقدونيين مباشرة. واستنادىه دمتريوس إليه وسأله:

لـِمَ لـمْ يحتم داخل أسوار المدينة كما عمل غيره من المقدونيين،يا ترى؟ فأجابه بروتجنيز بقولهِ: "ذلك بأني أعهد أنك إنما تشن الحرب على أهل رودس لا على الفن". فما كان من الملك إلا حتى عين له حرساً يحمه، وهجر الحصار ليشاهد أعمال الفنان العظيم(11).

وكان المصورون الهلنستيون يعهدون خداع المنظور، وتمثل الأشخاص بارزين في عين الناظر، وسقوط الضوء، وتجمع الأشكال. ومع أنهم لم يستخدموا المناظر الطبيعية إلا لتكون مؤخرة للصورة لتجميلها، وأنهم صوروها حين استخدموها بطريقة خالية من الحياة جارية على العهد (إذا حكمنا عليها مما نقل عنها من الصور في بمبياي)، فإنهم أدركوا على الأقل حتى الطبيعة موجودة، وجعلوا لها مكاناً في الفن في الوقت الذي كان ثيوقريطس يجعل لها مكاناً في الشعر. ولكنهم كانوا شديدي الولع بالإنسان وبأعماله كلها إلى حد غفلوا معه عن الأشجار والأزهار. لقد اقتصر أسلافهم على رسم الآلهة والأغنياء من الآدميين أما الفنانون الهلنستيون فقد افتتنوا بكل ما آدمي وتبينوا حتى الموضع القبيح المنظر قد يصور تصويراً جميلاً أوعلى الأقل يأتي بأجر كبير، فانقلبوا يصورون الحياة البشرية بحماسة كحماسة الهولنديين، وسرهم حتى يصوروا الحلاقين والأساكفة والعاهرات، والخياطات، والحمير، والرجال المشوهين، والحيوانات الغريبة. ثم أضافوا إلى هذه الصور المأخوذة من الحياة المألوفة أوالريفية، صوراً من الحياة الساكنة الجامدة-كالكعك، والبيض، والفاكهة، والخضر، والسمك، والطير، والحيوان المصيد، والخمر، وكل ما يتصل بها من الطقوس القديمة. وكان سوسوس Sosus البرجمومي يسلى معاصريه بأن يمثل لهم أرضاً من الفسيفساء الخادعة لا تزال منتشرة عليها بقايا وليمة(12). لكن المصورين المحافظين قد ساءهم هذا فأخذوا ينددون بهؤلاء الذين يحملون من شأن الأمور العادية ويصفونهم بأنهم يصورون الفحش والأقذار Pornographoi and Rhparographoi وحرم القانون في طيبة تصوير الأمور القبيحة(13).

وقد أنقذت حمم بركان فيزوف بعض روائع ذلك العصر الكبيرة من النسيان وإن لم تحفظ لنا هذه الحمم أسماء أصحابها. وقد عثر في أستيا مظلم يظهر أنه صورة ضعيفة منقولة عن أصل هلنستي، وهي معروفة لدينا باسم عرس الألدر برنديني The Aldorbrandini Wedding نسبة إلى الأسرة الإيطالية التي كانت تمتلكها قبل حتى نجد لها مكاناً في متحف الفاتيكان. وفي هذه الصورة تُظهر أفرديتي ممتلئة الجسم شبيهة بصور الرسام الهولندي روبنز Rubens تبعث الشجاعة في قلب العروس الخائفة، على حين ينتظر العريس، وهوفي غير حاجة إلى من يستحثه، على أحر من الجمر إلى جانب الفراش. وأجمل هاتين الشخصيتين الرئيسيتين صورة امرأة رشيقة تسقط نشيداً على مزهر حائل اللون. وثمة صورة جدار من بمبياي يقول بعض الخبراء، وإن لم يرقَ قولهم إلى مرتبة اليقين، وأنها منقولة عن أصل يوناني رُسِمَ في القرن الثالث. وهي تصور أخيل وإلى جانبهِ بهجرلوس، يسلم، وهوغاضب، بريسيس لفجور أجمنون. ويبدولأذواقنا ومألوف عاداتنا حتى في صور الآدميين في هذا الرسم من الجحيم أكثر مما فيها من الجمال؛ ذلك أننا قد ألفنا حتى نرى أجسامناً أقل من هذه الأجسام وسيقاناً أطول من تلك السيقان؛ ولكننا يجب حتى نسلم حتى الفنانين الأقدمين كانوا يعهدون الرجال اليونانيين والنساء واليونانيات، أحسن مما نعهدهم نحن أويعهدهم من سيأتون بعدنا. وقد مضى الزمان بنضرة هذه الصورة؛ وما من شيء يستطيع حتى يعيد لها ما كان لها من بهاء ونضارة، كانا بلا ريب موضع إعجاب جمهرة الشعب وملوكه، إلا الخيال القوى القادر على تصوير ما كانت عليه في الأيام الخوالي.

وأسقط من هذه في النفس بتر من الفسيفساء الرومانية منقولة على ما يظهر عن رسوم هلنستية. لقد كانت الفسيفساء من النون القديمة في مصر وأرض الجزيرة، ثم أخذها عنهما اليونان وسموا بها إلى أعلى الدرجات، فكانت الصور تقسم بالخطوط إلى مربعات صغيرة، وكانت المكعبات الرخامية الدقيقة تلون بحيث إذا وضع بعضها إلى جانب البعض الآخر مثلت الصورة تمثيلاً لا يبليه الزمان، ولا تزال بتر من الفسيفساء محتفظة بألوانها تقص علينا السيرة القديمة وإن كانت قد وطأتها أرجل لا يحصى عديدها. وقد عُثر في بمبياي على صورة تمثل واقعة إسوس، ويرى بعضهم أنها ذات صلة بصورة يونانية من تصوير فلكسينوس (وإن كان هذا مشكوكاً فيهِ). وتتكون هذه الصورة من نحو1.500.000 حجر، لا تزيد مساحة جميع منها على مليمترين مربعين أوثلاثة مليمترات، ويبلغ طول هذه الفسيفساء كلها ست عشرة قدماً، ويبلغ عرضها ثماني أقدام. وقد ألحق بها الزلزال وثوران البركان اللذان نكبت بهما بمبياي في عام 79م. ضرراً بليغاً، ولكن ما بقي منها يكفي للدلالة على ما كانت تمتاز به هذه الصورة من براعة وقوة. ففيها يرى الإسكندر وقد اسود جسمه وانتفش شعره من وهج الشمس وقذارة الماء، يوجه الهجوم وهوعلى ظهر جواده بوسفلسوس Bucephalus، ولا يبعد إلا بضع أقدام عن مركبة دارا الحربية. وقد ألقى عظيم من عظماء الفرس نفسه بين الملكين، وتلقى في جسمه طعنة من رمح الإسكندر. وينحني دارا من مركبته نحوصديقه المجندل، غير عابئ بما يتعرض له من الخطر (لأن الإسكندر يوجه إليه طعنته الثانية) ووجهه مليء بالقلق والحزن. ويهجم فرسان الفرس لينقذوا مليكهم، ويظل رمح الإسكندر متزناً في الهواء. وأهم ما في هذه الصورة وأبدعه هوتمثيل العواطف الكثيرة المعقدة في وجه الإسكندر؛ ولكن أجمل رأس في هذه المجموعة كلها هورأس جواده. وليس في الفسيفساء كلها ما أعظم من هذه البترة.

تاريخ النشر: 2020-06-04 13:46:49
التصنيفات: الحضارة الهلينية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

تقرير أممي حديث يكشف عن وضع «كارثي» بسبب النزاع في السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:23:09
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

الاتحاد يفاضل بين أجانبه السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:15
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 67%

%35 من مخالفات الترفيه بالرياض السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:11
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 57%

3 سجلات لمتابعة الطلاب يوميا بمدرستي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:09
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 56%

6 مناطق تتصدر المخالفات المائية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:10
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

ريزتش يرفع لياقة الأشهب السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:17
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 51%

الوحدة يهدد ضمك بالنسر السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:18
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 64%

تحديثات أمنية من «آبل» ﻷجهزتها القديمة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:06
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 61%

ولي العهد يصل إلى سلطنة عمان في زيارة خاصة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:23:57
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 52%

حركات سلام جوبا والحرب

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:23:07
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 56%

الهلال يستعين بالشباب للديربي السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:14
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 56%

اعتماد مشاركة «صقور المستقبل» في كأس الأبطال الدولية - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:03
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 60%

أبها يطبق طريقة الاتفاق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:13
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 70%

هل يترشح نجل حفتر لرئاسة ليبيا؟ - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:07
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 65%

المدارس العالمية تنعش كتب الأرصفة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:15
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 61%

مناورة تختبر بدلاء النصر السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2023-09-12 00:24:12
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 55%

تحميل تطبيق المنصة العربية