المدني الأخير

عودة للموسوعة

المدني الأخير

كم عدد المرات التي يمكن المرء فيها حتى يبرر سلوكه واختياراته السياسية طوال حياة واحدة،يا ترى؟ هذا هوالسؤال المعضلة الذي طرحه على نفسه، خلال الأعوام الأخيرة من حياته محرر ألماني كان، قبل الحرب العالمية الثانية، أصدر واحدة من الروايات الألمانية التي تبدّت الأقسى في إدانتها، ليس للنازية الهتلرية في حد ذاتها، بل لالتفاف الشبيبة الألمانية من حول «ذلك السرطان» الذي ظل سنين طويلة ينخر في الجسد الألماني. المحرر هوإرنست غليزر، أما الرواية فهي «المدني الأخير» التي تكاد تكون اليوم شبه منسية، وبالتحديد لأن مؤلفها، بعد نشرها بثلاث سنوات، خان جميع ما كان عبّر عنه فيها من مواقف سياسية وإيديولوجية. فالحال حتى گليزر الذي نشر روايته هذه في العام 1936 حين كان منفياً خارج وطنه الألماني، عاد إلى ألمانيا الهتلرية في العام 1939 «حباً في ما تظل من هذا الوطن»، كما نطق يومها، ولكن من دون حتى يقول ما إذا كان هذا الحب لذاك الوطن هوما دفعه لأن يشغل فور عودته منصب رئيس تحرير صحيفة «الجيش الهتلري». يوم عودته، وعلى رغم حتى روايته تلك كانت وظلت ممنوعة في ألمانيا الهتلرية، أورد گليزر ألف تبرير وتبرير لعودته. وهونفسه في رواية وضعها بعد سنوات من انتهاء الحرب وزوال النازيين الهتلريين بعنوان «حملة الألمان وبؤسهم» عاد مرة أخرى ليبرر نفسه، فلم يصدقه أحد هذه المرة، هذا إذا كان ثمة من صدّقه بصورة جدية في المرة الأولى!... غير ان هذا لم يمنع روايته الكبرى والأساسية من حتى تُقرأ وتُترجم على نطاق واسع، بل تعتبر من أفضل الأعمال الأدبية التي «فسّرت» ارتماء الشبيبة الألمانية في حضن هتلر، بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى.

لقد كان العامل الأول الحاسم في صعود النازيين، في تلك البلدة الصغيرة التي اختارها غليزر ميداناً لأحداث روايته، وفق هذه الرواية، ان اية مقاومة حقيقية لم تقم للتصدي للتصاعد النازي. لقد خاف بعضهم وجبن، وزهد بعضهم الآخر وصمت... فيما أظهر كثر من الناس نوعاً من اللامبالاة سيتبدّى قاتلاً بعد حين. أما الشبان والعمال والبائسون والعاطلون من العمل، أي جميع انواع البائسين، فإنهم التفوا من حول ذلك «المثل الأعلى» الوهمي الذي لاح لهم، وصار جميع واحد يبدي استعداده للتضحية بنفسه على مذبح تحقق ذلك «المثل الأعلى». وفي لقاء هذا كله، على الضفة الأخرى ودائماً طبعاً وفق ما يفصّله گليزر في الصفحات الأولى من روايته: لا أحد، لا شيء... فراغ وصل الى ذروته حين يقول العمدة شرايدر، ان الديموقراطية نفسها «لا مكان لها في عالمنا الصغير هذا، لأن وجودها يحتاج انقد يكون الشعب مرتاحاً اقتصادياً ومزاجياً، ومترتبات الحرب العالمية الأولى لم تهجر للشعب أي مجال للراحة»... إذاً: الى الجحيم ايتها الديموقراطية ومرحباً أيها النازيون وأحلامكم البائسة! فالأزمة كانت مستعرة والخوف محدق والعقل في اجازة، لذا لم يبق سوى الذين يخدعون الشبان واليائسين البائسين، بحديثهم الديماگوگي عن أحلام المستقبل وأحلام الماوراء والفراديس الحقيقية أوالمصطنعة. ترى، هل يذكرنا هذا، هنا والآن، بشيء،يا ترى؟ ربما... لكن هذا ليس موضوعنا هنا.

موضوعنا هنا هوهذا العمل الأدبي - الذي حان وقت العودة الى إلقاء الضوء عليه علّه يقول لكثر ما يتعين الإصغاء إليه - الذي صوّر، بكل حذق وإسهاب، صعود النازية. وهوصوّر هذا الصعود من خلال ما يعيشه بطل الرواية جان - گاسپار بويرل. وهذا الرجل هوأصلاً من بلدة سيبنفاسر، في منطقة فورتنبرگ الألمانية، وكان هاجر الى الولايات المتحدة الأمريكية حيث أصبح هناك واحداً من كبار الصناعيين وجمع لنفسه ثروة. أما الآن في أواخر عشرينات القرن العشرين، فإنه قرر حتى يعود الى ألمانيا، في نوع من الحنين الى الوطن، وقد افترض حتى أحلام أبيه المعادي للنزعة العسكرية البروسية، والمناصر للنزعة الجمهورية، تتحقق في جمهورية فايمار التقدمية. لقد خيّل اليه ان ألمانيا كلها في طريقها الى حتى تصبح ديموقراطية جمهورية... لكنه ما إذا عاد وبدأ يستقر به المقام في بلدته، حتى أخذ يشهد كاللامصدق، ثم كالمرتعب، صعود النازيين بين 1928 و1933. والحال ان غليزر انما أراد من خلال هذه الشخصية ان يظهر كم ان المثل الأعلى الديموقراطي والجمهوري كان بعيداً من ألمانيا في ذلك الحين، وأن توهّمه كان كذباً على النفس... ففي ألمانيا كان الناس يعيشون هزيمة الحرب وذلّ معاهدة ڤرساي والأزمة الاقتصادية. وفي مثل وضع كهذا من الذي يمكنه ان يفكر بالمبادئ الإنسانية الكبرى؟

لكن بويرل لم ييأس... اذ ها هويقيم في البلدة منشأة زراعية تؤمّن عملاً للسكان من خلال نجاحها وتؤمن فكرة ان يصبح هؤلاء الناس ديموقراطيين من خلال دعوة بويرل وكلامه الطيب... لكن الذي وقع هوحتى هذا كله لم يفلح، ذلك ان الشبان كانوا عاشوا تفكك المجتمع في بلدتهم، لذلك حين قرروا الإيمان بأحد، آمنوا بمن يحدّثهم عن عظمة الماضي وروعة التضحية بالنفس: كادرات الحزب النازي ومن أبرزهم سكرتير البلدية ذوالتفكير الماكيافيللي وكان ضابطاً سابقاً في الجيش. فالحقيقة حتى هؤلاء، بالكلام المعسول والوطني، وبغرس افكار الحقد والكراهية ضد جميع ما جمهوري وديموقراطي، وبدعوة الشبان الى التضحية بالنفس في سبيل «الأمة» و»زعيمها» و»ماضيها المجيد»، تمكنوا من جذب السكان إليهم وتحويلهم الى ما يشبه الدمى، الى قطيع يطيع ولا يسأل. وبهذا تمكن النازيون من الهيمنة على جميع أولئك الذين هزمتهم الحرب والعوز والأزمة والحياة، مستخدمين كلام هتلر وأفكاره التي حددت العدو: جميع من هوأجنبي ويهودي. كما حددت الغاية والوسيلة: الإحساس بالفخر ازاء جميع ما جرماني - ألماني.

لقد قاوم بويرل، بعد حتى أفاق من صدمته... لكن الآخرين الذين رأوا إمكان المقاومة مثله، كانوا قلة... وكان من بين هؤلاء ساعي البريد، الذي كان عاد من الحرب معوقاً، لكنه ظل يؤمن بالثورة الديموقراطية... ما جعله يشكل الضمير الواعي الوحيد الذي يركن إليه بويرل في البلدة. وفي اللقاء، هناك الشاب هانز الذي يتبدى لنا هنا حالة خاصة. فهوسار في البداية مع النازيين، لكنه سرعان ما استوعب ان نزعته الإنسانية واحترامه للكائنات البشرية لا يمكنانه من حتى يواصل مسيرته النازية، فابتعد عن النازيين، لكنه استوعب ان وضعه الجديد لا يمكن حتى يستمر... وأن عيشه نفسه لم يعد مجدياً. ان هانز، بالنسبة الى الرواية، يمثل يأس الأجيال الجديدة التي حتى وعيها لم يعد مجدياً بل صار عبئاً عليها. وفي النتيجة صارت جميع ثورة ضد النازيين مجرد ثورة فردية غير مجدية، تريح ضمير صاحبها انما من دون حتى تكون ذات فاعلية.

المحرر

من الواضح هنا حتى إرنست گليزر Ernst Glaeser انما اختار شكل الرواية ليقدم مرافعة حقيقية وواعية تطاول الكيفية التي سيطرت بها النازية على ألمانيا، متهماً مقاومي النازية بالضعف وبأن مجتمعهم المدني فضّل السكوت والنكوص، ما قوّى من عضد النازيين. والحال حتى گليزر (1902 - 1963) كان حين خط الرواية يخوض سجالاً عميقاً مع الشيوعيين، الذين كان لفترة من حياته رفيق درب لهم، ثم اتهمهم بالصمت والجبن ازاء اندلاع المد النازي... وهوكان قبل «المدني الأخير» خط روايتين لهما بعد شيوعي هما: «صف 22» و»السلام»، نظرت أولاهما الى الحرب الأولى والثانية الى ثورة العام 1918 بحذق. وگليزر نفي - كما قلنا - العام 1933 من ألمانيا، لكنه عاد اليها اثر اندلاع الحرب العالمية الثانية، ليس مناصراً للنازية بالتحديد، ولكن متعاوناً معها في شكل أوآخر. والحقيقة ان هذا الموقف قد وصمه حتى نهاية حياته، حتى وإن كانت روايته «المدني الأخير» بقيت صامدة شاهدة على نظرة فنان سخر فنه، ذات لحظة من حياته، للتعبير عن واقع كان من الصعب جداً التعبير عنه.


الهامش

تاريخ النشر: 2020-06-04 14:27:22
التصنيفات: كتب 1935, روايات 1935, روايات إرنست گليزر, مناهضة الفاشية

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مواعيد عرض الحلقة 23 من مسلسل ضرب نار على ON و ON دراما

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:23:04
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 46%

أطعمة يجب تجنبها أثناء تغير الطقس.. منها الألبان

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:51
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 35%

"كشف مستعجل" الحلقة 7.. سهام يضرب لى لى والثانية تقرر حبسه

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:40
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 52%

مواعيد قطارات السكة الحديد فى الوجهين البحرى والقبلى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:49
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 46%

مواعيد عرض الحلقة 23 من مسلسل سوق الكانتو على dmc و dmc دراما

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:54
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 41%

"ضرب نار" الحلقة 22.. "سحر" تهدد "مُهرة" بكشف سر ابنها

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:38
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 50%

مواعيد عرض الحلقة 23 من مسلسل الكبير أوى 7 على ON وON دراما

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:46
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 49%

"ضرب نار" الحلقة 22.. "مهرة" تحتفل بتحقق حلم امتلاك مصنع للملابس

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:44
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 56%

عاجل:محكمة الاستئناف بالرباط توزع 40 سنة على المتورطين في قضية "طفلة تيفلت"

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:23:34
مستوى الصحة: 70% الأهمية: 71%

أفضل 5 هدافين فى الدوريات الأوروبية 2023

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:59
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 45%

الحلقة 2 مسلسل حرب.. إذاعة راديو طرف الخيط للوصول إلى التنظيم فى سيناء

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:39
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 50%

انطلاق فعاليات منتدى الحوار الوطني للشباب بمدينة سيوة (صور)

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:33
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 61%

دعاء الفجر اليوم الجمعة 14 أبريل 2023

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:57
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 57%

السعودية ترحب بعودة العلاقات الدبلوماسية بين المنامة والدوحة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:21:48
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

الأهلي أمام سبورتنج اليوم فى نهائى كأس مصر لليد

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:52
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 49%

مواعيد عرض الحلقة 8 من مسلسل تحت الوصاية لـ منى زكي على DMC

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-14 06:22:57
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 50%

تحميل تطبيق المنصة العربية