هل تعهدون ما الأمر الأغرب المتعلق بالثلاثية الضخمة التي كرّسها المحرر والسياسي المصري الراحل ثروت عكاشة لفنون عصر النهضة الإيطالية،يا ترى؟ فخامة الخط الثلاثة،يا ترى؟ عدد صفحاتها،يا ترى؟ كونها تصدر بلغة وبيئة قلما احتفلتا بذلك الحيز التاريخي الجغرافي الذي تحتفي به،يا ترى؟ بل حتى بكون الثلاثية فريدة من نوعها في لغة الضاد وغير معهودة،يا ترى؟ أوكونها تسهب في الحديث عن الكاتدرائيات والرسوم والمنحوتات الدينية المسيحية في بيئة مسلمة لم يتجاوز الاهتمام بهذه الأمور نخبتها الفنية أوالفكرية،يا ترى؟ أم يا ترى فخامة وندرة الصور الأيقونية التي تشغل حيزاً كبيراً من قرابة الألفي صفحة التي يتكون منها هذا العمل النادر في عالم النشر والقراءة العربي؟. الحقيقة حتى جميع ما تجاوز يمكن حتى يشكل إجابات ممكنة عن السؤال الذي طرحناه أول هذا الكلام. لكنه ليس الجواب الشافي بالنسبة إلينا، وذلك بالتحديد لأن الجواب يوجد في مكان آخر تماماً، قد لاقد يكون مرتبطاً بكل ما ذكرناه. الجواب الذي يخطر في بالنا نحن هوحتى الطبعة التي بين أيدينا من هذه الثلاثية، والتي تعود إلى العام 2011 هي الطبعة الثالثة لكتاب كانت طبعته الأولى صدرت بدءاً من أواخر سنوات الثمانين. أجل ثلاث طبعات لكتاب بالكاد كان يمكن حتى نتصور طبعة واحدة له يباع منها بضع مئات من النسخ ليدخل بعدها المخطات العامة والمتاحف- فالكتاب بأجزائه الثلاثة جدير بهذا الدخول ومن الباب العريض-، ثم يُنسى إلا من قبل الباحثين في الموضوع وهم قلة في عالمنا العربي، كما نعتقد. لكن الواقع قلب الآية تماماً وجعل للكتاب ثلاث طبعات جميع واحدة منها أكثر فخامة وأناقة من الثانية، خلال عدد لا بأس به من السنين، ليجعل فنون عصر النهضة وضروب عمرانه وتاريخه والتحليل المسهب لعلاقة جميع تلك الأبعاد الحضارية بالظروف السياسية التي نمت في ظلها، ماثلة في ألوف البيوت والمخطات العربية. ترى، وبغض النظر عن تساؤلاتنا حول منطقية هذا الأمر في عالم القراءة العربية، هل ثمة من مصير مشابه لكتاب مشابه في البلدان «المتحضرة» نفسها في أوروبا أوأمريكا؟

> نطرح هذا السؤال من طبيعة الحال انطلاقاً من معهدتنا حتى خطاً فنية موسوعية من هذا الطراز بالكاد تعهد أسواقاً واسعة الانتشار حتى في البلدان المعنية بها بصورة مباشرة. ونكتفي هنا بهذا القدر من «المقارنة» لننتقل إلى الكتاب نفسه. ومنذ البداية لا بد من الإشارة الدالّة إلى حتى «فنون عصر النهضة» لم يكن كتاباً عارضاً في مسار مؤلفه الذي، كما نعهد، كان ضابطاً في الجيش وثائراً في حركة 52 المصرية ثم سفيراً لبلاده في روما بعد مناصب ديبلوماسية أخرى في باريس وغيرها، ومن ثم وزيراً للثقافة، ومناضلاً في سبيل إدخال مصر زمن العالم وإنقاذ آثارها، ومع هذا لا تشغل الألفا صفحة من البتر الموسوعي الكبير جداً التي يتألف منها هذا العمل، سوى جزء سهل من نتاج، يشرح فيه المحرر ويحلل ويستعرض مسيرة الإبداع الإنساني من مسار كتابي تضم لائحته عشرات الخط والموسوعات المؤلفة والمترجمة التي يتوجها مشروع «العين تسمع والأذن ترى» الذي يتألف من نحوعشرين مجلداً ضخماً يشرح فيها المؤلف ويحلل ويستعرض تاريخ الإبداع الإنساني بدءاً بالفنون الفرعونية والسومرية وصولاً إلى القرن العشرين مروراً بالفنون الإسلامية والهندية و... طبعاً فنون عصر النهضة في المجلدات الثلاثة التي نتحدث عنها هنا.

> طبعاً لا يمكن هذه العجالة هنا حتى تقف عند تفاصيل هذا العمل الموسوعي الضخم، بل إذا السرد الكتابي عاجز عن هذا أصلاً، بالنظر إلى حتى الثلاثية ليست مجرد سرد تاريخي لما وقع في العصر النهضوي، بل هي تمر، فصلاً بعد فصل، وصفحة بعد صفحة، كشريط سينمائي تتضافر فيه الحدثة مع الصورة - وأحياناً مع صور كبيرة مطوية في ثنايا الكتاب-، لتقدم ذلك المشهد البانورامي الذي يحتفل بالمعماريين، ولا سيما من خلال تشريح إنجازاتهم في مجال تشييد الكاتدرائيات والقصور والمباني العامة والخاصة، كما يحتفل بالنحاتين متوقفاً عند البارزين منهم شارحاً أسرار منحوتاتهم رابطاً إياها بحركية المجتمع، خالصاً في نهاية المطاف إلى الرسامين الذين هم دائماً الأشهر والأكثر شعبية، والذين من طريق أعمالهم تمت تلك النقلة المدهشة، تحديداً خلال القرون التي يتناولها عمل ثروت عكاشة، من إنجاز اللوحات للكنائس والقصور إلى حقبة باتت فيها اللوحات أكثر دنيوية وإنسانية.

يدرس ثروت عكاشة جميع تلك الإبداعات ويتوقف عند تلك المتغيّرات، التي يعتبرها أساسية في تاريخ المجتمعات وليس فقط في تاريخ الفنون، قاسماً ثلاثيته إلى ثلاث حقب أساسية يعرّفها بالتيارات الفنية التي سادت فيها تباعاً: الرينيسانس والباروك والريكوكو. وهوفي هذا الإطار لا يفوته حتى يربط جميع «تيار» بالظروف التاريخية والاجتماعية، وربما أحياناً السياسية، التي وُلد في ظلها. وهوما يجعل الكتاب في الآن نفسه، نوعاً من تاريخ اجتماعي لأوروبا يتجاوز الحيز الإيطالي الذي يتناوله أساساً لنراه يعرّج على فرنسا وألمانيا والشمال الأوروبي شارحاً مستعرضاً محللاً. ولا يضير هذا السِفر هنا حتى يبدو، على سبيل المثال، متناغماً، إذا لم نقل شبيهاً بعملين أوروبيين يتناولان الموضوع والحقبة نفسيهما، كتاب السويسري يعقوب رينهاردت عن عصر النهضة، وكتاب جورجيوفازاري الإيطالي عن حياة رسامي النهضة. سليم حتى عكاشة يستند كثيراً إلى هذين المرجعين الأساسيين، كما يعمل جميع مؤرخي الفنون والحضارات الذين يغوصون في هذا المجال، ولا سيما منذ القرن التاسع عشر، غير حتى ما يميز عكاشة، ويقربه أكثر من إنجازات «مثله الأعلى» أندريه مالروالأديب ومؤرخ الفن الفرنسي الذي كان صديقاً له كما كان، مثله وزيراً للثقافة في فرنسا الجنرال شارل ديغول في الحقبة التاريخية نفسها تقريباً، هوإطلالته الشخصية ونظرته الذاتية كمحرر عربي مسلم يعلن انفتاحه على حضارة الآخر وتفهّمه لها، من دون حتى ينسى جذوره. ومن هنا تتميز نظرته إلى الحضارة الإيطالية والأوروبية في شكل عام، بتلك الأصالة الشرقية كما بتلك الموسوعية التي كثيراً ما عُهدت في الكتابة التراثية العربية. فبعد جميع شيء، كان ثروت عكاشة يعهد أنه إنما يخط لقارئه العربي، ما يصعّب مهمته ويجعلها أكثر رهافة ودقة. ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى أنه كسب رهانه، وما المقروئية الواسعة التي حظي بها الكتاب سوى خير مرشد على هذا.

> مهما يكن، وكما أشرنا قبل سطور، لا بد من التأكيد مرة أخرى هنا، على أنه لئن كان ثروت عكاشة قد استعرض في أجزاء كتابه حياة وأعمال أصحاب تلك الأسماء الكبيرة في الفنون النهضوية رابطاً إياها بالظروف التاريخية التي أنتجت في ظلها، فإن ما نتج من هذا كله إنما هوتاريخ يحدد المؤلف صورته الإجمالية في المقدمات الوافية التي جعلها لكل جزء من الأجزاء والتي استعرض فيها الأوضاع السياسية في جميع جزء من ذلك الحيز الجغرافي التاريخي، من صراع وحروب وضروب تنافس اقتصادي، غير ناسٍ العلاقات التي كانت حواضر العالم الأوروبي، والإيطالي بصورة خاصة، تقيمها مع مناطق شرق المتوسط، أي المناطق العربية، تناحراً أوتجارة أوما بين هذا وذاك، متوقفاً عند التأثيرات والمؤثرات المتنوعة، ودائماً من منطلق وحدة الوجود الإنساني. وهوعلى أي حال المنطلق الذي حكم أصلاً مشروعه الضخم والذي يمكن اعتباره بعد جميع شيء واحدا ًمن أكبر وأهم المشاريع الفكرية الحضارية التي أنتجها فرد عربي - بل حتى مجموعة من الأفراد أوالمؤسسات العربية - في القرن العشرين وربما في الأزمان كافة. وقد يحق لنا حتى ننطلق من هذا التأكيد لنتساءل اليوم وبعد سنوات من رحيل ثروت عكاشة، وخارج إطار أولئك الألوف من الأفراد الذين يقتنون خطه ويفخرون باقتنائها وربما قراءتها، عما قدمناه نحن لهذا المفكر الكبير، ولماذا تراه مغيباً اليوم عن حياتنا الفكرية، ولا سيما التلفزيونية العربية، بدلاً من حتى تحضر فيها أعماله في شكل أوآخر، تلك الأعمال التي يمكن من خلالها مقارعة أفكار التطرّف وكراهية الآخر والغياب عن العصر والغربة عن العالم.

> من المؤكد حتى في الأكثر من ستين عملاً كتابياً إبداعياً أنجزها ثروت عكاشة خلال حياته، وعلى رغم مهماته السياسية والثقافية الهائلة، والصراعات والمعارك التي اضطر لخوضها في جميع مهمة قام بها، في هذه الأعمال خميرة مدهشة لعشرات الأعمال الإبداعية التي يمكن حتى تنطلق منها لتصب في مستقبل عربي يلوح لنا دائماً أنه قابل لذلك على رغم جميع شيء... فهل من مستجيب؟

الهامش