أدب الهند

عودة للموسوعة

أدب الهند

إن الحياة الأدبية في الهند حياة غزيرة ومتعددة ومختلفة كثيرا عن أي حضارة أخرى ، فطبيعة الهند المترامية الأطراف ، المتسعة للعديد من الديانات والعقائد واللغات ، والطبيعة الجغرافية المتباينة ، جميع هذا وما له من تأثيرات ، أدى إلى إفراز أدب ذوطبيعة خاصة.


لغات الهند

الجزء الثاني
الجزء الأول
نص كتاب آداب الهند - لويس رينو. انقر على الصورة للمطالعة

كما حتى الفلسفة وكثيراً من الأدب في أوربا الوسيطة كانا يخطان بلغة ميتة لا يفهمها الشعب ، فكذلك كانت الفلسفة والأدب الكلاسيكي في الهند يخطان بلغة سنسكريتية كانت قد أهملت بين الناس كأداة للتفاهم منذ زمن طويل ، لكنها عاشت لتكون لغة للفهماء الذين لا تربطهم لغة مشهجرة أخرى ، كأنها في ذلك لغة "إسبرنتو" (التي يحاولون صناعتها لتكون أداة تفاهم بين الشعوب المتنوعة الآن). ولما كانت هذه اللغة الأدبية بعيدة عن الإتصال بحياة الأمة ؛ فقد أصبحت نموذجاً يحتذيه من أراد حتىقد يكون إسكولائيَّ التفكير أومهذب اللسان ؛ وكانت الحدثات الجديدة تصاغ - لا بخلق تلقائي يصدر من عامة الناس - بل تبعاً لحاجة المدارس في بحوثها الفنية ؛ حتى إنتهى الأمر بالسنسكريتية التي خطت بها الفلسفة إلى فقدانها للبساطة القوية التي تلمسها في الترانيم الفيدية ، وأصبحت أفعواناً صناعياً تزحف حدثاتها على الصفحات زحفاً كأنها شرائط الدود.

ولكن عامة الناس في الوقت نفسه كانوا - في شمال الهند حول القرن الخامس قبل الميلاد - قد حوروا السنسكريتية إلى الپراكريتية ، وما أشبه ذلك بإيطاليا حين غيرت اللاتينية إلى الإيطالية فأصبحت اللغة البراكريتية حيناً من الدهر لغة البوذية والجانتية ، ولبثت كذلك حتى تطورت بدورها إلى الپالية - وهي اللغة التي خط بها أقدم ما هبط إلينا من الأدب البوذي؛ فلما حتى كان ختام القرن العاشر من تاريخنا المسيحي ، كان قد تولد عن هذه اللغات التي شهدتها "الهند الوسيطة" لهجات مختلفة كان أهمها اللغة "الهندية" ثم ولّدت هذه بدورها في القرن الثاني عشر اللغة الهندستانية التي باتت لغة النصف الشمالي من الهند؛ وأخيراً اتى الغزاة المسلمون وملئوا الهندستانية بألفاظ فارسية فكوّنوا بذلك لهجة جديدة هي الأردية؛ وهذه كلها لغات "هندية جرمانية" إنحصرت في الهندستان ؛ أما الدكن فقد إحتفظت بلغتها الدرافيدية القديمة وهي: لغات "تامِل" و"تلوگو" و"كاناريس" و"ملايالام" وأصبحت لغة "تامِل" من بينها هي الأداة الأدبية الرئيسية في الجنوب ؛ ولما كان القرن التاسع عشر حلّت الپاليّة محل السنسكريتية لغة أدبية في البنغال، وكان المحرر القصصي ("تشاترجي" لهذه اللغة بمثابة "بوكاتشو" للإيطالية الحديثة) كما كان لها الشاعر طاغور بمثابة "پترارك"؛ وإنك لترى مائة لغة في الهند حتى في يومنا هذا على حتى أدب الحركة الإستقلالية يستخدم لغة الفاتحين أداة للتعبير. ولقد أخذت الهند منذ تاريخ عريق في القدم تتعقب جذور الألفاظ وتاريخها وعلاقاتها وهجريبها ، ولم يظللها القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت قد إصطنعت لنفسها فهم النحو، وأنجبت من يجوز حتىقد يكون أعظم النحاة جميعاً ممن نعهد وهوپانيني ؛ وكانت دراسات بانيني ، وباتايخالي (حوالي 150 م) وبهارتريهاري (حوالي 650م) هي الأسس التي قام عليها فهم اللغات ؛ كما حتى هذا الفهم الشائق الذي يبحث في ولادة الألفاظ اللغوية ، مدين بكل حياته تقريباً في العصور الحديثة لإعادة كشف الغطاء عن السنسكريتية. ولم تكن الكتابة - كما رأينا - شائعة في الهند الفيدية ، فحوالي القرن الخامس قبل الميلاد ، أقتبست الكتابة الخاروسثية من أصول سامية ، وبدأنا نسمع عن محررين في أدب الملاحم وفي الأدب البوذي ، وكانت أوراق النخيل ولحاء الشجر يستخدمان أداة للكتابة كما كان القلم شبيه بمسمار من الحديد ؛ وكانوا يدبغون لحاء الشجر دبغاً يجعله أصلب ديباجه ، ثم يحفرون عليه الأحرف بالقلم ، ويلطخون اللحاء بالحبر فيبقى في فجوات الحروف المحفورة ثم تمحى بقيته.

ولما اتى المسلمون أدخلوا معهم الورق (حوالي 1000م) لكن الورق لم يحل محل اللحاء تماماً إلا في القرن السابع عشر ، وكانوا ينفذون خيطاً سميكاً في صفحات اللحاء لتربطها معاً على الترتيب المطلوب ، على حتى تجمع الخط المكونة من أمثال هذه الصفحات في مخطات أطلق الهنود عليها إسم "خزائن إلهة الكلام" وقد بقيت لنا مجموعات ضخمة من هذا الأدب الخشبي على الرغم مما تعاورها من تدميرات الزمن والحروب.


التعليم

لبثت الكتابة ضئيلة القدر جداً في التعليم الهندي حتى القرن التاسع عشر ويجوز حتىقد يكون مرجع ذلك إلى حتى الكهنة لم يكن في صالحهم حتى يجعلوا النصوص المقدسة أوالاسكولائية سرًّا مكشوفاً للجميع ؛ أما التعليم فقد كان له نظام قائم تراه في تاريخهم مهما أوغلت في ماضيه ، وكان يتولاه رجال الدين ويفسحون مجاله في أول الأمر لأبناء البراهمة وحدهم ، ثم أخذوا على مرّ الزمن يوسّعون من نطاقه بحيث يضم طبقة بعد طبقة ، حتى نراه اليوم لا يستثني من الناس أحداً فيما عدا طبقة المنبوذين ؛ ولكل قرية هندية مفهمها يُنْفَق عليه من الرصيد العام وكان في البنغال وحدها - قبل مجيء البريطانيين - حوالي ثمانين ألفاً من المدارس الأهلية - مدرسة لكل أربعمائة نفس من السكان. وربما كانت نسبة التعليم في ظل "أشوكا" أعلى منه اليوم في الهند. كان الأطفال يمضىون إلى مدرسة القرية من سبتمبر إلى فبراير ، ويدخلونها في سن الخامسة ليتمُّوها في سن الثامنة.

وكان التعليم ذا صبغة دينية غالبة كائناً ما كان موضوع الدراسة ، وكانت الطريقة المألوفة هي الحفظ على ظهر القلب ، ولم يكن لأحد مفرٌّ من حفظ نصوص الفيدات ، ويشتمل منهج التعليم على القراءة والكتابة والحساب ، لكنها لم تكن الهدف الأساسي للتعليم ؛ وكان الخلق أجدر عندهم بالإعتبار من الذكاء ، والنظام هوجوهر التعليم في المدارس ؛ نعم إننا لا نسمع في تاريخهم شيئاً عن ضرب التلاميذ أوما شابه ذلك من صارم الوسائل التأديبية ، لكننا نجد أكثر إهتمامهم منصباً قبل جميع شئ على تكوين عادات للسلوك في الحياة بحيث تكون سليمة من المآخذ والشوائب ، وفي سن الثامنة ينتقل التلميذ إلى "شيخ" يتولاه بعناية أكثر مراعاة للقواعد ، و"الشيخ" هومفهم خاص أورائد يعيش معه التلميذ ، ويحسن حتى يظل في صحبته تلك حتى سن العشرين ؛ وكان يطلب إلى التلميذ حتى يؤدي له بعض الخدمات ، منها أحياناً ما كان حقيراً ؛ كما يطالب بإلتزام العفة والتواضع والنظافة والإمتناع عن أكل اللحم في وجباته ، وقوام التعليم "الشاسْترات الخمس" أي العلوم الخمسة وهي: النحو، والفنون والصناعات ، والطب ، والمنطق ، والفلسفة ؛ وبعدئذ يطلق في الحياة مزوداً بنصح حكيم هوحتى التعليم يأتي ربعه فقط من المفهم ، وربعه من الدراسة الخاصة ، وربعه من الزملاء ، وربعه من الحياة. وللطالب في نحوالسادسة عشرة حتى ينتقل من "شيخ" إلى إحدى الجامعات الكبرى التي كانت مفخرة الهند القديمة والوسيطة: بنارس وتاكسيلا وفداربها وأجانتا ويوجين ونالاندا ؛ وكانت جامعة بنارس حصناً حصيناً للتعاليم البرهمية الأصيلة في أيام بوذا ، كما لا تزال كذلك إلى يومنا هذا ؛ وكانت جامعة تاكسيلا في عهد غزوة الإسكندر معروفة في آسيا كلها على أنها مقر الزعامة في البحث الفهمي في الهند ، وأشهر ما إشتهرت به مدرسة الطب فيها ؛ وإحتلت جامعة "يوجين" مكانة عالية في أسماع الناس بما فيها من فهماء الفلك ، كما إشتهرت جامعة أجانتا بتعليم الفنون؛ وإن قابلة أحد المباني المخربة في أجانتا لتدل بعض الدلالة على فخامة هذه الجامعات القديمة. وأنشئت جامعة "نالاندا" - وهي أشهر الجامعات بالمعاهد البوذية العالية - بعد موت منشئ العقيدة البوذية بزمن قصير وخصصت لها الدولة ولج مائة قرية لينفق عليها منه ، وكان بها عشرة آلاف طالب ، ومائة قاعة للمحاضرات ، ومخطات ضخمة ، وست بناءات كبيرة للسكنى ، وإرتفاعها أربعة طوابق.

يقول يوان شوانج حتى مراصدها "كانت تنبهم معالمها في ضباب الصباح ، وتعلوغرفاتها العليا على السحاب" ، وقد أحب هذا الحاج الصيني الكهل رهبان "نالاندا" الفهماء وأحراشها الظليلة حباً جعله يقيم هناك خمسة أعوام ؛ وهويروي لنا حتى الكثرة الغالبة من أولئك الذين أرادوا الدخول في حلقات المناقشة من النزلاء الأجانب "في نالادا" كانت تنسحب أمام ما تلاقيه من صعوبة المشكلات ؛ وكان يسمح بالدخول لأولئك الذين تعمقوا العلوم القديمة والحديثة ، لكن لم ينجح من جميع عشرة أكثر من إثنين أوثلاثة ". وكان الطلاب الذين يساعدهم الحظ في الدخول يتفهمون مجاناً بما في ذلك أيضاً المسكن والغذاء ، لكنهم لقاء ذلك كانوا يخضعون لنظام أوشك حتىقد يكون كنظام الأديرة ؛ ولم يكن الطالب يسمح له بالتحدث إلى امرأة ، أوبرؤية امرأة بل إذا مجرد الرغبة في النظر إلى امرأة كان يعد عندهم خطيئة كبرى ، على نحوما اتى في العهد الجديد من قول هوأشد ما فيه من أقوال ؛ وإذا إقترف طالب إثماً جنسياً ، كان عليه حتى يلبس جلد حمار مدة عام تام ، على حتى يظل الذيل مرفوعاً إلى أعلى ، وأن يجوب الآثم الطرقات ، يطلب الصدقات ويعلن عن خطيئته ؛ وكان الطلبة جميعاً يطالبون جميع صباح بالإستحمام في أحواض السباحة العشرة الكبرى التابعة للجامعة ؛ ومدة الدراسة إثنا عشر عاماً ، ولوحتى بعض الطلبة كان يقيم بالجامعة ثلاثين عاماً ، وبعضهم يقيم بها حتى الممات. واتى المسلمون فهدموا الأديرة (في شمال الهند) كلها تقريباً ، بوذيّها وبرهميّها على السواء ، وأحرقت جامعة "نالاندا" إحراقاً أتى عليها سنة 1197م وقتل جميع رهبانها ، وإنه ليستحيل علينا أبد الدهر حتى نقدر ما كان في حياة الهند القديمة من خصوبة مسترشدين بما أبقى عليه هؤلاء المسلمون المتعصبون ؛ ومع ذلك فلم يكن هؤلاء المخربون من الهمج ، بل كان لهم ذوق في الجمال كما كان لهم براعة تشبه براعة العصر الحديث في استخدام التقوى لتحقيق ما يشاءون من نهب وسلب ؛ فلما إعتلى المغول عرش الحكم ، اتىوا معهم بمستوى عال - ولوأنه ضيق الأفق - من الثقافة ، فقد أحبوا الأدب حبهم للسيف ، وعهدوا كيف من الممكن أن يمزجون حصاراً ظافراً بقصائد الشعر ؛ وكان التعليم عند المسلمين فردياً في أغلبه ، فيستخدم أغنياء الآباء لأبنائهم المفهمين الخواصّ ؛ وكانت نظرتهم إلى التعليم نظرة أرستقراطية تجعله شيئاً للزينة - وقليلاً ما إتخذوا التعليم وسيلة لغاية - يزدان به رجل الأعمال أوصاحب السلطان ، كما تجعله عنصراً من عناصر الثورة والخطر العام إذا ما لُقّن لرجل قضي عليه بالفقر وضعة المنزلة ؛ ويمكننا حتى نتبين طرائق المفهمين من خطاب هومن رسائل التاريخ العظمى - وهوما أجاب به أورنجزيب - وهوملك - على مفهمه السابق ، وقد طلب إليه ذلك المفهم حتى يخلع عليه منصباً وراتباً: "ماذا ترغب مني أيها المفهم ،يا ترى؟ أيمكن في حدود العقل حتى تطلب مني حتى أجعلك أحد كبراء الأمراء في حاشيتي،يا ترى؟ دعني أقلها لك قولة صريحة ، لوأنك فهمتني كما كان حتى ينبغي لك حتى تعمل ، لما كان ثمة أعدل من مثل هذا الطلب ؛ لأنني أعتقد بأن الناشئ الذي أحسنت تربيته وتعليمه ، مدين لأستاذه على الأقل بمقدار ما مدين لأبيه ؛ ولكن أين عساي حتى أجد مثل هذا التعليم الجيد مما لقّنتني ؛ فقد فهمتني أولاً حتى الفرنجة جميعاً (هكذا يسمون الأوربيين فيما يظهر) لمقد يكونوا إلا جزيرة صغيرة ، الله أفهم بضآلة قدرها ، وأن ملك البرتغال هوأعظم ملوكها ثم يتلوه ملك هولندا ، فملك إنجلترا ، أما عن الملوك الآخرين كملك فرنسا وملك الأندلس ، فقد صورتهم لي مثل صغار الراجات عندنا ، قائلاً لي إذا ملوك الهندستان يبزونهم جميعاً ، وأنهم (ملوك الهندستان) ... هم الأعلون بين الملوك وهم غزاة العالم وحاكموه ؛ وأن ملوك فارس وأزبك وكشغر والتتر وكاني وبيجووالصين وماشينا يرتعشون خوفاً عند ذكر أسماء ملوك الهندستان ؛ ألا ما أجمل ذلك من فهم بأقطار العالمين! لقد كان واجب عليك حتى تفهمني فهماً دقيقاً بهذه الدول كلها ، بحيث أميز بعضها من بعض ، وأفهم جيد الفهم ما هي عليه من قوة وأساليب حرب وعادات وديانات وحكومات ومصالح ؛ وكان أوجب عليك حتى تطلعني على سليم التاريخ حتى أفهم نشأة تلك الدول وتقدمها وإنهيارها ، ومن ثم كنت أفهم كيف من الممكن أن وبأي سبب من الأحداث والأخطاء حدثت تلك التطورات الكبرى والثورات العظمى في الإمبراطوريات والممالك ؛ لقد كدت لا أفهم منك أسماء أجدادي ، بناة هذه الإمبراطورية الأعلام ، بَلْهَ حتى تفهمني تاريخ حياتهم وما صنعوه حتى تم لهم مثل هذا الفتح العظيم ؛ كنت منكباً على تعليمي اللغة العربية قراءة وكتابة ؛ والحق أني شاكر لك ما سببته لي من مضيعة لوقتي في لغة تتطلب عشرة أعوام أوإثني عشر عاماً لكي يجيدها الطالب ، كأنما بن الملك يرى شرفاً له حتىقد يكون عالماً نحوياً أومتضلعاً في القانون وأن يتفهم لغات غير لغات جيرانه ، مع أنه يستطيع حتى يحيا بغيرها خير حياة ، ذلك الذي يحرص على وقته الثمين لكثير من مهام الأمور ، هذه الأمور هي التي كان ينبغي حتى يتفهمها ؛ ودع عنك إبن الملك ، وقل لي أين تلك الروح التي تستعبد نفسها - بغير شئ من النفور ، بل بغير شئ من الشعور بالمهانة - في دراسة كئيبة جافة طويلة مملة ، مثل هذه الدراسة لألفاظ اللغة". ويقول "بيرْنيَر" المعاصر: "هكذا كان أورنجزيب يمقت التحذلق في التعليم الذي كان يصطنعه مفهموه ؛ وبعض الدلائل في بلاطه تدل على أنه أضاف إلى قوله ذاك قولاً آخر وهو: "ألا تفهم حتى الطفولة إذا أُحْكِمَ الإشراف عليها ، وهي كما نفهم حالة مصحوبة عادة بالذاكرة الجيدة ، في مستطاعها حتى تتلقى آلاف المبادئ السليمة والتعاليم بحيث تنقش فيها نقشاً عميقاً ما بقي الإنسان حياً ، وتحفز عقل الإنسان دائماً إلى جليل الأعمال،يا ترى؟ أليس يمكن تفهم القانون والصلاة والعلوم بلغتنا القومية كما نتفهمها بالعربية،يا ترى؟ لقد أنبأت أبي "شاه جهان" أنك ستفهمني الفلسفة ؛ نعم إني أذكر جيداً أنك لبثت أعواماً طوالاً تسليني بمشكلات فارغة عن أشياء لا ترضي العقل في شيء على الإطلاق ، وليست هي بذات نفع في المجتمع الإنساني ، وهي أفكار خاوية ومجرد سبحات في الخيال ، وليس فيها ما يميزها سوى أنها شديدة الصعوبة على الفهم ، شديدة السهولة في النسيان. إني لا أزال أذكر أنك بعد حتى أمتعتني - ولست أذكر كم طال أمد تلك المتعة - بفلسفتك الدقيقة ، كان جميع ما وعيته منها طائفة كبيرة من ألفاظ حوشية معقدة ، تصلح لإيقاع الربكة والحيرة والملل في أحسن العقول ؛ ولعلها لم توجد إلا لتستر غرور أمثالك من الرجال وجهلهم ، هؤلاء الذين يحاولون إيهامنا بأنهم يفهمون جميع شيء ، وأن وراء هذه الألفاظ الغامضة المبهمة تختفي أسرار عظيمة لا يستطيع فهمها سواهم ؛ فلوأنك أنضجتني بتلك الفلسفة التي تهيئ العقل للإستدلال المنطقي ، وتعدّه شيئاً فشيئاً ، الإعداد الذي يجعله لا يرضى بشيء إلا الحجج القوية ؛ لوأنك زودتني بتلك المبادئ السامية والمذاهب الرفيعة التي تعلوبالروح على نكبات الزمن ، وهجرّزها في حالة نفسية لا يزعزعها شيء ولا يثيرها مثير ، وتجنّبها الغرور بالنجاح في الحياة والإنهيار أمام المحن ؛ لوأنك حرصت على حتى تمدني بفهم أنفسنا وفهم المبادئ الأولى للأشياء ، وساعدتني على تكوين فكرة طيبة في عقلي عن عظمة الكون ، وعما فيه من نظام عجيب وحركة في أجزائه ؛ أقول لوأنك غرست في نفسي هذا الضرب من الفلسفة ، لرأيت نفسي مديناً لك أكثر مما كان الإسكندر مديناً لأرسطوكثرة لا تدع مجالاً للمقارنة بين الحالتين ، ولأيقنت حتى من واجبي حتى أعوضك على نحويختلف عما جزاه هوبه ؛ ألم يكن واجباً عليك - بدل ريائك لي - حتى تفهمني شيئاً عن ذلك الموضوع البالغ الأهمية لملك ، ألا وهوالواجبات المتبادلة بين الملك وشعبه ، ماذا يجب على الملك إزاء الرعية ، وماذا يجب على الرعية إزاء الملك،يا ترى؟ ألم يكن ينبغي عليك حتى تذكر أنني لا بد يوماً مضطر إلى إستخدام السيف في نزاعي مع أخوتي على حياتي وتاجي؟... هل عنيت قط بأن تفهمني كيف من الممكن أن أحاصر مدينة أوحتى أُجَيَّش جيشاً،يا ترى؟ إنني مدين بهذه الأمور لغيرك لا لك ، امضى وعد إلى القرية التي منها أتيت ولا تدع أحداً يفهم من أنت ، ولا ماذا صار من أمرك".



الملاحم

لم تكن المدارس والجامعات إلا جزءاً من النظام التعليمي في الهند ؛ فلما كانت الكتابة أقل قيمة هناك منها في سائر المدنيات ، وكان التعليم الشفوي هووسيلة الإحتفاظ بتاريخ الأمة وشعرها ، ووسيلة نشرها في الناس ، فقد نشرت الرواية الشفوية العلنية بين الناس أنفَس ما في تراثهم الثقافي من أجزاء ؛ فكما قام رواة مجهولون بين اليونان بنقل الإلياذة والأوذيسية ، وتوسيعها على مر الأجيال ، كذلك عمل الرواة والخطباء في الهند بنقل الملاحم من جيل إلى جيل ، ومن بلاط السلطان إلى عامة الشعب ، تلك الملاحم التي ركز فيها البراهمة أساطيرهم الشعبية. وفي رأي عالم هندي حتى "الماهابهاراتا" هي (أعظم آية من آيات الخيال التي أنتجتها آسيا) ونطق عنها سير تشارلز إليت إنها: (قصيدة أعظم من الإلياذة) ولا إرتياب في صدق هذا الحكم الأخير بمعنى من معانيه؛ بدأت الماهابهاراتا (حوالي سنة 500 ق.م) قصيدة قصصية قصيرة، لا يتجاوز طولها حداً معقول ، ثم أخذت تضيف إلى نفسها في جميع قرن من القرون المتعاقبة حكايات ومقطوعات ، وإمتصت في جسمها قصيدة (بهاجافادجيتا) كما ضمت بعض أجزاء من سيرة راما ، حتى بلغ طولها في نهاية الأمر 000ر107 زوج من أبيات الشعر الثمانية المقاطع - أي ما يساوي الإلياذة والأوذيسية مجتمعين سبع مرات وإسم مؤلفها أسطوري ، إذ ينسبها الرواة لمن يسمونه (فياسا) وهي حدثة معناها "المنظم" ، فقد خطها مائة شاعر ، وصاغها ألف منشد ، ثم اتى البراهمة في عهد ملوك جوبتا (حوالي 400 م) فصبوا أفكارهم الدينية والخلقية في هذا المؤلف الذي بدأ على أيدي أفراد من طبقة الكشاترية ؛ وبهذا خلعوا على القصيدة تلك الصورة الجبارة التي نراها عليها اليوم.

لم يكن موضوع القصيدة الأساسي مقصوداً به الإرشاد الديني بمعنى الحدثة الدقيق ، لأنها تقص سيرة عنف ومقامرة وحروب ، فيقدم الجزء الأول من القصيدة "شاكونتالا" الجميلة (التي أريد لها حتى تكون بطلة في أشهر مسرحية هندية) وابنها القوي (بهارفا) ؛ الذي من أصلابه اتىت قبائل (بهاراتا العظيم) (أي الماهابهاراتا) وقبائل كورووباندافا التي تتألف من حروبها الدموية سلسلة الحكاية ولوأنه كثيراً ما تخرج الحكاية عن موضوعها لتعرج على موضوعات أخرى ؛ فالملك "يوذسشيرا" - ملك البندافيين - يقامر بثروته حتى تضيع كلها ، ثم بجيشه وبمملكته وبإخوته وأخيراً بزوجته "دراوبادي" وكان في هذه المقامرة يلاعب عدواً له من قبيلة كورو، كان يلعب بزهرات مغشوشة ، وتم الإتفاق على حتى يسترد الباندافيون مملكتهم بعد إثني عشر عاماً يتحملون فيها النفي من أرض وطنهم وتمضي الإثنا عشر عاماً ، ويطالب الباندافيون أعداءهم الكوريين برد أرضهم ، لكن لا جواب ، فتعلن الحرب بين الفريقين ويضيف جميع فريق إلى نفسه حلفاء حتى تشتبك الهند الشمالية كلها تقريباً في القتال وتظل الحرب ناشبة ثمانية عشر يوماً ، وتملأ من الملحمة خمسة أجزاء ، وفيها يلاقي الكوريون جميعا مناياهم ، كما يقتل معظم الباندافيين فالبطل (بهشما) وحده يقتل مائة ألف رجل في عشرة أيام ، ويروي لنا الشاعر الإحصائي حتى عدد من سقط في القتال قد بلغ عدة مئات من ملايين الرجال ؛ وتسمع "جانذاري"- الملكة زوجة ملك كوروالأعمى وإسمه "ذريتا راشترا" - تسمعها وسط هذا المشهد الدامي المترع بمناظر الموت ، تصرخ جازعة عندما تبصر العقبان محومة في لهفة الشره فوق جثة ابنها الأمير "درْيوذان":

ملكة طاهرة وامرأةٌ طاهرة ، فاضلة أبداً خيِّرةٌ أبداً

هي "جانذارا" التي وقفت وسط الميدان شامخة في حزنها العميق

والميدان مليء بالجماجم ، وجدائل الشعر إنعقدت عليها الدماء ،

وقد اسود وجهه بأنهار من دم متجمد ؛

والميدان الأحمر مليء بأطراف من لا يحصيهم العد من المقاتلين...

وعواء أبناء آوي الطويل المديد يرن فوق منبطح الأشلاء

والعُقاب والغراب الأسحم يرفرفان أجنحة كريهة سوداء

وسباع الطير تملأ السماء طاعمة من دماء المحاربين

وجماعات الوحش البغيضة تمزق الأجساد الملقاة شلوا شلوا

سيق الملك الكهل في هذه الساحة، ساحة الأشلاء والموت

ونساء كوروبخطوات مرتعشة خطون وسط أكداس القتلى

فدوت في أراتى المكان صرخات عالية من جزع

عندما رأين القتلى أبنائهن وآبائهن وأخوتهن وأزقابلن

عندما رأين ذئاب الغابة تطعم بما هيأ لها القدر من فرائس

عندما رأين جوَّابات الليل السود ساعيات في ضوء النهار

ورنت أراتى الميدان المخيف بصرخات الألم وولولة الجزع

فخارت منهن الأقدام الضعيفة، وسقطن على الأرض

وفقد أولئك الراثيات كلَّ حسٍّ وكل حياة، إذ هن في إغماءة من حزن مشهجر.

ألا إذا الإغماءة الشبيهة بالموت ، التي تعقب الحزن ، فيها لحظة قصيرة من راحة للمحزون.



ثم إنبعثت من صدر "جانذاري" آهةٌ عميقة من قلب مكروب ونظرت إلى بناتها المحزونات ، وخاطبت كرِشنا قائلة:

"أنظري إلى بناتي اللائي ليس لهن عزاء ، أنظري إليهن وهن ملكاتٌ أرامل لبيت كورو.

أنظري إليهن باكيات على أعزائهن الراحلين ، كما تبكي إناث النسور ما فقدت من نسور

أنظري كيف من الممكن أن يثير في قلوبهن حب المرأة كلُّ قَسْمة من هاتيك القسمات الباردة الذاوية

أنظري كيف من الممكن أن يجبن بخطوات قلقة وسط أحساد المقاتلين وقد أخمدها الموت

وكيف تضم الأمهات قتلى أبنائهن إذ هم في نومهم لا يشعرون

وكيف تنثني الأرامل على أزقابلن فيبكين في حزن لا ينبتر ...

هكذا اتىت الملكة "جانذاري" لتبلّغ "كرِشْنا" حزين أفكارها؛

وعندئذ - واحسرتاه - سقط بصرها الحائر على إبنها "درْيوذان"

فأكل صدرها غمٌّ مفاجئ ، وكما زاغت حواسُّها عن مقاصدها

كأنها شجرة هزتها العاصفة ، فسقطت لا تحس الأرض التي سقطت عليها ؛

ثم صحت في أساها من حديث ، وأوفدت بصرها من حديث

إلى حيث رقد إبنها مخضباً بدمائه يلتحف السماء

وضمت عزيزها درْيوذان ، ضمته قريباً من صدرها

وإذ هي تضم جثمانه الهامد اهتز صدرها بنهنهة البكاء

وإنهمرت دموعها كأنها مطر الصيف، فغسلت به رأس النبيل

الذي لم يزل مزدانا بأكاليله ، لم يزل تكلله أزاهير المشكا ناصعة حمراء

"لقد نطق لي إبني العزيز درْيوذان حين مضى إلى القتال، نطق:

"أماه ادْعي لي بالغبطة وبالنصر إذا ما اعتليت عجلة المعمعة"

فأجبت : عزيزي درْيوذان: "اللهم - يا بني - إصرف عنه الأذى

ألا إذا النصر آت دائماً في ذيل الفضيلة"

ثم إنصرف بقلبه كله إلى المعركة ، ومحا بشجاعته كلَّ خطاياه

وهوالآن يسكن أقطار السماء حيث ينتصر المحارب الأمين


ولست الآن أبكي دريوذان ، فقد حارب أميراً ومات أميراً

إنما أبكي زوجي الذي هده الحزن ، فمن يدري ماذا هوملاقيه من نكبات،يا ترى؟

"إسمع الصيحة الكريهة يبعثها أبناء آوي، وأنظر كيف من الممكن أن يرقب الذئاب الفريسة -

وأرادت العذارى الفاتنات بما لهن من غِناء وجمال حتى يحرسنه في رقدته،

إسمع هاتيك العقبان البغيضة المخضبة مناقيرها بالدماء ، تصفق بأجنحتها على أجسام الموتى -

والعذارى يلوحن بمراوح الريش حول درْيوذان في مخدعه الملكي

أنظر إلى أرملة درْيوذان النبيلة، الأم الفخورة بابنها الباسل لاكشمان

إنها في جلال الملكة شباباً وجمالاً ، كأنها قُدّتْ من مضى خالص

إنتزعوها من أحضان زوجها الحلوة ، ومن ذراعي ابنها يطوقانها

خط عليها حتى تقضي حياتها كاسفة حزينة ، رغم شبابها وفتنتها

ألا مزق اللهم قلبي الصلب المتحجر ، وإسحقه بهذا الألم المرير

هل تعيش "جانذاري" لتشهد ابنها وحفيدها النبيلين مقتولين،يا ترى؟

وانظر مرة أخرى إلى أرملة درْيوذان ، كيف من الممكن أن تحتضن رأسه الملطخ بدمه الخاثر

انظر كيف من الممكن أن تمسك به على سريره في رفق بيدين رقيقتين رحيمتين

انظر كيف من الممكن أن تدير بصرها من زوجها العزيز الراحل إلى ابنها الحبيب

فتختنق عبرات الأم فيها أنّةَ الأرملة وهي أنَّةٌ مريرة

وإن جسدها لمضىي رقيق كأنه من زهرة اللوتس

أواه يا زهرتي ، أواه يا ابنتي، يا فخر "بهارات" ويا عز "كورو"

ألا إذا صدقتْ خط الفيدا ، "فدريوذان" الباسل حي في السماء

ففيم بقاؤنا على هذا الحزن ، لا ننعم بحبه العزيز،يا ترى؟

إن صدقت آيات "الشاسترا" فابني البطل مقيم في السماء

ففيم بقاؤنا في حزن مادام واجبهما الأرضي قد تأدَّى.


فالموضوع موضوع حب وحرب ، لكن آلاف الإضافات زيدت عليه في شتى مواضعه ؛ فالإله "كرشنا" يوقف مجرى القتال حيناً بقصيدة منه يتحدث فيها عن شرف الحرب و"كرِشنا" و"بهشْما" وهويحتضر ، يؤجل موته قليلاً حتى يدافع عن قوانين الطبقات والميراث والزواج والمِنَح وطقوس الجنائز ، ويشرح فلسفة خط "السانخيا" و"يوبانشاد" ويروي طائفة من الأساطير والأحاديث المنقولة والخرافات ، ويلقي درساً مفصلاً على "يودشثيرا" في واجبات الملك ؛ كذلك ترى أجزاء مُعْفَرَّة جدباء في سياق الملحمة تقص شيئاً عن الأنساب وعن جغرافية البلاد وعن اللاهوت والميتافيزيقا ، فتفصل بين ما في الملحمة من رياض نضرة فيها أدب مسرحيٌّ وحركة.

وفي ملحمة "الماهابهاراتا" حكاية جامحة الخيال ، وقصص خرافية ، وغرامية ، وتراجم للقديسين ، فيتعاون جميع هذا على جعل الملحمة أقل قيمة في صورتها الفنية ، وأخصب فكراً ، من الإلياذة أوالأوذيسية ؛ فهذه القصيدة التي كانت في بادئ أمرها معبرة عن طبقة الكشاترية (المحاربين) من حيث تبجيلها للحركة والنشاط والبطولة والقتال ، قد أصبحت على أيدي البراهمة أداة لتعليم الناس قوانين "مانو" ومبادئ "اليوجا" وقواعد الأخلاق وجمال النرفانا ؛ وترى "القاعدة المضىية" معبَّراً عنها في صور كثيرة وتكثر في القصيدة الحِكَم الخلقية ذات الجمال وصدق النظر وفيها قصص جميلة عن الوفاء الزوجي ("نالا" و"دامايانتي" و"سافترْي") تصور للنساء اللائي يستمعن لها ، المثل العليا البرهمية للزوجة الوفية الصابرة. وفي غضون الرواية عن هذه المعركة الكبرى ، بُثت قصيدة هي أسمى قصيدة فلسفية يعهدها الشعر العالمي جميعاً ، وهي المسماة "بهاجافاد - جيتا" ومعناها (أنشودة المولى) ، وهي بمثابة "العهد الجديد" في الهند ، يبجلونها بعد خط الفيدا نفسها ، ثم يستعملونها لحلف الأيمان في المحاكم كما يستعمل الإنجيل أوالقرآن ؛ ويقرر "ولهلم فون همبولت" أنها "أجمل أنشودة فلسفية موجودة في أي لغة من اللغات المعروفة ، وربما كانت الأنشودة الوحيدة الصادقة في معناها.

ويجوز حتى تكون أعمق وأسمى ما يستطيع العالم كله حتى يبديه من آيات ؛ وقد هبطت إلينا "الجيتا" بغير إسم ناظمها أوتاريخ نظمها ، وهي في ذلك تشاطر سائر ما للهند من آيات الإبداع في الجهل بأصحابها ، وعلة ذلك حتى الهند لا تعنى بما هوفرديّ أوجزئيّ ؛ وربما يرجع تاريخها إلى سنة 400 ق.م أومن الممكن كانت أحدث من ذلك بحيث ترجع إلى سنة 200 م. ومشهد القصيدة هوالمعركة التي نشبت بين الكوريين والباندافيين ؛ والموقف الذي قيلت فيه هوما أبداه "أرجونا" المحارب الباندافي من رغبة عن قتال ذوي قرباه في صفوف الأعداء قتالاً مميتاً؛ فإسمع "أرجونا" وهويوجّه الخطاب إلى "المولى كرشنا" الذي كان يحارب إلى جواره كأنه إله من آلهة هومر، لترى كيف من الممكن أن يعبر بخطابه عن فلسفة غاندي والمسيح:

"إن الأمر كما أراه هوحتى هذا الحشد من ذوي قربانا

قد تجمع هاهنا ليسفك دماً مشهجراً بيننا ؛

ألا إذا جسدي ليخور وَهَناً ، ولساني يجف في فمي ...

ليس هذا من الخير يا "كِشاف"! يستحيل حتى ينشأ خير

من فريقين يفتك جميع منهما بالآخر! انظر ،

إنني أمقت النصر والسيادة ، وأكره الثروة والترف

إن كان كسبهما عن هذا الطريق المحزن! واأسفاه ،


أي نصر يسرّ يا "جوفندا" وأي الغنائم النفيسة ينفع ،

وأي سيادة تعوض ، وأي أمد من الحياة نفسها يحلو،

إن كان شيء من هذا كله قد اشتريناه بمثل هذه الدماء؟...

فإذا ما قتلنا

أقرباءنا وأصدقاءنا حباً في قوة دنيوية

فيالها من غلطة تنضح شراً!

إنه لخير في رأيي ، إذا ما ضرب أهلي ضربتهم ،

أن أقابلهم أعزل من السلاح ، وأن أعَرّي لهم صدري ،

فيتلقى منهم الرماح والسهام ، ذلك في رأي خير من مبادلتهم ضربة بضربة


وهاهنا يأخذ "كرشنا"- الذي تحمل ربوبيته على الحد من نشوته بالمعركة- في بسط وجهة نظره واثقاً من صحة ما يقول ثقة إستمدها من كونه إبن فشنو، وهي حتى الخط المنزلة ، والرأي عند خيرة الراسخين في الفهم ، هوأنه من الخير والعدل حتى يقتل الإنسان ذوي قرباه في الحرب ؛ وأن واجب "أرجونا" هوحتى يتبع قواعد طبقته الكشاترية ، وأن يقاتل ويقتل أعداءه بضمير خالص وإرادة طيبة ، لأنه على جميع حال لا يقتل إلا الجسد ، وأما الروح فباقية ؛ وهنا تراه يشرح ما اتى في "سانخيا" عن "بوروشا" التي لا يأتيها العطب ، وما اتى في "يوبانشاد " عن "أتمان" التي لا تفنى :

"إفهم حتى الحياة لا تفنى، فتظل تبثّ حياةً في الكون كله؛

يستحيل على الحياة في أي مكان ، وبأية وسيلة ،

أن يصيبها نقص بأي وجه من الوجوه ، ولا حتى يصيبها خمود أوتغير

أما هذه الهياكل الجسدية العابرة ، التي تبث فيها الحياة

روحاً لا تموت ولا تنتهي ولا تحدها الحدود -

ففانية ؛ فدعها- أيها الأمير- تَفْنَ ، وامض في قتالك!

إن من يقول: "انظر ، لقد قتلت إنساناً!"

وإن من يظن لنفسه: "هاأنذا قد قُتِلْت!"

فكلا هذين لا يفهم شيئاً ؛ إذا الحياة لا تَقْتل

وإن الحياة لا تُقْتل! إذا الروح لم تولد قط، ولن تفنى

إن الزمان لم يشهد لحظة خلت من الروح، إذا النهاية والبداية أحلام!

إن الروح باقية إلى الأبد بغير مولد وبغير موت وبلا تغير

إن الموت لم يمسسها قط ، وإن خيل لنا حتى وعائها الجسدي قد مات"

ويمضي "كرشنا" في إرشاد "أرجونا" في الميتافيزيقا ، مازجاً في تعليمه كتاب "سانخيا" بكتاب "فيدانتا" بحيث يحصل منهما على مركب فريد يقبله أنصار ممضى "فايشنافيت" ؛ فهويقول عن الأمور كلها ، موحداً بين ذاته والكائن الأسمى ، يقول عن الأمور كلها إنها:

"تتعلق بي

كما تتعلق مجموعة من الخرزات على الخيط؛

أنا من الماء طعمه العذب

وأنا من القمر فضته ومن الشمس مضىها

أنا موضع العبادة في الفيدا، والهزة التي

تشق أجواز الأثير والقوة

التي تكمن في نطفة الرجل أنا الرائحة الطيبة الحلوة

التي تعبق من الأرض البليلة،يا ترى؟ وأنا من النار وهجها الأحمر

وأنا الهواء باعث الحياة يتحرك في جميع ما متحرك

أنا القدسية فيما هومقدس من الأرواح أنا الجذر

الذي لا يذوي والذي إبثق منه جميع ما كائن

أنا حكمة الحكيم وذكاء

العليم وعظمة العظيم

وفخامة الفخيم ...

إن من يرى الأمور رؤية الحكيم

يرى حتى براهما بما له من خط وقداسة

والبقرة والفيل والكلب النجس

والمنبوذ وهويلتهم لحم الكلب، كلها كائن واحد"


هذه قصيدة زاخرة بألوانها المتباينة ومتناقضاتها الميتافيزيقية والخلقية التي تصور أضداد الحياة وتعقيدها وإنه ليأخذنا شئ من الدهشة حتى نرى الإنسان متمسكاً بما يظهر لنا موقفاً أسمى من الوجهة الخلقية بينما الإله يدافع عن الحرب والقتل معتمدا على أساس متهافت وهوحتى الحياة غير قابلة للقتل والفردية وَهْم لا حقيقة فيه ، ولعل ما أراد المؤلف حتى يحققه بقصيدته هوحتى ينقذ الروح الهندية من الهمود المميت الذي فرضته العقيدة البوذية ، وأن يوقظها لتحارب من أجل الهند ؛ فهي بمثابة ثورة رجل من الكشاترية أحسّ حتى الدين يوهن أمته ، وارتأى في زهوحتى هنالك أشياء كثيرة أنفَس من السلام ؛ وقبل جميع شئ كانت هذه القصيدة درساً لوحفظته الهند لجاز حتى يصون لها حريتها.


أما ثانية الملاحم الهندية فهي أشهر الأسفار الهندية وأحبها إلى النفوس. وهي أقرب إلى أفهام الغربيين من "الماهابهاراتا" ؛ وأعني بها "رامايانا" ، وهي أقصر من زميلتها الأولى ، إذ لا يزيد طولها على ألف صفحة قوام الصفحة منها ثمانية وأربعون سطراً ؛ وعلى الرغم من أنها كذلك أخذت تزداد بالإضافات من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد ، فإن تلك الإضافات فيها أقل عدداً مما في زميلتها ، ولا تهوش الموضوع الأصلي كثيراً ؛ ويعزوالرواة هذه القصيدة إلى رجل يسمى "فالميكي" ، وهوكنظيره المؤلف المزعوم للملحمة الأخرى الأكبر منها ، يظهر في الحكاية شخصية من شخصياتها ولكن الأرجح حتى القصيدة من إنشاء عدد كبير من المنشدين العابرين ، أمثال أولئك الذين لا يزالون ينشدون هاتين الملحمتين ، وقد يظلون يتابعون إنشادهما تسعين ليلة متعاقبة ، على مستمعين مأخوذين بما فيها من سحر. وكما حتى "الماهابهاراتا" تشبه "الإلياذة" في كونها سيرة حرب عظيمة أنشبتها الآلهة والناس ، وكان بعض أسبابها إستلاب أمة لامرأة جميلة من أمة أخرى ؛ فكذلك تشبه "رامايانا" "الأوذيسية" وتقصّ عما لاقاه أحد الأبطال من صعاب وأسفار ، وعن إنتظار زوجته صابرة حتى يعود إليها فيلتئم ضمها من حديث ، وترى في فاتحة الملحمة صورة لعصر مضىي ، كان فيه "دازا- راذا" يحكم مملكته "كوسالا" (وهي ما يسمى الآن أوذا) من عاصمته "أيوذيا":

مزداناً بما تزدان به الملوك من كرامة وبسالة، وزاخراً بترانيم الفيدا المقدسة

أخذ (دازا- راذا) يحكم ملكه في أيام الماضي السعيد...

إذ عاش الشعب التقيُّ مسالماً، كثير المال رفيع المقام

لا يأكل الحسد قلوبهم ؛ ولا يعهدون الكذب فيما ينطقون ؛

فالآباء بأسْراتهم السعيدة يملكون ما لديهم من ماشية وغلة ومضى

ولم يكن للفقر المدقع والمجاعة في (أيوذيا) مقام.


وكان على مقربة من تلك البلاد مملكة أخرى سعيدة هي "فيديها" التي كان يحكمها الملك "جاناك" ، وقد كان هذا الملك "يسوق المحراث ويحرث الأرض" بنفسه ، فهوفي ذلك شبيه ببطل إسمه "سِنْسِناتَسْ" ؛ وحدث ذات يوم أنه لم يكد يلمس المحراث بيده ، حتى إنبثقت من مجرى المحراث في الأرض إبنة جميلة ، هي " سيتا " ، وما أسرع ما حان حين زقابلا ، فعقد "جاناك" مباراة بين خطّابها ، فمن إستطاع منهم حتى يقوم إعوجاج قوس "جاناك" الذي يقاتل به ، كانت العروس نصيبه ؛ واتى إلى المباراة أكبر أبناء "دازا- راذا" وهو"راما": "صدره كصدر الليث ، وذراعاه قويتان ، وعيناه مضىيتان ، مهيب كفيل الغابة ، وقد عقد على ناصيته من شَعْره تاجاً" ولم يستطع حتى يلوي القوس إلا "راما" فقدم إليه "جاناك" إبنته بالصيغة المعروفة في مراسم الزواج في الهند:

هذه سيتا إبنة جاناك وهي أعز عليه من الحياة

فلتقاسمك منذ الآن فضيلتك ، ولتكن أيها الأمير زوجتك الوفية

هي لك في جميع بلد ، تشاركك عزاً وبؤساً

فأعِزَّها في سرّائك وضرّائك ، واقبض على يدها بيدك

والزوجة الوفية لمولاها كالظل يتبع الجسد

وابنتي سيتا- زين النساء- تابعتك في الموت والحياة


إلى غير ذلك يعود "راما" إلى بلده "أيوذيا" بعروسه الأميرة: "جبين من عاج ، وشفة من المرجان ، وأسنان تسطع بلمعة اللآلئ"- وقد كسب حب أهل كوسالا بتقواه ووداعته وسخائه ؛ وما هوإلا حتى ولج الشر هذه الفردوس حين دخلتها الزوجة الثانية "لدازا- راذا" وهي "كايكيي" ؛ وقد وعدها "دازا- راذا" حتى يجيبها إلى طلبها كائناً ما كان ؛ فحملتها الغيرة من الزوجة الأولى التي أنجبت "راما" ولياً للعهد ، حتى تطلب من "دازا- راذا" نفي "راما" من المملكة أربعة عشر عاماً ؛ فلم يسع "دازا- راذا" إلا حتىقد يكون عند وعده ، مدفوعاً إلى ذلك بشرف لا يفهم معناه إلا شاعر لم يعهد شيئاً من السياسة ؛ ونفى إبنه الحبيب ، بقلب كسير ؛ ويعفو"راما" عن أبيه عفوالكريم ، ويأخذ الأهبة للرحيل إلى الغابة حيث يقيم وحيداً ؛ لكن "سيتا" تصر على الذهاب معه ، وكلامها في هذا الموقف تكاد تحفظه عن ظهر قلب جميع عروس هندية ، إذ نطقت:

"العربة والخيل المطهمة والقصر المذهّب ، كلها عبث في حياة المرأة

فالزوجة الحبيبة المحبة تؤثر على جميع هذا ظلّ زوجها...

إن "سيتا" ستهيم في الغابة ، فذلك عندها أسعدُ مقاماً من قصور أبيها

إنها لن تفكر لحظة في بيتها أوفي أهلها، ما دامت ناعمة في حب زوجها...

وستجمع الثمار الحوشية من الغابة اليانعة العبقة

فطعام (يذوقه "راما" هوأحب طعام عند "سيتا")


حتى أخوه "لاكشمان" يستأذن في الرحيل ليصحب "راما" فيقول:

"ستسلك طريقك المظلم وحيداً مع "سيتا" الوديعة ،

هلاّ أذنت لأخيك الوفيّ "لاكشمان" بحمايتها ليلاً ونهاراً ،

هلاّ أذنت "للاكشمان" بقوسه ورمحه حتى يجوب الغابات جميعاً

فيسقط بفأسه أشجارها ، ويبني لك الدار بيديه؟".


وعند هذا الموضع تصبح الملحمة نشيداً من أنشاد الغابات ، إذ تقصّ كيف من الممكن أن إرتحل "راما" و"سيتا" و"لاكشمان" إلى الغابات ، وكيف سافر معهم عامر "أيوذيا" جميعاً طوال اليوم الأول ، حزناً عليهم ؛ وكيف يتسلل المنفيّون من أصحابهم الودودين خلسة في ظلمة الليل ، مخلّفين وراءهم جميع نفائسهم وثيابهم الفاخرة ، وارتدوا لحاء الشجر ونسيجاً من كلأ ، وأخذوا يشقوا لأنفسهم طريقاً في أشجار الغابة بسيوفهم ، ويقتاتون بثمار الشجر وبندقها:

"وطالما التفتت إلى "راما" حليلته، في غبطة وتساؤل تزدادان على مرّ الأيام


وتسأل ما إسم هذه الشجرة وهذا الزاحف وتلك الزهرة وهاتيك الثمرة مما لم تره من قبل...

والطواويس ترفّ حولهم مرحة، والقردة تقفز على محنيّ الغصون...

كان "راما" يثب في النهر تظلله أشعة الصبح القرمزية

وأما "سيتا" فكانت تسعى إلى النهر في رفق كما تسعى السوسنة إلى الجدول)


ويبنون كوخاً إلى جانب النهر ، ويروضون أنفسهم على حب حياتهم في الغابة لكن وقع حتى كانت أميرة من الجنوب ، وهي "سوربا- ناخا" تجوب الغابة ، فتلتقي "براما" وتغرم به ، وتضيق صدراً بالفضيلة التي يبديها لها ، وتستثير أخاها "رافان" على المجيء ليختطف "سيتا" ، وينجح أخوها في خطفها والفرار بها إلى قلعته البعيدة ، ويحاول عبثاً حتى يغويها بالضلال ، ولما لم يكن ثمة محال على الآلهة والمؤلفين ، فقد حشد جيشاً جراراً ، فتح به مملكة "رافان" وهزمه في القتال ، وأنقذ "سيتا" وبعدئذ (وكانت أعوام نفيه قد كملت) فرّ معه قافلاّ بها إلى بلده "أريوذا" حيث عثر أخاً آخر له وفياً ، فتنازل له عن عرش كوسالا. وللملحمة ذيل يرجح أنه أضيف إليها متأخراً ، وفيه يروى حتى "راما" آمن آخر الأمر بأقوال المتشككين الذين لم يصدقوا حتى تكون "سيتا" قد أقامت تلك المدة كلها في قصر رافان بغير حتى تقع في أحضانه آنا بعد آن ؛ وعلى الرغم من أنها إجتازت "محنة النار" لتدل على براءتها ، فقد بعث بها إلى غاية بعيدة حيث تقيم في صومعة هناك ، مزوّدة بألعوبة الوراثة المرّة التي تقضي على جميع جيل من الناس حتى يورّث خلفه تلك الخطايا والأغلاط التي ورثها هومن شيوخه في شبابه؛ وتلتقي "سيتا" في الغابة بفالميكي، وتلد طفلين "لراما" ؛ وتمضي السنون ، ويصبح الولدان منشدين جوّالين، يغنيان أمام "راما" المنكود الملحمة التي أنشأها عليه "فالميكي" مستمداً إيّاها من ذكريات "سيتا" ، فيدرك حتى الولدين إبناه ، ويبعث برسالة إلى "سيتا" يرجوها الرجوع ؛ لكن "سيتا" كانت قد تحطم قلبها بما أثير حولها من ريب ، فغاصت في الأرض التي كانت في بادئ الأمر أمها ؛ ويظل "راما" يحكم أعوام طوالاً في وحشة وأسى، وتبلغ "أريوذا" في عهده الرحيم عصرها المضىي من حديث ، ذلك الذي ذاقت طعمه في عهد "دازا- راذا":

يروي شيوخ الحكماء إبان عهد راما السعيد

أن رعيته لم تعهد الموت قبل أوانه ولا الأمراض الفاتكة.

ولم تبك الأرامل حزناً على أزقابلن لأن هؤلاء لم يموتوا عن زوجاتهم قبل إكتمال العمر

ولم تبك الأمهات هلعاً على الرضّع ففقدنهم في نعومة الأظفار.

ولم يحاول اللصوص والغشاشون والخادعون المرحون بالكذب سرقة أوغشاً أوخداعاً

وكل جار أحب جاره التقيّ ، وأحب الشعب مولاه

وآتت الأشجار أكلها كاملة حدثا حانت فصولها

ولم تتوان الأرض عاماً عن إخراج غلّتها في غبطة المعترف بالجميل

وأمطرت السماء في أوان المطر ، ولم تعصف قط بالبلاد عاصفة تأتي على غرسها.

فكان جميع واد يانع باسمٍ غنياً بمحصوله غنياً بمرعاه

وأخرج المِنْسَجُ السّندان صناعتهما ، كما أخرجت الأرض الخصيبة المحروثة نبتها

وعاشت الأمة فرحة بعمل أجدادها الأولين


ألا ما أمتعها من سيرة ، يستطيع حتى المتشائم في عصرنا الحديث حتى يستمتع بها ، إذا كان من الحكمة بحيث يهجر زمام نفسه آنا بعد آن لروعة الخيال ونغمة الغناء ؛ فهذه الأشعار التي من الممكن كانت أحط قدراً من ملحمتي هومر من الوجهة الأدبية- في بنائها المنطقي وفخامة اللغة وعمق التصوير ، والصدق في وصف الأمور على حقائقها- تمتاز بدقة الشعور ، وبإعلائها من شأن المرأة والرجل إعلاء مثالياً ، وبتصوير الحياة تصويراً قوياً- وهوتصوير واقعي أحياناً ؛ فلئن كان "راما" و"سيتا" أسمى خلقاً من حتىقد يكونا شخصين حقيقيين ، فغيرهما من الأشخاص مثل "دروبادي" و"يوذشثيرا" و"ذريتا- راشترا" و"جانذاري" يكادونقد يكونون في قوة الحياة التي تراها في "أخيل" و"هيلانة" و"يوليسيز" و"بنلوب" ؛ ويستطيع الهندي حتى يحتج في حق قائلاً إذا الأجنبي لا يمكنه قط حتى يحكم على هاتين الملحمتين ، بل لا يمكنه قط حتى يفهمهما ؛ فهما للهندي ليستا مجرد قصتين بل هما في رأيه بهومن أبهاء الصور ، يشاهد فيه أشخاصاً مثاليين يمكنه حتى ينسج في سلوكه على غرارهم ، هما مستودع تستقر فيه التنطقيد ، كما تستقر فلسفة أمته ولاهوتها ، فهما- بوجه من الوجوه- خط مقدسة يقرأها الهندي على نحوما يقرأ المسيحي "محاكاة المسيح" أو"تراجم القديسين" ؛ إذ يعتقد الهندي الورع حتى "كرِشْنا" و"راما" صورتان مجسدتان للألوهية ، ولا يزال يتوجه إليهما بالصلاة.

وهوحين يقرأ أخبارهما في هاتين الملحمتين ، يشعر بأنه يستمد من قراءته سمواً دينياً ، كما يستمد متعة أدبية وإرتفاعاً خلقياً ؛ وهويؤمن حتى قراءته "لرامايانا" يطهره من أوزاره جميعاً ويجعله ينجب ولداً ، كما أنه يقبل النتيجة المزهوَّة التي تنتهي إليها "الماهابهاراتا" قبول الإيمان الساذج ، وهي: "إذا قرأ المرء "الماهابهاراتا" وآمن بتعاليمها ، تطهر من جميع خطاياه ، وصعد إلى السماء بعد موته ... فالبراهمة بالقياس إلى سائر الناس ، والزبد بالقياس إلى سائر ألوان الطعام ... والمحيط بالقياس إلى بركة الماء ، والبقرة بالقياس إلى سائر ذوات الأربع- جميع ذلك يصور "الماهابهاراتا" بالقياس إلى سائر خط التاريخ ... إذا من يصغي في إنتباه إلى أشعار "الماهابهاراتا" المزدوجة الأبيات ويؤمن بما فيها ، يتمتع بحياة طويلة وسمعة طيبة في هذه الحياة الدنيا ، كما يتمتع في الآخرة بمقام أبدي في السماء".


المسرحية

المسرحية في الهند قديمة قدم الفيدات ، بوجه من الوجوه ، ذلك لأن بذورها الأولى على الأقل موجودة في خط "يوبانشاد" ولا شك في حتى للمسرحية بداية أقدم من هذه الخط المقدسة ، بداية أكثر فاعلية من تلك- وأعني بها الإحتفالات والمواكب الدينية التي كانت تقام للقرابين وأعياد الطقوس ؛ وكان للمسرحية مصدر ثالث غير هذين ، وهوالرقص- فلم يكن الرقص مجرد وسيلة لإخراج الطاقة المدخرة ، وأبعد من ذلك عن الحقيقي حتى نقول أنه كان بديلاً للعملية الجنسية ، لكنه كان شعيرة جدية يقصد بها حتى يحاكي ويوحي بالأعمال والحوادث الحيوية بالنسبة للقبيلة ؛ وربما التمسنا مصدراً رابعاً للمسرحية ، وهوتلاوة شعر الملاحم تلاوة علنية تدبّ فيها الحياة ؛ فهذه العوامل كلها تعاونت على تكوين المسرح الهندي ، وطبعته بطابع ديني ظل عالقاً به خلال العصر القديم كله من حيث بناء المسرحية ذاتها، ومصادر موضوعاتها الفيدية والملحمية، والمقدمة التي كانت تتلى دائماً قبل البدء في التمثيل إستنزالاً للبركة. وربما كان آخر البواعث التي حفزتهم على إنشاء المسرحية ، هوإتصال الهند باليونان إتصالاً اتى نتيجة لغزوالإسكندر فليس لدينا شاهد يشير على وجود المسرحية قبل "أشوكا" ، كما أنه ليس بين أيدينا إلا مرشد مشكوك في قوته، على أنها وجدت في عهده ؛ وأقدم ما بقي لنا من المسرحيات الهندية مخطوطات أوراق النخيل التي كشف عنها حديثاً في الهجرستان الصينية ، وبينها ثلاث مسرحيات ، تذكر إحداها حتى إسم مؤلفها هو"أشفاغوشا" العالم اللاهوتي في بلاط "كانِشْكا" ؛ لكن النطقب الفني لهذه المسرحية ، والشبه الذي بين شخصية "المضحك" فيها وبين النمط الذي عهدناه لمثل هذه الشخصيات في المسرح الهندي على مر العصور ، قد يدلان على حتى المسرحية كانت قائمة بالعمل في الهند قبل مولد "أشفاغوشا" ، وحدث في سنة 1910م حتى وجدت في "ترافانكور" ثلاث عشرة مسرحية سنسكريتية ، تُنسَبْ في شئ من الشك إلى "بهازا" (حوالي سنة 350م) وهوفي الأدب المسرحي سلفٌ ظفر بكثير من التكريم من "كاليداسا" ففي مقدمة روايته "مالافيكا" توضيح جيد لنسبية الزمن والصفات ، أثبته (أي كاليداسا) في تلك المقدمة عن غير وعي منه ، فتراه يسأل: هل يليق بنا حتى نهمل مؤلفات رجال مشهورين مثل "بهازا" و"ساوميلا" و"كافيبوترا"،يا ترى؟ هل يمكن للنظارة حتى يحسُّوا بأقل إحترام لما ينشئه شاعر حديث يسمى كاليداسا؟".

من أول هذا الجزء نعيد إدخال" وإلى عهد قريب كانت أقدم مسرحية هندية معروفة للباحثين الفهميين هي "عربة الطين" ، وفي النص- الذي ليس تصديقه حتماً علينا- ذكر لإسم مؤلفها ، وهورجل مغمور يعهد بإسم "الملك شودراكا" يوصف بأنه خبير بخط الفيدا وبالرياضة وترويض الفيلة وفن الحب. ومهما يكن من أمر فقد كان خبيراً بالمسرح ، ومسرحيته هذه أمتع ما اتىنا من الهند ، وليس في ذلك سبيل إلى الشك- فهي مزيج- يشير على براعة- من الغناء والفكاهة ، وفيها فقرات رائعة لها ما للشعر من حرارة وخصائص. ولعل خلاصة موجزة لحوادثها أنفع في توضيح مميزات المسرحية الهندية من مجلد بأسره يخط في شرحها والتعليق عليها ؛ ففي الفصل الأول نلتقي بـ "شارو- داتا" الذي كان ذات يوم من الأغنياء ، ثم أصابه الفقر لجوده وسوء حظه ؛ ويلعب صديقه "مايتريا"- وهوبرهميّ فدْم- دور المضحك في المسرحية ؛ ويطلب "شارو" من "مايتريا" حتى يهب الآلهة قرباناً، ولكن البرهمي يرفض الطلب قائلاً: "ما غناء القربان للآلهة التي عبدتها ما دامت لم تصنع لك شيئاً؟" وفجأة دخلت إمرأة هندية شابة ، من أسرة رفيعة ولها ثراء عريض ، دخلت مندفعة في فناء دار "شارو" تلتمس فيه ملاذاً من رجل يتعقبها ؛ وإذا بهذا المتعقب أخوالملك ، وإسمه "سامزثاناكا" وهوشرير إلى درجة بلغت غاية لم تدع فيه أدنى مجال للخير، حتى ليتعذر على الإنسان حتى يصدق وجود مثل هذا الشر الخالص ، على نحوما كان" "شارو" خيّراً خالصاً لا سبيل إلى دخول الشر في نفسه ؛ فيحمي "شارو" الفتاة اللائذة بداره ، ويطرد " سامزثاناكا " الذي يتوعده بالإنتقام ، فيزدري منه هذا الوعيد وتطلب الفتاة- وإسمها "فاسانتا- سينا"- من "شارو" حتى يحفظ لها وعاء فيه جواهر كريمة تحت حراسته الآمنة ، خشية حتى يسرقه منها الأعداء ، وخشية ألا تجد عذراً تتذرع به للعودة إلى زيارة منقذها ؛ فيجيبها إلى ما طلبت، ويحفظ لها الوعاء ، ويحرسها حتى يبلغ بها دارها الفخمة. ويأتي الفصل الثاني بمثابة فاصل هزلي ، فهذا مقامر هارب من مقامرين آخرين ، يلوذ بأحد المعابد ، فلما ولج هذان ، وتخلص منهما بأن وقف وقفة التمثال كأنه وثن الضريح ، ويقرصه المتعقبان ليريا إذا كان حقيقة وثناً من الحجر ، فلا يتحرك ؛ فيتخليان عن البحث ، ويتسليان بلعبة يلعبانها بالزهر "زهر القمار" بجوار المذبح ؛ ويبلغ اللعب من إثارته للنفس مبلغاً تعذر معه على التمثال حتى يضبط زمام نفسه ، فوثب من على قاعدته ، واستأذن ليشهجر في اللعب ؛ ويهزمه اللاعبان الآخران ، فيجد في ساقيه السريعتين وسيلة للفرار مرة أخرى ، وتنجيه "فاسانتا- سينا" التي عهدت فيه رجلاً كان فيما مضى خادماً عند "شارو- داتا".

ونرى في الفصل الثالث "شارو" و"مايتريا" عائدين من حفلة موسيقية ويسطوعلى الدار لص فيسرق وعاء الجواهر الكريمة ، فلما كشف "شارو" عن السرقة ، أحس بالعار ، وبعث إلى "فاسانتا- سينا" آخر ما يملكه من عقود اللؤلؤ ، عوضاً لها. ونرى في الفصل الرابع "شارفيلاكا" يقدم الوعاء المسروق إلى خادمة "فاسنتا- سينا" إبتغاء حبها ؛ فلما عهدت أنه وعاء سيدتها ، إزدرت "شارفيلاكا" لأنه لص ، فيجيبها في مرارة نعهدها في شوبنهور ، قائلاً:

إن المرأة- إذا ما بذلتَ لها المال- إبتسمت أوبكتْ

ما أردتَ لها الإبتسام أوالبكاء ؛ إنها تحمل الرجل

على الثقة فيها ، لكنها هي لا تثق فيه ،

إن النساء متقلبات الأهواء كموج

المحيط ؛ إنّ حبهن مفلات هروب

كأنه شعاع من ضوء الشمس الغاربة فوق السحاب ،

إنهن يرتمين بميل شديد على الرجل

الذي يعطيهن مالاً ، وما زلن يعتصرن ماله

إعتصارهن لعصارة النبات المليء ، ثم ينبذونه نبذاً


لكن الخادمة تدحض كلامه هذا بعفوها عنه كما تدحضه "فاسانتا- سينا" بالإذن لهما بالزواج. وفي فاتحة الفصل الخامس تأتي "فاسانتا- سينا" إلى بيت "شارو" لكي تعيد له جواهره ، وتعيد كذلك وعاءها ؛ وبينما هي هناك ، عصفت عاصفة تصفها بالسنسكريتية وصفا رائعاً ؛ وتتفضّل عليها العاصفة بالزيادة من ثورة غضبها ، إذ إضطرتها بذلك- إضطراراً اتى وفق ما تشاء وتهوى- حتى تبيت ليلتها تحت سقف شارو.

ونرى في الفصل السادس "فاسانتا" وهي تغادر بيت "شارو" في الصباح التالي ؛ وبدل حتى تدخل العربة التي أعدها لها ، أخطأت فدخلت عربة يملكها "سامزثاناكا" الشرير ؛ وفي الفصل السابع حبكة فرعية ليست بذات أثر كبير على موضوع المسرحية ؛ ونرى "فاسانتا" في الفصل الثامن ملقاة- لا في قصرها كما تسقطت- بل في بيت عدوها ، بل توشك حتى تكون في أحضان ذلك العدو؛ فلما عاودته بازدراء حبّه إياها، خنقها ودفنها ؛ ثم مضى إلى المحكمة وإتهم شاروبقتل "فاسانتا" بغية الوصول على أحجارها الكريمة. وفي الفصل التاسع وصف للمحاكمة ، حيث يخون "مايتريا" سيده خيانة غير مقصودة ، وذلك بأن أسقط من جيبه جواهر "فاسانتا" ؛ فحكم على "شارو" بالموت ؛ ونراه في الفصل العاشر في طريقه إلى حيث ينفذ فيه الإعدام ؛ ويلتمس إبنه من الجلادين حتى يضعوه مكان أبيه ، لكنهم يرفضون ؛ ثم تظهر "فاسانتا" في اللحظة الأخيرة ؛ فقد شاهد "شارفيلاكا" "سامزثاناكا" وهويدفنها ، فأسرع إلى إخراج جسدها قبل فوات الأوان ، وأعادها إلى الحياة ؛ وإنقلب الوضع ، فقد أنقذت "فاسانتا" "شارو" من الموت ؛ وإتهم "شارفيلاكا" أخا الملك بتهمة القتل ؛ لكن "شارو" أبى حتى يؤيد الإتهام ، فأطلق سراح "سامزثاناكا" وعاش الجميع عيشاً سعيداً.

لما كان الوقت في الشرق ، حيث يكاد العمل كله يتم أداؤه بأيد بشرية ، أوسع منه في الغرب ، حيث وسائل توفير الوقت كثيرة جداً ، كانت المسرحيات الهندية ضعف المسرحيات الأوروبية في عصرنا هذا ؛ فيتراوح عدد الفصول من خمسة إلى عشرة ، وكل فصل منها ينقسم في غير إزعاج للنظارة إلى مناظر ، بحيثقد يكون أساس الإنقسام خروج شخصية ودخول أخرى ؛ وليس في المسرحية الهندية وحدة للمكان ووحدة للزمان ، وليس فيها ما يحد سرحات الخيال ؛ والمناظر على المسرح قليلة ، لكن الثياب زاهية الألوان ، وأحياناً يدخلون على المسرح حيوانات حية فتزيد من حركة المسرحية نشاطاً. وتبث روحاً فيما هوصناعي بما هوطبيعي فترة من الزمن ؛ ويبدأ التمثيل بمقدمة يناقش فيها أحد الممثلين أومدير المسرح موضوع الرواية ، والظاهر حتى "جيته" أخذ عن "كاليداسا" فكرة المقدمة لرواية "فاوست" ؛ ثم تخدم المقدمة بتقديم أول شخصية من الممثلين ، فيأتي هذا ويخوض في قلب الموضوع ؛ والمصادفات لا عدد لها ، وكثيراً ما ترسم العوامل الخارقة للطبيعة خط السير للحوادث ؛ ولا تخلومسرحية من سيرة غرامية ، كما لابد لها من "مضحك" ؛ وليس في الأدب المسرحي الهندي مأساة ، إذ لا مندوحة لهم عن إختتام الحوادث بخاتمة سعيدة ؛ وحتم في المسرحية حتى ينتصر الحب الوفيّ دائماً ، وأن تكافأ الفضيلة دائماً ، وأقل ما يدعوهم إلى عمل ذلك حتى يجئ بمثابة الموازنة مع الواقع؛ وتخلوالمسرحية الهندية من المناقشات الفلسفية التي كثيراً جداً ما تعترض مجرى الشعر الهندي؛ فالمسرحية مثل الحياة ، لا بد حتى تعلّم بالعمل وحده ، وألا تلجأ أبداً في ذلك إلى مجرد الكلام ، ويتعاقب في سياق المسرحية الشعر الغنائي والنثر ، حسب جلال الموضوع والشخصية والعمل ؛ والسنسكريتية هي لغة الحديث لأفراد الطبقات العالية في الرواية ، والبراكريتية هي لغة النساء والطبقات الدنيا ؛ والفقرات الوصفية في تلك المسرحيات بارعة ، وأما تصوير الشخصيات فضعيف ؛ والممثلون- وفيهم نساء- يجيدون أداء التمثيل ، فلا هم يتسرعون كما هي الحال في الغرب ، ولا هم يسرفون في البطء كما يعمل أهل الشرق الأقصى ؛ وتنتهي الرواية بخاتمة يتوجّه فيها بالنادىء إلى الإله المحبب عند المؤلف أوعند أهل الإقليم المحلي ، ليهيئ مسببات السعادة للبلاد.

وأشهر المسرحيات الهندية هي "شاكونتالا" ل "كاليداسا" لم يزاحمها في ذلك مزاحم منذ ترجمها "سير وليم جونز" وإمتدحها "جيته" ؛ ومع ذلك فكل ما تعهده لكاليداسا ثلاث مسرحيات ، مضافاً إليها الأساطير التي لفتها حول اسمه ذاكرات المعجبين ؛ والظاهر حتى قد كان أحد "الجواهر التسع"- من الشعراء والفنانين والفلاسفة- الذين قرّبهم الملك "فكراماديتيا" إليه (380- 413 م) في عاصمة جوبتا ، وهي "يوجين". تقع "شاكونتالا" في سبعة فصول، بعضها نثر ، وبعضها شعر ينبض بالحياة؛ فبعد مقدمة يدعوفيها مدير المسرح النظارة حتى يتأملوا روائع الطبيعة ، تبدأ الرواية بمنظر طريق في غابة ، حيث يقيم راهب مع ابنة تبنّاها ، تسمى "شاكونتالا" وما هوإلا حتى يضطرب سكون المكان بصوت عربة حربية، يخرج منها راكبها وهوالملك "دشيانتا" فيغرم "بشاكونتالا" في سرعة نعهدها في خيال الأدباء، ويتزوج منها في الفصل الأول ، لكنه يستدعى فجأة للعودة إلى عاصمته ؛ فيهجرها واعداً إياها حتى يعود إليها في أقرب فرصة ممكنة ، كما هومألوف في مثل هذا الموقف ؛ وينبئ رجل زاهد فتاتنا الحزينة بأن الملك سيظل يذكرها ما دامت محتفظة بالخاتم الذي أعطاه لها ، لكنها تفقد الخاتم وهي تستحم؛ ولما كانت على وشك حتى تكون أماً ، فقد إرتحلت إلى قصر الملك ، لتفهم هناك حتى الملك قد نسيها على غرار ما معهود في الرجال الذين تسخومعهم النساء ، وتحاول حتى تذكّره بنفسها.


شاكونتالا: ألا تذكر في عريشة الياسمين

ذات يوم حين صَبَبْتُ ماء المطر

الذي تجمع في كأس زهرة اللوتس

في تجويفة راحتك،يا ترى؟

الملك: امضي في قصتك إني أسمع.

شاكونتالا: وعندئذ في تلك اللحظة عينها ،

اتى نحونا يعدوطفلي الذي تبنيته ، أعني الغزال الصغير ،

اتى بعينيه الطويلتين الناعستين ؛ فقبل حتى تطفئ ظمأك.

مددت يدك بالماء لذلك المخلوق الصغير ، قائلاً:

"اشرب أنت أولاً أيها الغزال الوديع"

لكن الغزال لم يشرب من أيد لم يألفها

وأسرعت أنا فمددت إليه ماء في راحتي فشرب

في ثقة لا يشوبها فزع ، فقلت أنت مبتسماً:

"إن جميع مخلوق يثق في بني جنسه

كلاكما وليد غابة حوشية واحدة

وكلاكما يثق في زميله ، ويعهد أين يجد أمانة"

الملك: ما أحلاك وما ألطفك وما أكذبك!

أمثال هؤلاء النساء يخدعن الحمقى...

إنك لتلحظ دهاء الإناث

في شتّى أنواع المخلوقات، لكنها في النساء أكثر منها في غيرهن

إن أنثى الوقوق تهجر بيضها للأقدام تفقسها لها

وتطير هي آمنة ظافرة


هكذا لقيت "شاكونتالا" الهون ، وتحطم رجاؤها ، فحملتها معجزة إلى أجواز الفضاء حيث طارت إلى غابة أخرى فولدت هناك طفلها ، وهو"بهاراتا" العظيم الذي خط على أبنائه من بعده حتى يخوضوا معارك "الماهابهاراتا" ؛ وفي ذلك الحين ، عثر سمّاك خاتمها المفقود ، ورأى عليه اسم الملك ، فأحضره إلى "دشيانتا" (الملك) ، وعندئذ عادت إليه ذاكرته "بشاكونتالا" ، وأخذ يبحث عنها في جميع مكان ، وطار بطائرة فوق قمم الهمالايا ، وهبط بتوفيق من السماء عجيب على الصومعة التي كانت "شاكونتالا" تذوي في جوفها ، ورأى الصبيّ "بهاراتا" يلعب أمام الكوخ ، فحسد والديه قائلاً:


"آه ، ما أسعده من أب وما أسعدها من أم

يحملان وليدهما ، فيصيبهما القذر

من جسده المعفّر ؛ إنه يكنّ آمناً مطمئناً

في حجريهما ، وهوالملاذ الذي يرنوإليه-

إن براعم أسنانه البيضاء تتبدّى صغيرة

حين يفتح فمه باسماً لغير ما سبب ؛

وهويلغوبأصوات حلوة لم تتشكل بعد كلاماً...

لكنها تذيب الفؤاد أكثر مما تذيبه الألفاظ كائنة ما كانت"


وتخرج "شاكونتالا" من كوخها، فيلتمس الملك عفوها ، وتعفوعنه ، فيتخذها ملكة له ، وتنتهي المسرحية بنادىء غريب لكنه يمثل النمط الهندي المألوف:


"ألا فليعش الملوك لسعادة رعاياهم دون سواها ،

اللهم أكرم "سارسفاتي" المقدسة- منبع

الكلام وإلهة الفن المسرحي ،

أكرمها دوماً بما هوعظيم وحكيم!

اللهم يا إلهنا الأرجواني الموجود بذاتك

يا من يملأ المكان كله بنشاط حيويته ،

أنقذ روحي من عودة مقبلة إلى جسد!"


لم تتدهور المسرحية بعد "كاليداسا" لكنها لم تستطع بعدئذ حتى تنتج رواية في قوة "شاكونتالا" أو"عربة الطين" ؛ فقد خط الملك "هارشا" ثلاث مسرحيات شغلت المسرح قروناً- ذلك لوأخذنا رواية تقليدية من الممكن


أوحى بها أول أمرها إيحاء؛ وبعده بمائة عام، خط "بهافابهوتي"- وهوبرهميٌّ من برار- ثلاث مسرحيات غرامية، لا يفوقها جودة إلا مسرحيات "كاليداسا" في تاريخ المسرح الهندي؛ وكان أسلوبه- رغم ذلك- مزخرفاً غامضاً، فكان لزاماً عليه حتى يقنع بنظّارة محدودة العدد، وبالطبع قد ادّعى حتى تلك النظارة القليلة ترضيه؛ وقد خط يقول : "ألا ما أقل ما يدريه أولئك الذين يقرعوننا باللوم؛ إذا مسرحياتي لم تخط لتسليتهم، فليس بعيداً حتىقد يكون بين الناس شخص، أومن الممكن يوجد إنسان في مقبل الأيام، له ذوق شبيه بذوقي، لأن الزمان مديد والعالم فسيح الأراتى". يستحيل علينا حتى نضع الأدب المسرحي في الهند ، في منزلة واحدة مع مثيله في اليونان أوفي إنجلترا أيام اليصابات ؛ لكنه يقارن مع المسرح في الصين أواليابان فيكون له التفوق ؛ كلا لا يجوز لنا حتى نبحث في أدب الهند عما يطبع المسرح الحديث من ألوان الفن الدقيق ، فهذه الألوان عرض من أعراض الزمن ، أكثر منها حقيقة أبدية ، وربما زالت ، بل من الممكن تحولت إلى ضدها ؛ إذا الكائنات الخوارق للطبيعة ، في المسرحية الهندية غريبة على أذواقنا ، مثل "القدر" في أدب "يوربيديز" المتنور ؛ لكن هذا الجانب أيضاً عرض من أعراض التاريخ ؛ أما أوجه الضعف في المسرحية الهندية (إذا جاز لأجنبي حتى يذكرها في تردد) فهي التكلف في الصيغة اللفظية التي يشوهها تكرار الحرف الواحد ليمثل الصوت المعبَّر عنه وتفسدها الألاعيب اللفظية ، وتصوير الأشخاص بلون واحد للشخص الواحد ، فإما حتىقد يكون الشخص خيراً صرفاً ، أوحتىقد يكون شراً صرفاً ، وحبكة الحوادث حبكة لا يقبلها العقل ، مستندة إلى مصادفات لا يمكن تصديقها ؛ وإسراف في الوصف وفي النقاش حول العمل الذي يكادقد يكون بحكم التعريف الوسيلة الفريدة التي تتميز بها المسرحية في نقل ما ترغب حتى تنقله ؛ وأما حسنات المسرحية الهندية فما فيها من خيال بديع ، وعاطفة رقيقة ، وشعر مرهف ، ونداء عاطفي لما في الطبيعة من ألوان الجمال والفزع ؛ إنه لا سبيل إلى النزاع حول صور الفن القومية ، ذلك لأننا لا نستطيع حتى نحكم عليها إلا من وجهة نظرنا بما لها من لون خاص ، ثم لا نستطيع حتى نراها غالباً إلا خلال منظار الترجمة ؛ ويكفينا حتى نقول إذا "جيته" وهوأقدر الأوربيين على التسامي فوق حدود الإقليم وحواجز القومية ، قد عَدَّ قراءة "شاكونتالا" بين ما صادفه في حياته من عميق التجارب ، وخط عنها معترفاً بفضلها:

"أتريدني حتى أجمع لك في إسم واحد زهرات العام وهوفي ربيعه ناشئ ،

وثماره وهوفي خريفه ينحدر إلى فناء

وأن أجمع جميع ما عساه حتى يسحر الروح ويهزها ويغذوها ويطعمها

بل حتى أجمع الأرض والسماء نفسيهما في إسم واحد،يا ترى؟

إذن لذكرت إسمك يا "شاكونتالا" وبذكره أذكر جميع شئ دفعة واحدة".


النثر والشعر

النثر ظاهرة مستحدثة في الأدب الهندي إلى حد كبير ، ويمكن إعتباره ضرباً من الفساد اتىه من الخارج بعمل الإتصال مع الأوربيين ؛ فروح الهندي الشاعرة بطبعها ترى أنه لابد لكل شئ جدير بالكتابة عنه حتىقد يكون شعري المضمون ، يستثير في المحرر رغبة في حتى يخلع عليه صورة شعرية ؛ فمادام الهندي قد لأحس بأن الأدب تنبغي قراءته بصوت مرتفع ، وأدرك حتى نتاجه الأدبي سينتشر في الناس ويدوم بقاؤه - ذلك إذا انتشر ودام - بالرواية الشفوية لا بالكتابة فقد آثر حتى يصب إنشاءه في نطقب موزون أومضغوط في صورة الحكمة ، بحيث تسهل تلاوته ويسهل حفظه في الذاكرة ؛ ولهذا كان الأدب في الهند كله تقريبا أدبا منظوماً ؛ فالبحوث الفهمية والطبية والقانونية والفنية أغلبها مكتوب بالوزن والقافية أوبكليهما ، حتى قواعد النحوومعاني القاموس قد صيغت في نطقب الشعر ، والحكايات الخرافية والتاريخ ، وهما في الغرب يكتفيان بالنثر ، تراهما في الهند قد اتخذا نطقباً شعرياً منغماً. الأدب الهندي خصيب بالحكايات الخرافية بصفة خاصة ؛ والأرجح حتى تكون الهند مصدراً لمعظم الحكايات الخرافية التي عبرت الحدود بين أقطار العالم كأنها عملة دولية فالبوذية لقيت أوسع إنتشار لها حين كانت أساطير "جاتاكا" عن مولد بوذا ونشأته شائعة في الناس ؛ وأشهر كتاب في الهند هوالمعروف بإسم "بان كاتانترا" أي "العنوانات الخمسة" )حوالي 500 ميلادية( وهومصدر كثير من الحكايات الخرافية التي أمتعت أوروبا كما أمتعت آسيا ؛ وكتاب "هيتوباديشا" أو"النصيحة الطيبة" فيه مختارات ومقتبسات من الحكايات الموجودة في "بان كاتانترا" ، والعجيب حتى كلا الكتابين ينزلان عند الهنود- إذا ما صنّفوا خطهم- في قسم "نيتي شاسترا" ومعناها إرشادات في السياسة والأخلاق ، فكل حكاية تروى لكي تبرز عبرة خلقية ، ومبدأ من مبادئ السلوك أوالحكم، وفي معظم الحالات ينطق في هذه القصص إنها من إنشاء برهمي ابتكرها ليفهم بها أبناء ملك من الملوك ، وكثيراً ما تستخدم هذه الحكايات أحط الحيوانات للتعبير عن ألطف معاني الفلسفة ؛ فحكايات القرد الذي حاول حتى يدفئ نفسه بيراعة)وهي حشرة تضئ بالليل(وقتل الطائر الذي بصره بخطئه في ذلك ، تصوير بديع رقيق لما يصيب العالم الذي يتصدى لإرشادات الناس إلى مواضع الخطأ في عقائدهم. ولم تنجح كتابة التاريخ هناك في حتى ترتفع عن مستوى سرد الحقائق عارية ، أومستوى الخيال المزخرف ، ويجوز حتىقد يكون الهنود قد أهملوا العناية بكتابة التاريخ بحيث ينافسون بها هيرودوت ، أوثيوسيديد ، أوفلوطرخس ، أوتاسِتَسْ أوجُبن ، أوفولتير ، إما لإزدرائهم لحوادث المكان والزمان المتغيرة )وهوما يسمونه مايا وإما لإيثارهم النقل بالرواية الشفوية على المدوّنات المكتوبة ، فالتفصيلات الخاصة بتحديد الزمان أوالمكان قليلة جداً في وثائقهم ، حتى في حالة كتابهم عن رجالهم المشهورين ، لدرجة حتى فهماء الهنود قد تفاوتوا في تحديد تاريخ أعظم شعرائهم "كاليداسا" تفاوتا تراوح بين طرفي فترة طولها ألف عام ؛ إذا الهنود يعيشون- ومازالوا كذلك إلى يومنا هذا- في عالم لا يكاد يتغير فيه شئ من عادات وأخلاق وعقائد ، حتى ليوشك الهندي ألا يفكر قط في تقدم ، ويستحيل عليه حتى يعنى بالآثار القديمة ؛ فقد كانت تكفيه الملاحم تاريخاً سليم الرواية ، كما تكفيه الأساطير في تراجم الأسلاف ؛ فلما خط "أشفاغوشا" كتابه عن حياة بوذا "بوذا- شارِتا" كان أقرب إلى الأساطير منه إلى التاريخ ، وكذلك لما خط "بانا" بعد ذلك بخمسمائة عام كتابه من حياة "هارشا" (هارشا- شارِتا) كان أقرب إلى رسم صورة مثالية للملك العظيم منه إلى تقديم صورة يعتمد على صدقها وتواريخ "راجيوتانا" القومية ليست فيما يظهر إلا تمرينات في الوطنية والظاهر أنه لم يكن بين الهنود إلا محرر واحد هوالذي استوعب عمل المؤرخ بمعناه السليم وهو"كالهانا" مؤلف كتاب "راجات آرانجيني" ومعناه "تيار الملوك" ولقد عبر عن نفسه بقوله: "ليس جديرً بالإحترام إلا الشاعر الشريف العقل الذي يجعل الحدثة منه كحكم القاضي- خالية من الحب والكراهية في تسجيل الماضي" ويسميه "وِنْتَرْنِتْز": "المؤرخ العظيم الوحيد الذي أنتجته الهند".

أما المسلمون فقد كانوا أدق شعوراً بكتابة التاريخ ، وخلَّفوا لنا مدوَّنات نثرية تدعوإلى الإعجاب لما صنعوه في الهند ، وقد أسلفنا ذكر "البيروني" ودراسته البشرية وذكْر "مذكرات" "بابور" ، وكان يعاصر "أكبر" مؤرخ ممتاز هو"محمد قاسم فِرِشْتا" وكتابه "تاريخ الهند" هوأصح مرشد تستدل به على حوادث الفترة الإسلامية ؛ وأقل منه حياداً "أبوالفضل" كبير وزراء "أكبر" أوالرجل الذي كان يؤدي جميع شئون السياسة في البلاد ؛ وقد خَلَّف لأجيال المستقبل وصفاً لأساليب مولاه في إدارة البلاد ، وذلك في كتابه "عين أكبر" أو"مؤسسات أكبر الإجتماعية". وروى لنا حياة مولاه رواية تدل على حبه له حباً نغفر له ، وأطلق على كتابه هذا أسم "أكبر ناما" وقد رد له الإمبراطور حبَّه هذا حبّا مثله ، ولما اتىت الأخبار بأن "جهان كير" قد اغتال الوزير ، أخذ "أكبر" حزنٌ عميق وصاح قائلا: "إذا أراد سالم (جهان كير) حتىقد يكون حاكماً ، فقد كان يجوز له حتى يقتلني ويُبقي على أبي الفضل". وبين الحكايات الخرافية والتاريخ تقع مجموعة كبيرة في منتصف الطريق من حكايات شعرية جمعها ناظمون دءوبون ، وأرادوا بها حتى تكون متاعاً للروح الهندية المحبة للخيال ؛ ففي القرن الأول الميلادي ، نظم ناظم يدعى "جناذيا" مائة ألف زوج من الشعر أطلق عليه "برهاتكاذا" أي "مسرح الخيال العظيم" ثم أنشأ "سوماديفا" بعد ذلك بألف عام "كاذا سارتزا جارا" أي "المحيط الجامع لأنهار القصص" ، وهي قصيدة تتدفق حتى يبلغ طولها 21.500 زوج من الشعر ؛ وفي هذا القرن الحادي عشر نفسه ظهر قصاص بارع مجهول الإسم ، وأبتكر هيكلا يبنى على أعواده قصيدته "فتالا بانكا فنكاتيكا" ومعناها "القصص الخمس والعشرون عن الخفاش الجارح" ، وذلك بأن صور الملك "فكرا ماديتيا" يتلقى جميع عام ثمرة من أحد الزاهدين في جوفها حجر نفيس ، ويسأل الملك كيف من الممكن أن يمكنه حتى يعبّر عن عهدانه بالجميل فيُطلب إليه حتى يحضر "لليوجيّ" "الزاهد" جثة رجل يتدلى من المشنقة ، مع إنذاره بألا يتحدث إذا ما توجهت إليه الجثة بالخطاب ؛ لكن الجثة كان يسكنها خفاشٌ جارح أخذ يقص على الملك سيرة مضىت بلبِّ الملك فلم يشعر بنفسه وهويتعثر في طريقه. وفي نهاية السيرة توجه الخفاش بسؤال ، فأجابه الملك ناسيا ما أُنذر به من إلتزام الصمت ؛ وحاول الملك خمساً وعشرين مرة حتى يحضر الجثة للزاهد مع إلتزامه الصمت إزاء ما يصدر له منها من حديث ، ومن هذه المرات أربع وعشرون مرة كان الملك فيها مأخوذاً بالسيرة التي يرويها له الخفاش الجارح حتى ليسهوويجيب عن السؤال الذي يوجَّه إليه في الختام؛ فيالها من مشنقة بارعة أنزل منها الماتب أكثر من عشرين سيرة. لكنا في الوقت نفسه لا نقول لأن الهند قد عَدِمَتْ الشعراء الذين يقرضون الشعر بمعنى الحدثة التي نفهمها نحن ؛ فأبوالفضل يصف لنا "آلاف الشعراء" في بلاط "أكبر" ؛ وكان منهم مئات في صغرى العواصم ، ولا شك حتى جميع بيت كان يحتوي منهم على عشرات. ومن أقدم الشعراء وأعظمهم "بهارتريهاري" وهوراهب ونحويٌّ وعاشق ، غذَّى نفسه بألوان الغزل قبل حتى يرتمي في أحضان الدين ، ولقد خلَّف لنا مُدوَّناً بها من كتابه المسمى "قرن من الحب"- وهوسلسلة من مائة قصيدة تتابع على نحوما تتابع القصائد عند "هيني" ، ومما خطه لإحدى معشوقاته: "ظنَنَّا معاً قبل اليوم أنكِ كنتِ إياي ، وكنتُ أنا إياكِ ؛ فكيف وقع الآن حتى أصبحت أنتِ ، هوأنتِ وأنا هوأنا" ؛ ولم يكن يأبه لرجال النقد قائلاً لهم: "إنه من العسير حتى تُقْنع خبيراً ، لكن "الخالق نفسه" لا يستطيع حتى يرضي رجلاً ليس له من الفهم إلا نزر يسير" ؛ وفي كتاب "جيتا- جوفندا" لصاحبه "جاياديفا" ،- وعنوان الكتاب معناه "أنشودة قطيع البقر المقدس"- يتحول غَزَل الهندي إلى دين ، ويصبغ ذلك الغزل بصبغته الحب الجسدي ل"راذا" و"كرِشْنا" وهي قصيدة مليئة بالعاطفة الحية الجسدية ، لكن الهند تؤوِّلهل تأويلا مدفوعة فيه بالشعور الديني: إذ تفسرها بأنها قصيدة صوفية رمزية تعبر عن عشق الروح لله- وهوتأويل يفهمه أولئك القديسون الذين لا يهتزون للعواطف البشرية ، والذين أنشأوا من عندهم مثل هذه العنوانات التقية ل"نشيد الأنشاد".

وفي القرن الحادي عشر تسللت لهجات الحديث حتى إحتلَّتْ مكانها بدل اللغة الميتة ، لتكون أداة للتعبير الأدبي ، كما عملت في أوروبا بعد ذلك بقرن ؛ وأول شاعر عظيم استخدم اللغة الحية التي يتحدث بها الناس في نظمه هو"شاند بارداي" الذي نظم بالغة الهندية (الجارية في الحديث) قصيدة تاريخية طويلة تتألف من ستين جزءاً" ولم يمنعه من متابعة عمله هذا إلا نداء الموت ، ونظم "سور داس" شاعر "أجرا" الضرير ، 60.000 بيت من الشعر في حياة "كرِشنا" ومغامراته ، وقد قيل إذا هذا الإله نفسه قد عاونه على نظمها. بل أصبح له محرراً يخط ما يمليه عليه الشاعر ، لكنه كان اسرع في كتابته من الشاعر في إملائه، وفي ذلك الوقت عينه كا "شاندي داس"- وهوكائن فقير- يهز البنغال هزّاً بما ينشد لها من أغان شبيهة بما أنشده دانتي. يخاطب بها معشوقة ريفية على نحوما خاطب دانتي فتاته "بياترس" يصورها تصويرا مثاليا بعاطفه خياليه ، ويعلوبها حتى يجعلها رمزا للالوهيه. ويجعل حبه تمثيلا لرغبته في الإندماج في الله ؛ وهوفي الوقت نفسه كان الشاعر الذي شق الطريق لأول مرة عن طريق اللغة البنغالية فكانت بعدئذ أداة التعبير الأدبي "لقد لذت بمأمن عند قدميك يا حبيبتي ، واذا لم أرك ، ظل عقلي في قلق... وليس في وسعي نسيان رشاقتك وفتنتك- ومع ذلك ليس في نفسي شهوة إليك" ؛ ولقد حكم عليه زملاؤه البراهمة بالطرد من طائفة الكهنوت على أساس انه كان يجلب العار لعامه الناس. فقبل ان ينكر حبه ل"رامي" في إحتفال علني ؛ لكنه وهويباشر الطقوس الخاصة بذلك الإنكار ، رأى "رامي" بين الحشد المجتمع فعاد إلى نقض إنكاره ذاك وسار نحوهما وركع أمامها مشبك اليدين إعجاباً. وأنبغ شعراء الأدب المكتوب باللهجة الهندية (المتداولة في الحديث) هو"تولسي" الذي يوشك انقد يكون معاصراً لشكسبير وقد ألقاه أبواه في العراء لأنه ولد لهم تحت نجمة منحوسة؛ فتبناه متصوف في الغابة وفهمه أغاني "راما" الأسطورية ، وتزوج ، ومات إبنه ، فأنسحب إلى الغابات حيث عاش عيش التوبة والتأمل ، وهناك وكذلك في بنارس خط ملحمته الدينية "راما شارتا - ماناسا" ومعناه (بحيرة) من أعمال "راما" أخذ فيها يقص سيرة "راما" مرة أخرى، وقدمه للهند بإعتباره الإله الاسمى الذي لا إله إلا هو، يقول "تولسي داس": "ثمت إله واحد وهوراما خالق السماء والأرض ومخلص الإنسانية ... - ومن أجل عباده المخلصين جسد الله نفسه في إنسان فبعد إذا كان "راما" إلهاً صار ملكاً من البشر ، ثم من أجل تطهيرنا عاش بيننا عيش رجل من عامة الناس". ولم يستطع إلا قليل من الأوربيين قراءة ملحمته في أصلها الهندي ، المقصود هوالهندية التي كانت جاريه في الحديث ، لأنه بات اليوم قديما مهجوراً ، ولكن أحد هؤلاء القليلين الذين إستطاعوا قراءة الأصل ، من رأيه إذا تلك الملحمة تجعل "تولسي داس" (أهم شخصيه في الأدب الهندي كله) وهذه القصيدة لأهل الهندستان بمثابة إنجيل شعبي فيه ما يرجع اليه الناس من لاهوت وأخلاق ؛ ويقول غاندي: "إنني أعد "راما يانا" التي نظمها "تولسي داس" أعظم كتاب في الأدب الديني كله" ؛ وكانت بلاد الدكن في ذلك الوقت نفسه تنتج كذلك شعرا فنظم "توكارام" باللغة الماهراثيه 600 نشيد ديني تراها متداوله على الألسن في الهند اليوم تداول مزامير "داود" في اليهوديه أوالمسيحية؛ ولما ماتت زوجته الأولى تزوج ثانيه من امرأة سليطة فأصبح فيلسوفا ، وخط يقول: "ليس من العسير حتى تظفر بالخلاص ، لأنك تجد الخلاص قريبا منك في الحزمة التي تحملها على ظهرك".

وفي القرن الثاني الميلادي أصبحت "مادورا" عاصمة الأدب "التأملية" وأقيمت بها "سانجام" أي جمعية قوامها الشعراء والنقاد تحت رعاية ملوك "بانديا" فإستطاعت - مثل المجمع الفهمي الفرنسي - حتى تضبط تطور اللغة ، وأن تخلع الألقاب وتمنح الهدايا. وأنشأ "تيروفا لافار"- وهونساج من المنبوذين- أثراً أدبيا أفكاره دينية وفلسفية ، أنشأه في بحر من اعسر البحور "التأملية" وأطلق عليه إسم "كورال" فضمنه مُثُلا عليا أخلاقية وسياسية ، ويؤكد لنا الرواة أنه لما رأى أعضاء مجلس "سانجام"- وكلهم من البراهمة- مدى توفيق هذا المنبوذ في قرض الشعر أغرقوا أنفسهم عن آخرهم ، لكنا لا نصدق هذه الرواية إذا قيلت من أي مجمع فهمي مهما يكن أمره. وقد أرجأنا الحديث عن "كابر" - أعظم شاعر غنائي في الهند الوسيطة ، أرجأناه لنختم به الحديث ، ولوحتى مكانه الزمني يأتي قبل ذلك ، و"كابر" نساج ساذج من بنارس ، أعدته الطبيعة للمهمة التي أراد القيام بها ، وهي توحيد الإسلام والهندوسية ، وذلك لأنه كما ينطق من أب مسلم وأم من عذارى البراهمة ؛ فلما أخذ عليه لبه "راماناندا" الواعظ ؛ أخلص العبادة ل"راما" ووسع من نطاق "راما" (كما كان تولسي داس ليعمل) حتى جعله إلها عالمياً ، وطفق يقرض شعراً بلغة الحديث الهندية ، بلغ غاية في الجمال ، ليشرح به عقيدة دينية لاقد يكون فيها معابد ، ولا مساجد ، ولا أوثان ، ولا طبقات ، ولا ختان ، ثم لاقد يكون فيها من الآلهة إلا إله واحد ، يقول عن نفسه إذا كابر: "إبن "رام" و"الله" ويقبل ما يقوله الشيوخ جميعاً ... يا إلهي ، سواء كنت "رام" أو"الله" )المقصود إله المسلمين(فأنا أحيا بقوة اسمك... إذا أوثان الآلهة كلها لا خير فيها ، أنها لا تنطق ، لست في ذلك على شك ، لأني ناديتها بصوت عال... ماذا يجدي عليك حتى تمضمض فاك ، أوحتى تسبح بمسبحتك ، أوحتى تستحم في مجاري المياه المقدسة ، وأن هجرع في المعابد ، إذا كنت تملأ قلبك بنية الخداع وأنت تتمتم بصلاتك ، أوتسير في طريقك إلى أماكن الحج". اتى هذا القول منه صدمة قوية للبراهمة ، فلكي يدحضوه )هكذا تقول الرواية( أوفدوا إليه زانية تغويه، لكنها حولها إلى عقيدته ، ولم يكن ذلك عسيرا عليه ، لأن عقيدته لم تكن مجموعة من قواعد جامدة ، بل كانت شعوراً دينياً عميقاً فحسب:

هنالك يا أخي عالم لا تحده الحدود

وهنالك "كائن" لا أسم له ولا يوصف بوصف،

ولا يفهم عنه شيئا إلا من استطاع حتى يصل إلى سمائه؛

وإنه لفهم يختلف عن جميع ما يسمع وما ينطق ؛

هنالك لا ترى صورة ، ولا جسداً ، ولا طولاً ، ولا عرضاً

فكيف لي حتى أنبئك من هو،يا ترى؟

إن كابر يقول:

يستحيل حتى نعبر عنه بألفاظ الشفاه ،

ويستحيل حتى يخط وصفه على الورق

إن الأمر هنا كالأخرس الذي يذوق طعماً حلواً- كيف من الممكن أن يصف لك حلاوته.


وإعتنق "كابر" نظرية التناسخ الذي ملأت الجومن حوله ، ولذلك أخذ يدعوإلى الله- كما يعمل الهندوسي- ليخلصه من أغلال العودة إلى الولادة والعودة إلى الموت ، وكانت مبادئه الخلقية أبسط ما يمكن حتى تصادف في هذه الدنيا من مبادئ:

عش عيشة العدل وابحث عن السعادة عند مرفقك

إني ليضحكني حتى أسمع حتى السمك في الماء ظمآن

إنكم لا ترون "الحق" في دياركم فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم!

هاكم الحقيقة! امضىوا أين شئتم ، إلى بنارس أوإلى مأثورة

فإذا لم تجدوا أرواحكم، فالعالم زائف في أعينكم...

إلى أي الشطئان أنت سابح يا قلبي،يا ترى؟ ليس قبلك مسافر، كلا بل ليس أمامك طريق...

ليس هنالك جسم ولا عقل ، فاين المكان الذي سيطفئ غله روحك،يا ترى؟

انك لن تجد شيئا في الخلاء

تذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت،

فقدمك هناك تكون على موطئ ثابت

فكر في الأمر مليا يا قلبي! لا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر


إن "كابر" يقول:

اطرد جميع صنوف الخيال من نفسك،

وثبت قدميك فيما هوأنت.


ويقول الرواة إنه بعد موته إعهجر الهندوس والمسلمون على جسده ، وتنازعوا الرأي ، أيدفن ذلك الجسد أم يحرق ؛ وبينما هم في تنازعهم ذاك ، حمل أحد الحاضرين الغطاء عن الجثة ، فإذا بهم لا يرون تحته إلا كومه من الزهر ، فأحرق الهندوس بعض ذلك الزهر في بنارس ، ودفن المسلمون بقيته ، وأخذت أناشيده تتناقلها الأفواه بين عامه الناس بعد موته ، ولقد أوحت تلك الأناشيد إلى "ناناك" - وهومن طبقة السيخ - فأنشأ ممضىه القوي ، وحمل آخرون "كابر" إلى مصاف الآلهة ، وانك لتجد اليوم طائفتين صغيرتين متنافستين تتبعان ممضى هذا الشاعر وتعبد اسمه ؛ هذا الشاعر الذي حاول ان يوحد المسلمين والهندوس ، والطائفتان إحداهما من الهندوس والأخرى من المسلمين.


المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

تاريخ النشر: 2020-06-04 17:27:20
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, ثقافة الهند

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

فتح باب الترشيح لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات لسنة 2022

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:25:09
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 62%

المغرب يسجل 218 إصابة جديدة و4 وفيات بـ"كورونا" خلال 24 ساعة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:30
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 68%

إصابة فلسطينيين بجروح في غارات إسرائيلية على قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:39
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 55%

الرباط.. افتتاح المرآب تحت الأرضي باب شالة يوم السبت 6 غشت

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:55
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 58%

نانسي بيلوسي: أمريكا لن تسمح للصين بعزل تايوان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:25:23
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 57%

تراجع عجز السيولة البنكية في السوق النقدية إلى 93,7 مليار درهم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:35
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 66%

وزير التعليم العالي يعلن موعد بدء الدراسة في جامعة قنا الأهلية

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:26:01
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 57%

السوق الثانوي.. ارتفاع حجم التداولات إلى 14,9 مليار درهم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:43
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 59%

إصابة فلسطينيين بجروح في غارات إسرائيلية على قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:37
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

مناجم المغربية تستفيد من ارتفاع أسعار المعادن والدولار

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 21:15:22
مستوى الصحة: 34% الأهمية: 38%

بقرار ملكي.. تنظيم الدورة الـ16 لندوة ” 2022 Africa Endeavor ” بمراكش

المصدر: كِشـ24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 21:15:21
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 47%

تراجع عجز السيولة البنكية في السوق النقدية إلى 93,7 مليار درهم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:33
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 60%

المغرب يسجل 218 إصابة جديدة و4 وفيات بـ"كورونا" خلال 24 ساعة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:32
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 62%

كم مصاريف الجامعات الأهلية 2022 في مصر

المصدر: الرئيس نيوز - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:25:59
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 69%

نانسي بيلوسي: أمريكا لن تسمح للصين بعزل تايوان

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:25:22
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

الرباط.. افتتاح المرآب تحت الأرضي باب شالة يوم السبت 6 غشت

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:55
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 55%

السوق الثانوي.. ارتفاع حجم التداولات إلى 14,9 مليار درهم

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-05 18:24:41
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 54%

تحميل تطبيق المنصة العربية