باروخ سپينوزا

عودة للموسوعة

باروخ سپينوزا

باروخ سپينوزا
Benedictus de Spinoza
وُلـِد 24 نوفمبر، 1632 (أمستردام, هولندا)
توفي 21 فبراير، 1677 (لاهاي, هولندا)
العصر فلسفة القرن السابع عشر
المنطقة فلسفة غربية
المدرسة Rationalism، مؤسس السپينوزية
الاهتمامات الرئيسية
الأخلاق، نظرية الفهم، ميتافيزيقا
الأفكار البارزة
Pantheism, neutral monism, حرية فكرية ودينية/ فصل الكنيسة والدولة، نقد فكرة حتى موسى هومن خط بعض خط التوراة، المجتمع السياسي مشتق من السلطة، وليس عقداً

باروخ دي سپينوزا (و.24 نوفمبر 1632 - 21 فبراير 1677) فيلسوف هولندي من أبرز فلاسفة القرن 17. ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام، وتوفي في 21 فبراير 1677.

حياته

Spinoza's house in Rijnsburg from 1661-3, now a museum
Study room of Spinoza

ولد سبينورزا في عام 1632م في أمستردام، هولندا، عن عائلة برتغالية من أصل يهودي تنتمي إلى طائفة المارنيين. كان والده تاجرا ناجحا ولكنه متزمت للدين اليهودي، فكانت تربية باروخ أورثودوكسية، ولكن طبيعته الناقدة والمتعطّشة للمعلرفة وضعته في صراع مع المجتمع اليهودي. تفهم العبرية والتلمود في يشيڤا (مدرسة يهودية) من 1639 حتى 1650م. في آخر دراسته خط تعليقا على التلمود. وفي صيف 1656 نُبذ سبينوزا من أهله ومن الجالية اليهودية في أمستردام بسبب إدّعائه حتى الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية هي تعبير عن استعارات ومجازات غايتها حتى تعرّف بطبيعةاللهّ. بعد ذلك بوقت قصير حاول أحد المتعصبين للدين طعنه. من 1656 حتى 1660 اِشتغل كنظّارتي لكسب قوته. ثم من 1660 حتى 1663 اسّس حلقة فكر من أصدقاء له وخط نصوصه الأولى. من 1663 حتى 1670 أقام في بوسبرج وثم بعد نشر كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة سنة 1670 مضى ليستقرّ في لاهاي حيث اِشتغل كمستشار سرّي لجون دوويت. في سنة 1676 تلقّى زيارة من الفيلسوف الألماني "لايبنيتز". توفّي سبينوزا في 21 أبريل 1677.

كان أبوه من التجار الناجحين، يرجولابنه حتىقد يكون رجلا ناجحا من رجال الدين، ولكن باروخ ـ وهواسم عبرى معناه المبارك ـ كان أشد كلفا بالحقيقة منه بالنجاح. وأدى به بحثه عن الحق إلى مسالك وعرة، تبعد عن الدين، وتبعد غاية البعد عن عالم المال والعقائد. لقد وقف في طفولته أمام قبر ((اريل اكستا)) ذلك اليهودى المتشكل الذى نبذه بنوجلدته علنا لأنه ألحد، فوضع لحيلته حدا، متأثرا بما لحق من خزى أمام الملأ. فيخلف ذلك المشهد في نفس أسبينوزا أعمق الأثر.. فيتسائل ماذا يفرق الناس شيعا في الفكر، فيصب بعضهم العذاب على بعض من أثر هذه الفرقة؟. وفى هذا اليوم بالذات كرس الصبى اليهودى نفسه لحياة البحث، دون حتى يدرى معنى ذلك حق الدراية.

فلما كبر توفر على دراستة التوراة والتلمود وشعر القدامى وفهم المحدثين. وتوفر بنوع خاص على تعمق ما ساد عصره من الآراء الفلسفية العظيمة. فسلط ضوء عقله الناقد المحلل على الميتافيزيقا الخلقية التى شاهدها الفلاسفة اليهود من أمثال فيلووابن ميمون، ليفى بن جرسون وابن جبرول وحسداى. وسلطه كذلك على الأخلاق الميتافيزيقية للفلاسفة من غير اليهود، كأفلاطون وأرسطووأبيفور وجيودانوبرنووديكارت. وشاء حتى يوسع آفاق بحثه في فلسفة غير اليهود فدرس اللاتينية على الأستاذ الهولندى ((فان دى اندى)) وهوفقيه لغوى لامع، وهومتشكك ثائر.

وقد اصطدم أسبينوزا بالطائفة اليهودية التى أفزعها جرأته في المسائل الدينية وتحديه لتراثها الروحى، وحاولت استمالته إليها، أوعلى الأقل منعه من انتقها جهرا، ثم جربت سلاح الإرهاب، ولما لم يفلح معه هذا كله، أصدرت في عام 1656 قرارها بطرده من الطائفة وتوقيع عقوبة التحريم على ((التجديف الشنيع الذى يمارسه ويفهمه)) ولم يكترث أسبيينوزا بهذه العقوبة بل يظهر أنه رحب بها، بدليل أنه بادر إلى تغيير اسمه العبرى ((باروخ)) إلى لقاءة اللاتينى ((بنديكتوس)). ومن الجدير بالذكر حتى أسبينوزا بعد طرده من الطائفة اليهودية لم يحاول حتى ينضم إلى طائفة أخرى، ومعنى ذلك انه ظل منذ ذلك الحين حتى وفاته دون حتىقد يكون منتميا من الوجهة الرسمية إلى أية عقيدة، ولاشك حتى تلك كانت حالة فريدة بين جميع فلاسفة العصر الحديث.

وكان من أثر قرار الطرد والحرمان حتى تبرأ منه أبوه. ولما توفي الأب بعد ذلك، أردات أخته ان تحرمه حقه في تراث أبيه، ودافع أسبينوزا أمام القضاء، وحكم له، ثم هبط عن ميراثه لأخته. فهولا يبغى المال، وإنما إقرار العدل. فما أتفه صالحه الشخصى في مسرحية الحياة التى يحاول الظهور على غوامضها.

وسعيا لتحقيق هذه الغاية آوى إلى حجرة علوية في ((أوتراك)) من ضواحى أمستردام واحترف صقل العدسات ليصيب عيشه، واشتغل بالفلسفة، وجعل منها رسالة حياته. وكان هذا يتفق مع تنطقيد أسلافه. فالمفهمون العبرانيون الأوائل كانوا يؤثرون ان يتفهم المرء حرفة يدوية من حيث هى ضرورة من ضروريات التوفر على حياة الفهم. فعندهم ان الفهم أسمى من حتى يكتسب به. وكانوا يقولون: ((اشغل يديك ببضاعة الأرض، ورأسك ببضاعة السماء)). وكان كهؤلاء المدرسين القدامى يمضى ممضى علية القوم في الإيمان بهواية الرياضة.. ولكن هوايته كانت رياضة العقل لا رياضة العضل.

لذلك عاش في حجرته في أعلى المنزل، يصقل العدسات، ويهب فراغه للتفكير، ويخط عن سر الله ومعنى الحياة. ولما بلغ الثامنة والعشرين انتقل إلى ((رينسبرج)) القرية من ((ليون)) واعتكف فيها، كأنه دودة القز في الشرنقة. فهوقلما يخرج لغير النزهة أة شراء طعامه.


فكره

The opening page of Spinoza's magnum opus, Ethics

عهد فلاسفة العرب واليهود ومؤلفات ديكارت وخط "منطقة في إصلاح الإدراك" (1662). صدر له أثناء حياته "مبادىء فلسفة ديكارت" 1664 و"كنطقة في الللاهوت والسياسة" 1670 . امتاز باستقامة اخلاقه وخطّ لنفسه نهجاٍ فلسفيّاٍ يعتبر أنّ الخير الأسمىقد يكون في "فرح الفهم" اي في "اتّحاد الروح بالطبيعة الكاملة". واللّه في نظره جملة صفات لا حدّ لها نعهد منها الفكر وهممكانية.ويرى أنّ أهواء الإنسان الدينيةّ والسياسيّة هي سبب بقائه في حالة العبوديّة.

نص كتاب فهم الاخلاق انقر على الصورة للمطالعة

وظف فكرة "الحق الطبيعي" لقد ألف هذا الفيلسوف كتاباً مهماً بعنوان "رسالة في اللاهوت والسياسة"، شرح مضمونها بقوله: وفيها تتم البرهنة على حتى حرية التفلسف لا تمثل خطراً على التقوى (الدين) أوعلى سلامة الدولة، بل إذا في القضاء عليها قضاءً على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد.

الهرطيق الصغير

Tractatus Theologico-Politicus

إن هذه الشخصية الغريبة المحببة التي بذلت في التاريخ الحديث أجرأ محاولة للعثور على فلسفة يمكن حتى تحل محل عقيدة دينية ذائعة، ولدت في أمستردام في 24 نوفمبر 1632. ويمكن تتبع أسلافه إلى مدينة سبينوزا بالقرب من برجوس في مقاطعة ليون الأسبانية. وكانوا يهوداً، ثم ارتدوا إلى المسيحية فكان منهم الفهماء والقساوسة، وكان منهم كاردينال دييجو، كبير المحققين يوماً(1). وهاجر جزء من الأسرة إلى البرتغال، والمفروض أنهم لجئوا إلى الهجرة هرباً من محاكم التفتيش الأسبانية. وبعد فترة من الإقامة هناك في فيديجويرا بالقرب من باجه، انتقل جد الفيلسوف ووالده إلى نانت في فرنسا. ومنها في 1593 إلى أمستردام، كانا من أوائل اليهود الذين استوطنوا هذه المدينة، تلهفاً على التمتع بالحرية الدينية التي كفلها "اتحاد أوترخت" في 1579. وما اتىت سنة 1628 حتى أعتبر الجد زعيم الجالية الصفردية "اليهودية" في أمستردام، وكان الوالد في فترات مختلفة ناظراً للمدرسة اليهودية، ورئيساً لصندوق الصدقات المنتظمة للجالية اليهودية البرتغالية. وقدمت الأم: حنه ديبورا دي سبينوزا من لشبونه إلى أمستردام. وماتت عندما كان ابنها باروخ في السادسة من عمره. وأورثته السل. وتولى تربيته والده زوجة ثالثة. ولما كانت لفظة باروخ تعنى في العبرية "المبارك" فقد سمي الصبي فيما بعد "بندكت" في الوثائق الرسمية اللاتينية.

وفي مدرسة الجالية اليهودية تلقى باروخ التعليم الديني المألوف المبنى على التوراة والتلمود، كما تلقى بعض الدراسات للفلاسفة الحبرانيين وعلى الأخص إبراهام بن عزرا، وموسى بن ميمون وهاسداي كرسا، وربما كان إلى جانب هذا بعض إطلاع يسير على "القبالة" وكان من بين أساتذته من ذوي المكانة العالية والمقدرة في الجالية: شاءول مورتيرا، ومنشه بن إسرائيل.وتلقى باروخ، بالإسبانية خارج المدرسة، قدراً لا بأس به من العلوم الدنيوية، لأن والده رغب حتى يعده ليكون رجل أعمال. وبالإضافة إلى اللغتين الإسبانية والعبرية تفهم البرتغالية والهولندية واللاتينية مع قدر يسير من الإيطالية والفرنسية فيما بعد. ونما في نفسه ولع بالرياضيات. وجعل الهندسة المثل الأعلى لمنهجه الفلسفي والفكري.

وكان طبيعياً حتى شاباً بمثل هذا الذهن المتوقد بشكل فذ حتى يثير بعض المشاكل حول النظريات والمبادئ التي تلقاها في المدرسة اليهودية، بل أنه من الممكن سمع في تلك المدرسة عن هرطقات عبرية. وكان ابن عزرا قد أشار منذ أمد طويل إلى الصعاب التي تنطوي عليها نسبة الأجزاء المتأخرة من أسفار موسى الخمسة إليه. وكان أتباع ابن ميمون قد اقترحوا تفسيراً مجازياً لغير هذه الأجزاء من الكتاب المقدس(2). وأثاروا شيئاً من الشكوك حول الخلود الشخصي(3)، وحول الخلق باعتباره مناقضاً لأزلية العالم(4). وكان كريسكاسي قد نسب الامتداد إلى الله، واستنكر جميع المحاولات التي قامت لتثبت بالعقل حرية الإرادة وبقاء الروح بعد الموت، بل حتى وجود الله. وبالإضافة إلى هؤلاء اليهود التقليديين إلى حد كبير، لا بد حتى سبينوزا قرأ ليفي بن جيرسون الذي كان قد هبط بمعجزات الكتاب المقدس إلى مجرد مسببات طبيعية، وأخضع الإيمان للعقل قائلاً "أن التوراة لا يمكن حتى تحول دون حتى نعتبر حقاً جميع ما يستحثنا عقلنا على حتى نؤمن به أونصدقه(5)" وحديثاً جداً في جالية أمستردام اليهودية هذه، كان أوريل أكوستا قد تحدى الاعتقاد في الخلود، فحز في نفسه إصدار حكم الحرمان عقاباً له وأطلق النار على نفسه (1647). ولا بد حتى الذكرى الغامضة لهذه المأساة زادت من حدة الثورة التي تعتمل في ذهن سبينوزا حين أحس بأن لاهوت عشيرته وأسرته العتيد يفلت منه.

ومات أبوه في 1654. وطالبت أخت له بكل الضيعة والثروة، فقاضاها سبينوزا أمام المحكمة وكسب القضية، ثم عاد ونزل لها عن جميع الهجرة إلا سريراً واحداً. واعتمد الآن على نفسه فكسب عيشه بالاشتغال بشحذ العدسات وصقلها من أجل النظارات والمجهر والمقراب. وبالإضافة إلى القيام بتعليم بعض تلاميذ خصوصيين اشتغل بالتدريس في مدرسة فرانس فان دن اند اللاتينية، وهويسوعي سابق، حر التفكير محرر روائي ثائر . وهناك أتقن سبينوزا اللاتينية، وربما حفزه فان دن اند إلى كراسة ديكارت وبيكون وهوبز، وربما أطلع الآن على "المجموعة اللاهوتية" لتوما الأكويني. ويبدوأنه سقط في غرام مع ابنة الناظر التي آثرت خطيباً أكثر ثراء، ومبلغ فهمنا حتى سبينوزا لم يخط خطوة أخرى نحوالزواج.

وكان في تلك الأثناء قد بدأ بفقد إيمانه. ويحتمل أنه قبل سن العشرين، وبكل الألم والذعر اللذين تجلبهما التغيرات في مثل هذه السن إلى الأرواح المرهفة الحس، كان قد قامر ببعض الأفكار المثيرة-أن المادة قد تكون جسم الله، وقد تكون الملائكة أوهام الخيال، وأن الكتاب المقدس لم يذكر شيئاً عن الخلود، وأن النفس متماثلة مع الحياة(7). وربما احتفظ بهذه الهرطقات المغرورة لنفسه لوحتى أباه بقي على قيد الحياة، بل من الممكن التزم الصمت حتى بعد موت أبيه، لولا حتى بعض أصدقائه أزعجوه بالأسئلة، وبعد كثير من التردد اعترف لهم باهتزازات عقيدته وإيمانه، فوشوا به إلى الكنيس.

وينبغي ألا يغيب عن الأذهان ما كثرت الإشارة إليه من حتى زعماء الجالية اليهودية في أمستردام كانوا يجدون حرجاً في معالجة الهرطقات التي تهاجم أساسيات المسيحية واليهودية على حد سواء. حتى اليهود في الجمهورية الهولندية نعموا بتسامح ديني أنكرته عليهم سائر الأقطار المسيحية، ولكن كان من الميسور حرمانهم منه، إذا تسامحوا فيما بينهم في أفكار تزعزع الأساس الديني للأخلاق والنظام الاجتماعي.. وطبقاً لما اتى في سيرة حيان سبينوزا التي خطها في السنة التي توفي فيها أحد اللاجئين الفرنسيين في هولندا، وهوجين مكسميليان لوكاس، وأضاف الطلبة الذي أبلغوا عن شكوك باروخ-أضافوا كذباً وبهتاناً اتهامه بأنه أبدى احتقاره للشعب اليهودي لاعتقاده بأنه شعب الله المختار بصفة خاصة وأن الله هومؤلف شريعة موسى(8). ولسنا ندري إلى أي حد يمكن تصديق هذا الكلام. وعلى أية حال، فلا بد حتى زعماء اليهود كرهوا أي تمزق في العقيدة التي كانت في ذروة القوة كما كانت معيناً لا ينضب من العزاء والسلوى لليهود طوال قرون الشقاء المرير. واستدعى الأحبار سبينوزا وسلقوه بألسنة حداد لأنه خيب الآمال الكبار التي كان مفهموه قد عقدوها على مستقبله في الجالية اليهودية وكان أحد هؤلاء المفهمين، وهومشنه بن إسرائيل، متغيباً في لندن. أما المفهم الآخر، وهوشاءول مورتيرا، فقد توسل إلى الشاب حتى يتخلى عن هرطقاته. وإنصافاً للأحبار، يجدر بنا حتى نذكر حتى لوكاس، برغم تعاطفه الشديد مع سبينوزا يسجل أنه عندما استرجع مورتيرا ذكرى العناية الفائقة التي أولاها تلميذه الأثير لديه في تعليمه اللغة العبرية، "رد باروخ بأنه يسعده الآن، لقاء ما بذله مفهمه مورتيرا من جهد، حتى يفهمه كيف من الممكن أن يصدر قرار الحرم (الحرمان الديني)(9)" ويبدوهذا منافياً إلى أبعد حد لما نسمع عن طباع سبينوزا، ولكن ينبغي ألا نهجر لعواطفنا اختيار الدليل، (وخلافاً لما نطق شيشرون) يندر حتىقد يكون ثمة شيء بالغ غاية الحمق إلا أمكنك حتى تجده في حياة الفلاسفة.

وقيل حتى زعماء الكنيس عرضوا على سبينوزا معاشاً سنوياً قدره ألف جولدن إذا هووعد ألا يتخذ خطوة عدائية ضد اليهودية، وحضر إلى الكنيس من وقت لآخر(10)، ويبدوحتى الأحبار أصدروا ضده في بداية الأمر قرار "الحرم الأصغر" فقط، وهومجرد حرمانه من الاتصال بالجالية اليهودية لمدة ثلاثين يوماً فقط(11). وقيل أنه قبل هذا الحكم عن طيب خاطر قائلاً "حسناً، إنهم أرغموني على ألا أعمل شيئاً ما كنت لأعمله بمحض إرادتي(12)"، وربما كان بالعمل يعيش آنذاك خارج الحي اليهودي بالمدينة. وحاول أحد المتعصبين حتى يقتله، ولكن السلاح لم يصب إلا سترته. وفي 24 يوليه 1656 أعربت السلطات الدينية والمدنية في الجالية اليهودية من فوق منبر الكنيس البرتغالي، في مهابة وكآبة، "الحرم التام" لباروخ سبينوزا، بما يقترن بذلك من اللعنات والمحظورات المعتادة: ألا يتحدث إليه أحد ولا يخط إليه، ولا يؤدى له أية خدمة، ولا يقرأ كتاباته، أويقترب منه على مسافة أربعة أذرع(13). وقصد مورتيرا إلى السلطات الرسمية في أمستردام، وأبلغها بالاتهامات وقرار الحكم، وطلب إليها طرد سبينوزا من المدينة، فأصدرت حكمها بنفي سبينوزا لبضعة أشهر(14)، فمضى إلى قرية أودركيرك القريبة، ولكنه سرعان ما عاد إلى أمستردام.

وأكسبته معهدته باللاتينية عدة صداقات في دائرة محدودة من الطلبة تزعمهم لودفيك ميير وسيمون دي فريس، وكان ميير حاصلاً على درجات جامعية في الفلسفة والطب، ونشر في 1666 "فلسفة تفسير الأسفار المقدسة". وفيه أخضع الكتاب المقدس للعقل. وربما عكس هذا الكتاب آراء سبينوزا-أوأثر عليها. أما دي فريس فكان تاجراً ثرياً ناجحاَ، شديد الولع بسبينوزا إلى حد أنه رغب في منحه ألفي فلورين ولكن الفيلسوف أبى. فلما أحس التاجر بدنوالأجل (1667) وكان غير متزوج، فإنه عرض حتىقد يكون سبينوزا وريثاً، ولكنه أقنعه بأن يهجر جميع ثروته لأخ له. وقدم الأخ الشكور المعترف بجميل سبينوزا منحة سنوية قدرها 500 فلورين، ولكن سبينوزا اكتفى بثلاثمائة(15). وخط صديق آخر من أمستردام، هوجوهان بوفميستر إليه "أحبني لأني أحبك من جميع قلبي"(16). وإلى جانب الفلسفة كانت الصداقة هي الأساس الرئيسي في دعم حياة سبينوزا. وخط في إحدى رسائله:- من بين جميع الأمور التي فوق طاقتي لا أقدر شيئاً أكثر من تقديري لأنقد يكون لي شرف عقد أواصر الصداقة مع أناس يحبون الحقيقة في إخلاص، فإنه من بين الأمور التي فوق طاقتنا، ليس في العالم شيء يمكن حتى نحبه في هدوء إلا مثل هؤلاء الرجال(17).

ولم يكن سبينوزا منعزلاً متقشفاً زاهداً جميع العزلة والتقشف والزهد، بل أنه استحسن "جيد الطعام والشراب، والتمتع بالجمال وتربية الأزهار والاستماع إلى الموسيقى والتردد على المسرح(18)" وفي إحدى هذه الزيارات كانت محاولة قتله. وكان عليه حتى يظل يخشى اغتياله. ونقشت على خاتمه حدثة واحدة "حذار 19" ولكنه أحب، أكثر كثيراً من تلك المتع والتسلية، بل حتى أكثر من الصداقات، أحب العزلة والدراسة وهدوء الحياة البسيطة. ويقول بيل: "إن زيارات أصدقائه له كانت تفسد عليه تأملاته كثيراً(20)". ومن أجل هجر أمستردام ليقيم في قرية هادئة "وينزبرج"-(مدينة على الراين)-على مسافة ستة أميال من ليدن. واتخذت شيعة من أتباع ابن ميمون (وهي تشبه الكويكرز) مقراً لها في تلك القرية. ولقي سبينوزا ترحيباً بين إحدى أسرات هذه الجماعة.

وفي هذا المنزل المتواضع، الذي يحتفظون به الآن باعتباره "متحف سبينوزا" خط الفيلسوف عدة رسائل صغيرة والجزء الأول من "الأخلاق". وفي 1622 خط "رسالة موجزة عن الله والإنسان وسعادته:، ولكنها كانت إلى حد كبير انعكاساً لديكارت. والأكثر منها إمتاعاً وتشويقاً رسالته عن "إصلاح العقل" التي طرحت جانباً دون إتمامها في تلك السنة نفسها. وأنا لنجد في صفحاتها الأربعين عرضاً مسبقاً لفلسفة سبينوزا. وأنا لنحس من أول تعبير فيها وحشة الرجل المنبوذ من المجتمع. بعد حتى فهمتني التجربة حتى جميع الأمور التي يكثر وقوعها في الحياة العادية عقيمة غير ذات جدوى، وحين رأيت حتى جميع الأمور التي كنت أخشاها، والتي خوفتني، ليس فيها في حد ذاتها شيء حسن أوسيئ إلا بقدر ما يتأثر الذهن بها، فإني اعتزمت آخر الأمر حتى أتحرى هل يمكن حتى يوجد شيء حسن حقاً، وقادر على حتى ينقل حسنه وخيره، ويمكن حتى يتأثر به الذهن إلى حد استبعاد سائر الأمور.

وأحس سبينوزا بأنه لا الثراء ولا الشهرة ولا الملذات الجسمية يمكن حتى تعمل هذا، وغالباً ما يختلط الاهتياج والأسى بهذه المباهج"، وليس إلا حب شيء خالد لا متناه هوالذي يغذي الذهن باللذة والمتعة.... مجردة من جميع ألم(21)، وربما أمكن حتى يخط هذا بقلم توماس كمبيس أوجاكوب يوم، والحق إنه بقي دائماً في سبينوزا إثارة أوحالة من التصوف من الممكن اتىته من القبالة، والآن غذتها عزلته وزادتها قوة، حتى الخير الخالد اللامتناهي "في ذهنه يمكن حتى يسمى "الله" ولكن فقط في تعريف سبينوزا الأخير للإله باعتباره ذا طبيعة لها قدرتها الخلاقة وقوانينها. ويقول كتاب "إصلاح العقل": "الخير الأعظم هوفهم اتحاد الذهن مع الطبيعة بأسرها...

وحدثا زاد الذهن فهماً لنظام الطبيعة، ازدادت قدرته على التحرر من الأمور العقيمة غير المجدية(22)". وهنا نجد أول التعبير لسبينوزا عن "الحب العقلي لله"-التوفيق بين الفرد وبين طبيعة الأمور وقوانين الكون. وهذه الرسالة البليغة الموجزة تبين كذلك هدف تفكير سبينوزا وفهمه للفهم والفلسفة"، بودي حتى أوجه جميع العلوم إلى وجهة واحدة أوغاية واحدة بالذات، الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الكمال الإنساني، ومن ثم ينبغي نبذ أي شيء في العلوم بلا يسعى لهذه الغاية، باعتباره عقيماً غير مجد(23)". وهنا نجد اتجاهاً مختلفاً جميع الاختلاف عما سمعنا من فرانسيس بيكون، حتى تقدم العلومقد يكون وهماً وخداعاً إذا أدت إلى مجرد زيادة سيطرة الإنسان على الأمور، دون تحسين أخلاقه ورغباته. وهذا هوالسبب في تسمية "تحفة" الفلسفة الحديثة "بالأخلاق" على الرغم من مقدمتها الميتافيزقية الطويلة، وأن كثيراً منها يفترض أن يحلل استرقاق رغبات الإنسان له، ونحرره عن طريق العقل.


اللاهوت والسياسة

ترامى إلى أسماع الطلبة الشبان الذين هجرهم سبينوزا وراءه في أمستردام، أنه كان قد شرع، من أجل تلميذ في راينزبرج، في ترجمة هندسية لكتاب ديكارت "المبادئ الفلسفية". وألحوا عليه في إكمالها وإرسالها إليهم، فعمل، ودفعوا هم نفقات طبعها (1663) بعنوان "عرض المبادئ الفلسفية لديكارت على أساس هندسي". ويهمنا حتى نذكر عنها ثلاث نقاط: أنها عبرت عن آراء ديكارت (في الإرادة الحرة مثلاً) لا عن آراء سبينوزا، وأنها الكتاب الوحيد الذي طبع في حياة سبينوزا حاملاً اسمه. وأنه في جزء ملحق بها "تفكير ميتافيزيقي"، نطق سبينوزا بأن الزمن ليس حقيقة موضوعية بل كيفية تفكير(24)، وهذا واحد من عناصر "كانت" في فلسفة سبينوزا.

وكسب سبينوزا في راينزبرج أصدقاء جدد، فقد تعهد عليه هناك عالم التشريح العظيم ستينو. وكان هنري أولدنبرج عضوالجمعية الملكية قاصداً إلى ليدن 1661، فحاد عن طريقه المرسوم ليزور سبينوزا، وكان لذلك سقط شديد في نفسه، ولدى عودته إلى لندن بدأت مراسلات طويلة بينه وبين الفيلسوف الذي لم تكن مؤلفاته قد طبعت بعد، بيد أنه كان ذا شهرة واسعة. وثمة صديق آخر من رايزنبرج أورليان كورباج، استدعي للمثول أمام إحدى محاكم أمستردام (1668) بتهمة دأبه على معارضة اللاهوت السائد، وسعى أحد القضاة إلى توريط سبينوزا في القضية باعتباره مصدر هرطقة كورباج، ولكن هذا أنكر أية علاقة لسبينوزا بالأمر، فأنقذ الفيلسوف. ولكن حكم على المهرطق الشاب بالسجن عشر سنين، حيث قضى نحبه بعد حتى أمضى فيه خمسة عشر شهراً. ومن هنا ندرك لما لم يتعجل سبينوزا طبع مؤلفاته.

وفي يونيه 1663 انتقل إلى فوربورج قرب لاهاي. وأقام لمدة ستة أعوام في بيت أحد الفنانين يصقل العدسات، ويؤلف "الأخلاق". وكانت المقاطعات المتحدة في حرب دفاعية مستميتة ضد لويس الرابع عشر، وقد أزعج هذا الحكومة الهولندية ونادىها إلى فرض قيود أشد صرامة على حرية التعبير عن الآراء. ومع ذلك نشر سبينوزا في 1670، دون حتى يفصح عن اسمه "رسالة اللاهوت والسياسة" أصبحت حدثاً أومفهماً هاماً من معالم نقد الأسفار المقدسة. وأوضحت صحيفة العنوان في رسالة اللاهوت والسياسة "الغرض منها": وهوإيضاح أنه يمكن منح حرية الفكر والكلام دون تحيز للدين والسلام العام، كما أنه يمكن كذلك عدم كبت هذه الحرية دون تعريض الدين والسلام العام للخطر". وتنصل سبينوزا من الإلحاد وأنكره، وأيد أساسيات العقيدة الدينية. ولكنه أخذ على عاتقه إظهار قابلية الإنسان للخطأ في هذه الأسفار المقدسة، وهي ما بنى عليه رجال الدين الكلفنيون لاهوتهم تعصبهم، وكان رجال الدين في هولندا يستخدمون نفوذهم ونصوص الخط المقدسة لمناهضة الجماعة التي تزعمها "دي ويت" والتي أيدت الفكر المتحرر ومفاوضات السلام، وكان سبينوزا مخلصاً أشد الإخلاص لهذه الجماعة ولجان دي ويت:

مذ رأيت الخلافات الحادة التي نشبت بين الفلاسفة في الكنيسة والدولة، وهي مصدر الكراهية المريرة والانشقاق... فإني اعتزمت حتى أتناول بالبحث من جديد، الكتاب المقدس، بدقة وروح غير متحيزة، طليقة غير مقيدة، دون حتى أضع افتراضات أونظريات لا أرى بوضوح أنها موجودة فيه. ومع هذه الاحتياطات وضعت طريقة لتفسير الأسفار المقدسة(26).

إن سبينوزا تنبه إلى صعوبة فهم لغة العهد القديم العبرية وضرب لذلك أمثلة، فإن النص المازوري-الذي زود بالحروف اللينة وحركات النطق التي أهملها ناسخوالتوراة الأصليون كان حدساً وتخميناً إلى حد ما، ولا يكاد يوفر نموذجاً أصلياً موثوقاً لا يقبل الجدل، واستفاد في الفصول الأولى من هذه الرسالة كثيراً من رسالة ابن ميمون "دليل الحيران". وحذا حذوإبراهام بن عزرا وآخرين في الارتياب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى. وأنكر حتى يشوع هوالذي ألف سفر يشوع، ونسب الأجزاء التاريخية في العهد القديم إلى القسيس المحرر عزرا في القرن الخامس قبل الميلاد. أما سفر أيوب فقد مضى إلى أنه من عمل الأمميين (الكفار) ثم ترجم إلى العبرية. ولم تلق جميع هذه النتائج قبولاً لدى الباحثين المتأخرين، ولكنها كانت خطوة جريئة نحوالتعهد على ريتشارد سيمون 1678 تحت عنوان "نقد العهد القديم". وأوضح سبينوزا أنه في حالات كثيرة، تكررت نفس السيرة أوالبترة في مواضع مختلفة من الكتاب المقدس، بنفس الألفاظ أوفي روايات محرفة، توحي إحداها بالاقتباس العادي من مخطوطة قديمة، وتثير أخرى التساؤل عن بيان "حدثة الله(27)" وكانت هناك استحالات وتناقضات من حيث التوقيت الزمني، وفي رسالة بولس الرسول إلى الرومان (3: 20-28) لقنهم حتى خلاص الإنسان يمكن حتىقد يكون بالإيمان وحده لا بالعمل، ولكن رسالة بولس جيمس (2: 24) أوردت نقيض هذا على خط مستقيم، فأيهما تتفق مع "حدثة الله وتوجيهه"،يا ترى؟ وأشار الفيلسوف إلى حتى مثل هذه النصوص المتباينة قد خلقت بين رجال اللاهوت صراعات مريرة أشد المرارة، بل دامية، بدلاً من السلوك القويم الذي يحث عليه الدين.

وهل أنبياء العهد القديم صوت الله؟. واضح أنهم لم يتفوقوا من حيث الفهم على الطبقات المثقفة في زمانهم، فإن يشوع، على سبيل المثال، كان يسلم تسليماً جازماً بأن الشمس، حتى "أوقفها" يشوع، كانت تدور حول الأرض(28). ولم يتفق هؤلاء الأنبياء في الفهم، بل برزوا في قوة الخيال والحماسة والغيرة والشعور، كانوا شعراء وخطباء عظاماً. ومن الجائز حتى الوحي هبط عليهم من عند الله وإذا كان الأمر كذلكـ فإن عملية الوحي قد تكون تمت بطريقة اعترف سبينوزا بعجزه عن إدراكها(29). وربما حلموا بأنهم رأوا الله، وربما اعتقدوا في صحة أحلامهم. فإنا نقرأ "أبيمالك" حتى الله اتى إليه في حلم الليل" سفر التكوين 20: 6). إذا العنصر الإلهي في الأنبياء ليس نبوءاتهم، بل حياتهم الفاضلة، والفكرة الرئيسية في عظاتهم هي حتى الدين يكمن في السلوك القويم، لا في الطقوس المرهقة.

وهل كانت المعجزات التي دونت في الكتاب المقدس اضطرابات حقيقية في مجرى الطبيعة العادي،يا ترى؟ وهل أدت خطايا البشر إلى الحريق والفيضان،يا ترى؟ وهل أتت صلواتهم ودعواتهم بخصوبة الأرض،يا ترى؟ مضى سبينوزا إلى حتى مثل هذه القصص استخدمها مؤلفوالأسفار المقدسة لينفذوا إلى أفهام البسطاء من النسا ويحثوهم على الفضيلة والتقوى، ويجدر بنا ألا نأخذها بحروفها: ومن ثم، فإننا، حين يقول الكتاب المقدس بأن الأرض مجدبة بسبب خطايا البشر، أوحتى الإيمان يبرئ الأعمى، يجدر بنا ألا نعير هذا التفاتاً أكثر من التفاتنا إلى قوله، أي الكتاب المقدس، بأن الرب غاضب على خطايا البشر. وأنه حزين وأنه نادم على وعد أوعمل من خير، أوأنه عند رؤية علامة يتذكر شيئاً كان قد وعد به، فإن هذه التعبيرات وأضرابها أما أنها ألقيت إلقاءً شاعرياً، أي من قبيل خيال الشعراء، أورويت وفقاً لآراء الكتاب وأهوائهم. وينبغي حتى نكون على يقين، جميع اليقين من حتى جميع شيء وصفته الأسفار المقدسة وصفاً صادقاً حقيقياً، وقع حتماً-مثل سائر الأمور-وفقاً للقانون الطبيعي، وأن شيئاً دون فيها مما يمكن إثباته على أسس موضوعة تتنافى مع نظام الطبيعة أويتعذر استنتاجه منها، فإنه يجدر بنا حتى نؤمن بأنه مدسوس إلى الأسفار المقدسة عن طريق أيد مارقة عن الدين. فإن أي شيء مناقض للطبيعة مناقض للعقل، وأي شيء مناف للعقل سخيف مضحك(30).

وربما كان هذا أصرح إعلان لاستقلال العقل وضعه فيلسوف حديث بعد. وبقدر ما حاز هذا الإعلان قبولاً، فإنه انطوى على ثورة ذات معنى ونتائج أعمق من جميع حروب ذاك العصر وسياسته.

بأي معنى إذنقد يكون الكتاب المقدس "حدثة الله؟". وبهذا المعنى وحده، وهوأنه يحتوي على قانون أخلاقي يربط الناس بالفضيلة. إنه يحتوي كذلك على أشياء كثيرة أدت إلى نزعة شديدة إلى الشر في الإنسان-أوهيأت لها، وبالنسبة للكثرة الكثيرة من الناس المرهقين إلى حد كبير بمشاغلهم اليومية إلى درجة أنهم لا يجدون فراغاً أوقدرة على تنمية عقولهم، يمكن حتى تكون قصص الكتاب المقدس خير عون لهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة. ولكن التعليم الديني يجب حتى يهجرز على السلوك لا على العقيدة. ويكفي حتى تقتصر العقيدة على الإيمان "بوجود الله، كائن أسمى يحب العدل والإحسان"، وخير عبادة له هي معاملة الجار بالعدل والانصاف وحبه. ولا ضرورة لمبدأ آخر(31).

وإلى جانب هذا المبدأ ينبغي لأنقد يكون الفكر حراً، حتى الكتاب المقدس لم يقصد به حتىقد يكون كتاباً مدرسياً للعلوم أوالفلسفة، فهذه العلوم والفلسفة مكشوفة أمام أعيننا في الطبيعة، وهذا الوحي الطبيعي هوأصدق وأضم صوت الله. ليس بين العقيدة أواللاهوت وبين الفلسفة.... أية علاقة أوصلة نسب... وليس للفلسفة غاية تصبوإليها إلا الحقيقة، أما العقيدة... فلا تفتش إلا عن الطاعة والامتثال والتقوى. فالعقيدة إذن تهيئ أعظم مدى للتأمل الفلسفي، وتسمح لنا دون عتب أوملام حتى نفكر كيف من الممكن أن نشاء، ولا تتهم بالهرطقة والانشقاق إلا أولئك الذين يميلون إلى إثارة الكراهية والغضب والنزاع(32). إلى غير ذلك نرى سبينوزا في تحوله المتفائل قد جدد تمييز بومبوناتزي بين حقيقتين: اللاهوتية والفلسفية ويمكن حتى تتهيأ جميع منهما، برغم تناقضهما، لشخص بعينه في حالة كونه مواطناً، ثم في حالة كونه فيلسوفاً وقد يجيز سبينوزا للموظفين الرسميين المدنيين حق فرض طاعة القوانين، كما حتى الدولة، شأنها شأن الفرد، الحق في حماية ذاتها، ولكنه يضيف: إن الأمر بالنسبة للدين يختلف اختلافاً كبيراً، فمن حيث لأنه لا يتألف من عمل ظاهري بقدر ما يتألف من بساطة الخلق وصدقه، فإنه يقف خارج نطاق القانون والسلطة العامة. حتى بساطة الخلق والصدق فيه لا تنتجهما قيود القوانين ولا سلطة الدولة، وليس ثمة فرد العالم بأسره يمكن حتى يفرض عليه التنعم بالسعادة الروحية أوتسن له القوانين من أجلها. والوسيلة المطلوبة لتحقيق هذا هي النصح المخلص الأخوي والتعليم السليم، وفوق جميع شيء الاستخدام الحر للحكم أوالرأي الشخصي.... إذا في مقدور جميع إنسان حتى يستخدم بنجاح حقه العظيم في حرية الرأي والحكم، ويستخدم سلطته في ذلك.... وأن يشرح ويفسر الدين لنفسه(33).

وينبغي حتى تخضع الممارسة العلنية للدين لرقابة الدولة. ذلك أنه على الرغم من حتى الدين قد يحدث عنصراً حيوياً في تشكيل الأخلاق، فإن الدولة يجب حتى تكون صاحبة السلطان الأعلى في جميع الأمور التي تؤثر في السلوك العام. وكان سبينوزا أرسطوسياً (يقول بأن الدولة السلطة العليا في الشئون الكنسية) عتيداً مثل هوبز، وحذا حذوه في إخضاع الكنيسة للدولة، ولكنه حذر قراءة قائلاً: "إني أتحدث هنا عن الشعائر الظاهرية فحسب.... لا عن.... العبادة الباطنية(34)". وكان ناقماً أشد النقمة (وربما تمثل في خاطره لويس الرابع عشر) حينما استنمر استخدام الدولة للدين في أغراض تتنافى مع مفهومه عن الديانة الأساسية العدل وعمل الخير.

إذا كان اللغز للغز الرهيب الأساسي في الدولة الاستبدادية هوالتغرير بالرعايا وتقنيع الخوف الذي يكبح جماحهم بلباس خداع من الدين، حتى يقاتل الناس من أجل العبودية بمثل البسالة التي يناضلون بها من أجل أمنهم وسلامتهم، ولا يعتبرونه عاراً بل شرفاً كبيراً حتى يبذلوا دماءهم وحياتهم رخيصة من أجل زهووخيلاء وعظمة جوفاء ينعم بها طاغية جبار، فإنه في الدولة الحرة يتعذر تدبير وسائل نفعية شريرة، أومحاولة اللجوء إليها، وأن ليتعارض مع الحرية العامة جميع التعارض، حتى ينفذ القانون إلى مجال الفكر المتأمل وتتعرض الآراء للتحقيق والمساءلة، وتوضع موضع الاتهام والعقاب مثل الجرائم سواء بسواء، على حين يضحي بالمدافعين عنها وبأتباعها، لا من أجل الأمن والسلامة العامة، بها على مذبح كراهية خصومها وقساوتهم. ولوأمكن اتخاذ العمال وحدها أساساً لتوجيه الاتهام بالجرائم، وأطلقت حرية القول... لتجرد التحريض على الفتنة من أية شبهة لتبريره، لأمكن الفصل بينه وبين مجرد الخلاف فصلاً شديداً(35).

وقابل سبينوزا أثناء دراسته الكتاب المقدس قضية الخلاف الأساسية بين المسيحيين واليهود. هل كانت المسيحية غير مخلصة للمسيح أوخائنة لعهده حين نبذت شريعة موسى،يا ترى؟ ومن رأيه حتى تلك الشريعة سنت لليهود في نطاق دولتهم هم، لا لأية أمم أخرى، حتى ولا لليهود أنفسهم إذا كانوا يقيمون في مجتمع غريب عنهم، والقوانين الأخلاقية وحدها في شريعة موسى (مثل الوصايا العشر) هي التي تتمتع بصلاحية أبدية عامة لكل زمان ومكان(36). وتنم بعض الأجزاء في سبينوزا في اليهودية عن استياء شديد من صدور قرار "الحرم" ضده، وعلى حرص شديد منه على تبرير نبذه لتعاليم الكنيس، ولكنه انضم إلى اليهود فيما يراودهم من أمل في عودة عاجلة إلى دولة مستقلة. "قد أمضى بعيداً إلى حد الاعتقاد بأنهم... سيقيمون دولتهم من جديد، وأن الله سيختارهم للمرة الثانية(37)".

وتناول المسيحية عدت مرات، وواضح أنه قرأ العهد الجديد في إعجاب متزايد بالمسيح. ونبذ فكرة قيامة المسيح بجسده من بين الأموات(38). ولكنه ألفى نفسه يتعاطف تعاطفاً شديداً مع موعظة يسوع إلى حد أنه أقر بأن وحياً خاصاً هبط عليه من عند الله:

إن إنساناً يستطيع بفطرته النقية حتى يدرك أفكاراً ليست موجودة، كما لا يمكن استنتاجها من أساس معهدتنا الطبيعية، لا بد أنه بالضرورة يتمتع بعقل أسمى بكثير من عقول رفاقه، بل إني لا أعتقد حتى أحداً اختص بهذا غير المسيح، وقد أوحيت إليه مباشرة اوامر الله التي تؤدي إلى الخلاص، بغير حدثات ولا رؤى. ومن ثم فإن الله كشف عن ذاته للرسل عن طريق عقل المسيح، كما عمل من قبل مع موسى عن طريق الصوت الخارق للطبيعة. وبهذا المعنى يمكن حتى يسمى صوت المسيح، مثل الصوت الذي سمعه موسى-صوت الله-، وقد ينطق بأن حكمة الله (وهي أسمى من حكمة البشر ) ظهرت في طبيعة المسيح البشرية، وأن المسيح كان طريق الخلاص. وعند هذه النقطة لا بد لي حتى أعرب حتى هذه النظريات، التي تقدمها بعض الكنائس فيما يتعلق بالمسيح، ليس في وسعي حتى أؤكدها أوأنفيها لأني أعترف بكل صراحة أني لا أفهمها... حتى المسيح اتصل بالله عقلاً لعقل وبناء على هذا يمكن حتى نستخلص أنه لا أحد غير المسيح تلقى الوحي من الله، دون عون من الخيال في الحدثات أوالرؤى(39).

أن غصن الزيتون هذا، الذي قدم إلى الزعماء المسيحيين، لم يكن ليخفي عنهم حتى "الرسالة اللاهوتية السياسية" مانت من أجرأ ما صدر من بينات وآراء في الصراع بين الدين والفلسفة. وما حتى ظهرت الرسالة حتى احتج مجلس كنيسة أمستردام (30 يونيه 1670) لدى رئيس الدولة في هولندا على السماح بتداول مثل هذا الكتاب المملوء بالهرطقة في دولة مسيحية. وتوسل إليه أحد المجامع الكنسية في لاهاس حتى يلعن ويصادر "مثل هذه الخط التي تعمل على تخريب النفوس(40)". وانضم النقاد الفهمانيون إلى الهجوم على سبينوزا. وسماه أحدهم "شيطاناً مجسداً(41)". ووصفه جان لي كلرك بأنه "أشهر ملحد في زماننا(42)". واتهمه لامبرت فافلتسون بأنه "يحتال في مكر ودهاء على بث الإلحاد... وتقويض أركان العبادة والديانة من أساسها(43)". ومن حسن حظ سبينوزا حتى جان دي ويت رئيس الدولة كان من المعجبين به. وكان لفوره قد أجرى عليه معاشاً ضئيلاً، وما دام دي ويت حياً متربعاً في دست الحكم، فإن سبينوزا كان في مقدوره حتى يعتمد على حمايته له. ولم تدم هذه الحماية لأكثر من عامين فقط.


الفيلسوف

في مايو1670، بعد نشر الرسالة اللاهوتية السياسية بقليل، انتقل سبينوزا إلى لاهاي، من الممكن ليكون على مقربة من دي ويت وغيره من الأصدقاء ذوي النفوذ. وأقام لمدة عام في بيت "الأرملة فان فيلين"، ثم انتقل إلى دار هندريك فان درسبيك على بافليونجراشت، وفي 1927 اشترت لجنة دولية هذا المبنى، واحتفظ به على أنه "مسكن سبينوزا"، وبقي فيه إلى آخر حياته. وشغل منه حجرة واحدة في الطابق الأعلى، ونام على سرير يمكن أثناء النهار حتى يطوى إلى حائط(44). ويقول بيل "وفي بعض الأحيان كان يقبع في عقر الدار لا يخطوخارجها لمدة ثلاثة أشهر بأكملها"، وربما أخافته رئتاه المسلولتان من رطوبة الشتاء. ولكن كان زائريه كثيرين، ومرة أخرى يقول بيل أنه بين الحين والحين "كان يقصد إلى زيارة نفر من ذوي المكانة والنفوذ... للتحدث معهم في شئون الدولة التي كان يفهمها جيداً(45)". واستمر يشتغل بصقل العدسات، وأطرى العالم الفيزيائي الرياضي كريستيان هيجينز درجة اتقائها(46). واحتفظ الفيلسوف ببيان عن نفقاته، ومنه نفهم أنه عاش على نحوخمسة وعشرين سنتاً في اليوم، وأصر أصدقاءه على أعطى يد المعونة له، حيث لا بد أنهم رأوا حتى اعتكافه في الدار والغبار الذي ينتج عن صقل العدسات كانا يضاعفان من علته.

وانتهت الحماية التي بسطها دي ويت على سبينوزا حين اغتال بعض الرعاع الآخوين دي ويت في شوارع لاهاي (أغسطس 1672). ولما سمع بنبأ اغتيالهما رغب في مغادرة الدار ليعلن إلى هؤلاء الرعاع استنكاره لعملتهم باعتبارهم "أحط المتوحشين"، ولكن صاحب الدار غلق الأبواب ومنعه من مغادرة الدار(47). وهجر جان دي ويت لسبينوزا في وصيته راتباً سنوياً قدره مائتا فرنك(48) . وبعد موت دي ويت انتقلت السلطة المدنية إلى الأمير وليم هنري الذي كان في حاجة إلى تأييد رجال الدين الكلفنيين. ولما صدرت الطبعة الثانية من "الرسالة اللاهوتية السياسية 1674، أصدر الأمير ومجلس هولندا مرسوماً يحظر بيع الكتاب، وفي 1675 أذاع مجلس الكلفنيين في لاهاي بياناً يأمر فيه جميع المواطنين بالإبلاغ فوراً عن أية محاولة لطبع أية مؤلفات لسبينوزا(49). وفيما بين عامي 1650 و1680-صدر من سلطات الكنيسة نحو50 مرسوماً بتحريم قراءة مؤلفات الفيلسوف أوتداولها(50).

وربما ساعدت قرارات الحظر هذه على ذيوع شهرته في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. وفي 16 فبراير 1673 خط جوهان فابريشيوسي الأستاذ بجامعة هيدلبرج "إلى الفيلسوف الألمعي المشهور بندكت سبينوزا، باسم ناخب البالاتينات المتحرر، الأمير شارل لويس:

طلب إلى صاحب العظمة الأمير، حتى أخط إليكم.. لأسألكم إذا كنتم ترغبون في قبول منصب الأستاذية العادية للفلسفة في جامعته الشهيرة. وسيعطيك الراتب السنوي الذي يتقاضاه الأساتذة العاديون الآن. إنك لن تجد في أي مكان آخر أميراً أشد إيثاراً وأكثر عطفاً على العباقرة المرموقين الذين يعدك واحداً منهم. وسيكون لك مطلق الحرية في اتخاذ أي اتجاه فلسفي يعتقد الأمير أنك لن تسيء استخدامه في الفساد جوالديانة الرسمية علانية.... وأجاب سبينوزا في 30 مارس:

السيد الجليل، إذا كانت قد راودتني الرغبة يوماً في شغل منصب الأستاذية في أية كلية، لما رغبت في منصب غير هذا الذي عرضه على ناخب البلاتينات المعظم عن طريقكم. ولما كنت على أية حال، لم أفكر قط في الاشتغال بالتعليم العام، فإنه يصعب حتى أقنع نفسي باغتنام هذه الفرصة العظيمة... أولاً لأني أعتقد إذا أردت حتى أوفر الوقت اللازم لتعليم الشباب فلا بد حتى أتخلى عن تنمية فلسفتي وتطويرها. ثانياً-لست أدري ما هي حدود الفكر الفلسفي التي يجب حتى أعمل في نطاقها، حتى أتجنب ظهور أية رغبة في تعكير جوالديانة الرسمية المعلنة. فإن الإنشقاقات والخلافات لا تثور نتيجة للحب الشديد للدين أكثر منها بسبب الميول والنزاعات المتباينة في الناس أوحب المعارضة والمخالفة في الرأي... ولقد خبرت هذه الأمور بالعمل بينما كنت أعيش عيشة خاصة منعزلة، ولا بد حتى أكون أشد خشية من حدوثها، إذا رقيت إلى هذه المرتبة العظيمة (الأستاذية). إلى غير ذلك ترى يا سيدي الجليل أني لا أحجم، أملاً في مال أكثر، أوحظ أوفر، ولكنه حب الهدوء والرغبة في السلام(51). وكان سبينوزا سعيد الحظ في رفضه هذا المنصب، فان المارشال الفرنسي تورين اجتاح البلاتينات في العام التالي وأغلقت أبواب الجامعة.

وفي مايو1673، وفي غمرة الهجوم الذي شنه جيش فرنسي على المقاطعات المتحدة تلقى سبينوزا دعوة من زعيم في هذا الجيش لزيارة كوندية الكبير في أوترخت. واستشار سبينوزا في أمر هذه الزيارة السلطات الهولندية التي من الممكن رأت فيها فرصة لفتح باب المفاوضات لعقد هدنة تدعوإليها الحاجة الملحة. وأمن له الطرفان كلاهما سبل الانتنطق، وشق الفيلسوف طريقه إلى أوترخت. وفي تلك الأثناء كان لويس الرابع عشر قد أوفد كونديه إلى جهة أخرى. فبعث إلى سبينوزا (كما يروي لوكاس)(52) برسالة يطلب إليه فيها حتى ينتظره، وبعد بضعة أسابيع وصلت رسالة أخرى تقول أنه سيتأخر إلى أجل غير مسمى. والظاهر حتى مارشال دي لكسمبورج نصحه إذ ذاك حتى يهدي إلى الملك لويس كتاباً مؤكداً له سيلقي من الملك استجابة تتسم بالتحرر(53). ولم يؤد الاقتراح إلى نتيجة. وعاد سبينوزا أدراجه إلى لاهاي ليجد كثيراً من المواطنين يشتبهون في أنه خائن. وتجمع حشد معاد حول بيته يكيلون السباب ويقذفون الأحجار. ونطق لصاحب البيت "لا تنزعج، فأنا برئ، وهناك كثيرون من ذوي المناصب العالية يعهدون لما مضىت إلى أوترخت. وحالما تسمع أي صخب أوشغب عند الباب، فسأخرج أنا إلى الناس حتى ولوكانوا سيعملون بي مثل ما عملوا بجان دي ويت الطيب. أنا جمهوري مخلص أمين، وهدفي خير الجمهورية(54)ولم يدعه صاحب الدار يخرج. وتفرق الجمهور.

وكان سبينوزا آنذاك في الحادية بعد الأربعين. وهناك في مسكن سبينوزا في لاهاي صورة تمثله نمطاً دقيقاً ليهودي سفردي، ذي شعر أسود متدل، وحاجبين كثيفين، وعينين سوداوين براقتين مكتئبتين قليلاً، وأنف مستطيل مستقيم، ووجه تغلب عليه الوسامة في جملته، إذا قورن فقط بالصورة التي رسمها هالس لديكارت. ويقول لوكاس: "كان أنيقاً غاية الأناقة في مظهره، ولم يغادر قط بيته دون حتى يرتدي من الثياب ما يميز السيد المهذب الماجد عن المتحذلق(55). واتسم سلوكه بالرزانة والوقار مع الظرف والرقة. ونطق أولدنبرج "أن فهمه الراسخ اقترن بالروح الإنسانية والدماثة(56)". وخط بيل "أن جميع الذين تعهدوا على سبينوزا يقولون بأنه كان اجتماعياً لطيف المعشر، أميناً، ودوداً حسن الخلق(57)". ولم يتحدث إلى جيرانه بأية هرطقة، بل على العكس شجعهم على الاستمرار في الذهاب إلى الكنيسة، ورافقهم من آن لآخر ليستمع إلى موعظة(58). وكان أكثر من أي فيلسوف حديث آخر يتمتع بالهدوء الناجم عن ضبط النفس. وقلما رد على النقد، وتناول في رده الأفكار والآراء، لا الأمور الشخصية. وعلى الرغم من اعتناقه ممضى الجبرية، واقتلاعه من بين قومه، وسقمه، كان أبعد ماقد يكون عن التشاؤم، ونطق "تصرف تصرفاً حسناً، وابتهج وقر عيناً(59)" وربما كان شعار تفكيره حتى يعهد أسوأ الأمور، ويؤمن بأحسنها.

وتردد الأصدقاء والمعجبون به على داره. وأقنعه والترفون تشيرنهوبأن يطلعه على مخطوطة "الأخلاق". وخط إليه هذا العالم الرياضي الفيزيائي: "أرجوحتى تساعدني بلطفك المعهود حيثما أعجز عن فهم ما تقصد إليه فهماً سليماً(60). وربما تم وصول ليبنتز إلى سبينوزا عن طريق هذا التلميذ المتلهف (1676) ومن الجائز كذلك وصوله إلى الرائعة التي لم تكن قد نشرت بعد. وقدم لرؤيته الأعضاء الباقون على قيد الحياة من ندوة دكتور ميير في أمستردام أوكانوا يتبادلون معه الرسائل وألقت رسائله من والى الفهماء والباحثون في أوربا ضوءاً غير متسقط على المناخ العقلي في ذاك العصر. وحثه هوجوموكسلي مراراً وتكراراً على التسليم بحقيقة وجود الأرواح الشريرة والأشباح. وفي 1675 أوفد إليه من فلورنسا عالم التشريح ستينونداءاً مؤثراً ليتحول إلى الكثلكة:

إني آخذ على عاتقي عن طيب خاطر، إذا أردت أنت، مهمة هدايتك إلى الطريق.... وعلى الرغم من حتى فهمك يفوق فهمنا، فإني أود لوأنك تقدمت إلى الله فبرئت من أخطائك ونبذتها، حتى إذا كانت كتاباتك السابقة قد صرفت ألفاً من الأنفس عن الفهم الحقيقية لله، فإن رد هذه النفوس إلى الطريق الحق على حتى تكون أنت قدوة تشد من أزرها، قد يعيد إلى الله ألف ألف معك، كما لوكنت أوغسطين آخر أرجومن جميع قلبي حتى تحل بك هذه البركة والنعمة. وداعاً(62). كذلك سحرت فتنة الكثلكة لب ألبرت بيرج ابن صديق سبينوزا كنراد بيرج وزير مالية المقاطعات المتحدة. وكان ألبرت، مثل ستينو، قد تحول إلى الكاثوليكية أثناء رحلته في إيطاليا. وفي سبتمبر 1675 خط إلى سبينوزا متحدياً، أكثر منه متوسلاً، إياه حتى يعتنق الممضى الكاثوليكي:

من أين لك حتى تعهد حتى فلسفتك هي أفضل التعاليم التي لقنت في العالم فيما مضى، أوأنها أفضل ما يتلقاه العالم الآن بالعمل، أوما سيتلقاه في المستقبل،يا ترى؟ هل درست جميع الفلسفات قديمها وحديثها، مما يتفهمه الناس هنا وفي الهند وفي سائر أصقاع المعمورة،يا ترى؟ حتى إذا كنت درستها جميعاً.. كيف من الممكن أن يتسنى لك حتى تدرك أنك اخترت أحسنها؟.... وإذا كنت، على أية حال، لا تؤمن بالمسيح فإنك أيأس وأجدر بالازدراء مما يمكن حتى أتصور لك. ولكن العلاج الميسور: أرجع عن خطاياك، وتحقق من الغطرسة القاتلة التي ينطوي عليها تفكيرك الحقير المجنون.... هل تجسر أيها الرجل الحقير، يا حشرة الأرض الدنيئة.... في تجديفك الذي لا يصح حتى يوصف، حتى تضع نفسك فوق "الحكمة المتجسدة اللامتناهية"؟.... إنك بقواعدك زمبادئك لا تستطيع حتى تفسر تفسيراً كاملاً حتى واحداً من هذه الأمور التي يأتي بها السحرة.... كما أنك لا تستطيع حتى تفسر أياً من الظواهر المذهلة بين الذين يتملكهم الشياطين، مما رأيت منه بعيني رأسي أمثلة كثيرة منه أوسمعت صدق الأدلة اليقينية عليه(62).

وفي ديسمبر 1675 رد سبينوزا رداً جزئياً:

أخيراً فهمت من كتابك ما لم أكن أصدقه حين رواه لي آخرون... وهوأنك لم تصبح عضواً في الكنيسة الكاثوليكية فحسب.... بل أنك كذلك كم أشد أنصارها وحماتها غيرة وحماسة، وأنك درست الآن كيف من الممكن أن تصب لعنتك وجام غضبك في وقاحة على خصومك ومخالفيك. ولم أكن أعتزم الرد على رسالتك... ولكن جماعة بعينها من الأصدقاء، ممن علقوا أكبر الآمال على مواهبك الطبيعية ألحوا علي في الراتى ألا أقصر في حق صديق، وأن أفكر فيما كنت عليه منذ فترة وجيزة لا فيما أنت عليه الآن... وأقنعتني تلك الحجج بكتابة هذه السطور إليك، راجياً جميع الراتى حتى تتفضل بقراءتها بنفس هادئة.

ولن أعدد لك هنا من حديث مساوئ القساوسة والباباوات، لأصرفك عنهم، كما أعتاد أعداء الكنيسة الكاثوليكية حتى يعملوا. لأنهم عادة ينشرون هذه المساوئ بداعي الحقد والغضب، ورغبة في الإزعاج لا التقويم والتعليم. والحق إني أقر بأنه يوجد في الكنيسة الكاثوليكية رجال على قدر كبير من الفهم والفهم واستقامة الحياة أكثر مما يوجد منهم في أية كنيسة مسيحية أخرى، فإنه حيثما توافر عدد أكبر من أتباع الكنيسة، فلا بد حتى يوجد عدد اكبر من الرجال من جميع صنف. وهناك في جميع كنيسة كثيرون من الأمناء المخلصين غاية الأمانة والإخلاص، ممن يعبدون الله في عدل وإحسان،... لأن العدل والإحسان أصدق أمارات الممضى الكاثوليكي الحق... وحيثما يوجد هؤلاء، يوجد المسيح حقاً وصدقاً، وحيثما يفتقدون، يفتقد المسيح كذلك. لأن روح المسيح وحده هي التي يمكن حتى تقودنا إلى حب العدل والإحسان. وإذا كنت قد اعتزمت عزماً أكيداً من قبل، التفكير ملياً بينك وبين نفسك في هذه الحقائق، لما ضللت، ولما سببت لأبويك أشد الحزن والأسى.... إنك سألتني كيف من الممكن أن استوعب حتى فلسفتي أفضل الفلسفات التي ظهرت في العالم من قبل، والتي تلقن الآن، أوستلقن في المستقبل. والواقع حتى لي حق أكبر في حتى أسألك هذا السؤال. لأني لا أزعم إني سقطت على أفضل فلسفة. ولكني استوعب أني أظنها الفلسفة الحقة.... ولكنكم أنتم الذين تزعمون أنكم وجدتم آخر الأمر أحسن ديانة، أوعلى الأرجح أفضل رجال واسرعتم إلى تصديقها كيف من الممكن أن تعهدون أنهم أفضل من فهم سائر الديانات، أويفهمونها الآن، أوسيقومون بتلقينها في المستقبل،يا ترى؟ هل درستم جميع تلك الديانات قديمها وحديثها تلك التي تلقن هنا وفي الهند وفي سائر أنحاء العالم،يا ترى؟ وحتى لوكنتم درستموها حق الدرس، كيف من الممكن أن تعهدون أنكم اخترتم أحسنها،يا ترى؟ هل تعتبرونه عجرفة وغروراً حتى أستخدم عقلي في الإذعان لحدثة الله الموجودة في العقل، ولا يمكن بأية حال افسادها أوتحريفها،يا ترى؟ أنأوا بأنفسكم عن هذه الخرافة المهلكة، واعترفوا بالعقل الذي حباكم الله إياه، وتعهدوه إذا لم تكونا في عداد البهائم.... إنكم إذا أمعنتم النظر في تاريخ الكنيسة (وأني لأدرك أنكم على أكبر درجة من الجهل به) لتدركوا مدى زيف كثير من التنطقيد البابوية، ولكي تعهدوا... بأية حيل وأفانين استطاع البابا الروماني، بعد ستمائة سنة من ميلاد المسيح حتى يسيطر على الكنيسة، فإني لا أشك لحظة في أنكم آخر الأمر ستفيقون من غفلتكم. وإني لأود من صميم قلبي حتى يتم لك هذا، وداعاً(63).

والتحق بيرج بطائفة الفرنسيسكان، وقضى نحبه في أحد الأديار في روما.

ومعظم رسائل سبينوزا الباقية كانت مع أولدنبيرج. وأننا لتتولانا الدهشة حتى نجد حتى كثيراً منها عالج العلوم، وأن سبينوزا قام بتجارب في الفيزياء والكيمياء، وأن رسائله كانت مشروحة بالرسوم البيانية والتخطيطية، وانبترت هذه الرسائل في 1665، فقد اعتقل أولدنبيرج في 1667 وسجن في برج لندن للاشتباه في اتصاله بدولة أجنبية، وأنصرف إلى الدين عند اخلاء سبيله، وعندما استأنف ممحررة سبينوزا (1675) انضم إلى المساعي المبذولة لضمه إلى أية فرقة من فرق المسيحية السليمة، ورجاه حتى يأخذ سيرة قيامة المسيح حرفياً لا رمزاً ولا مجازاً. ونطق "أن العقيدة المسيحية بأسرها وحقيقتها ترتكزان على موضوع القيامة، فإذا نحن استبعدناه، إنهارت جميع رسالة المسيح وتعاليمه السماوية(64)". وفي خاتمة المطاف تخلى عن سبينوزا باعتباره نفساً ضالة ضائعة، وانبتر عن مراسلته (1677).

وطوال الوقت ابتداء من عام 1663 كان سبينوزا يعمل في كتاب "الأخلاق". وفي إبريل 1662 خط إلى أولدنبيرج أنه كان يفكر في نشره ولكنه "كان من الطبيعي حتى يخشى من رجال اللاهوت حتى تأخذهم العزة بالاثم، فيشنون عليه الهجوم بكراهيتهم المعهودة، وأنا أنفر من الشجار والنزاع جميع النفور(65)". ولكن أولدنبيرج استحثه على النشر "مهما يكن من أمر تذمر رجال اللاهوت المشعوذين ونباحهم(66)". ولكن سبينوزا ظل بين الأحجام والإقدام. ورخص لبعض أصدقائه في قراءة بعض أجزاء من المخطوطة، وربما أفاد من بعض تعليقاتهم لأنه أعاد مراجعة الرسالة عدة مرات. حتى الضجة التي أثارتها "الرسالة اللاهوتية السياسية" كانت تبرر ما تذرع به من حرص وحذر، كما ضايقه أكثر من ذلك اغتال الأخوين دي ويت، والشبهات التي حامت حوله بعد زيارته للجيش الفرنسي، ولم يشرع في اتخاذ أية خطوة أخرى لطبع "الأخلاق" إلا في 1675، وأبلغ النتائج إلى أولدنبيرج: في الوقت الذي تسلمت فيه رسالتك المؤرخة في 23 يوليه كنت على وشك الرحيل إلى أمستردام بغية البدء في طبع الكتاب الذي خطت إليك عنه. وبينما كنت مشغولاً بهذا الأمر انتشرت في جميع مكان شائعة تقول بأن في المطبعة كتاباً لي عن "الله"، وأني حاولت فيه حتى أبين أنه ليس هناك إله. واعتقد كثيرون في صحة هذه الشائعة. ومن ثم انتهز بعض رجال الدين الفرصة ليتقدموا بالشكوى ضدي إلى الأمير والقضاة... وعندما ترامى هذا إلى سمعي... قررت تأجيل النشر الذي كنت أعد له العدة(67).

وطرح المخطوطة جانباً، وانصرف إلى كتابة رسالة عن الدولة "الرسالة السياسية"، ولكن المنية عاجلته قبل الانتهاء منها. وفيستة فبراير 1677 خط الطبيب الشاب جورج هرمان شوللر إلى ليبنتز "أخشى حتى يفارقنا مستر بندكت سبينوزا وشيكاً، حيث يظهر حتى حالة السل عنده تزداد سوءاً يوماً بعد يوم(68)، وبعد ذلك بأسبوعين، وحين كان سائر أهل البيت متغيبين عنه، ولج الفيلسوف في النزع الأخير. وكان شوللر وحده (لامبير كما كان مظنوناً من قبل) معه في تلك الفترة. وهجر سبينوزا تعليمات ببيع أمتعته المتواضعة لتسديد ديونه، وبنشر مؤلفاته التي لم يسبق له إحراقها، غفلاً من اسمه. وقضى نحبه في 20 فبراير 1677 دون أية طقوس كهنوتية(69). ودفن في مقبرة في كنيسة لاهاي الجديدة بالقرب من مقبرة جان دي ويت. أما المخطوطات-وبخاصة "الأخلاق" و"الرسالة السياسية" و"رسالة في إصلاح العقل" فقد أعدها للمطبعة ميير وشوللر وغيرهما، وطبعت في أمستردام في أواخر 1677.

إلى غير ذلك نأتي في خاتمة المطاف إلى الكتاب الذي صب فيه سبينوزا عصارة حياته ونفسه التي إنزوى بها عن الناس.


الله

إن سبينوزا سمى هذا الكتاب "الأخلاق العادية وعرض هندسي"، أولاً لأنه مضى إلى حتى الفلسفة هي إعداد السلوك السليم والحياة الحكيمة، وثانياً، لأنه مثل ديكارت، حسد الزهد العقلي والتسلسل المنطقي في الهندسة، وراوده الأمل في حتى يبني على غرار أقليدس، كياناً للتفكير، تتعقب جميع منه بصورة منطقية ما سبقها من براهين, وهذه تشتق آخر الأمر بشكل لا يمكن دحضه من بديهيات أوحقائق مقررة يتقبلها الناس جميعاً. وأدرك سبينوزا حتى هذا مثل أعلى، وكان من العسير عليه حتى يتصوره حائلاً دون خطأ، لأنه كان بطريقة شبيهة بهذه شرح فلسفة ديكارت التي لم يوافق عليها.

إن المخطط الهندسي قد يؤدي على الأقل إلى الوضوح، وقد يحول دون اضطراب العقل بالانفعال، وإخفاء المغالطة والسفسطة بالفصاحة والبلاغة. ورأى حتى يناقش سلوك الإنسان، بل حتى طبيعة الله، في هدوء وموضوعية، كما لوكان يتناول الدوائر والمثلثات والمربعات. ولم يخل نهجه من أخطاء، ولكنه أدى به إلى ابتناء صرح للعقل مهيب في عظمته الهندسية ووحدته. وهذا المنهج استنتاجي، وربما عبس له وجه فرانسيس بيكون، ولكنه زعم أنه كان متناسقاً مع جميع الخبرة.

وبدأ سبينوزا بتعريفات مأخوذة في معظمها من فلسفة العصور الوسطى. وغيرت الألفاظ التي استخدمها معانيها منذ ذلك اليوم، وبعضها الآن يكسوفكره بالغموض والإبهام. والتعريف الثالث الأساسي: حيث عهد الجوهر بأنه "ما هوفي ذاته ومتصور بذاته، أعني حتى تصوره لا يعتمد على تصور شيء آخر لا بد حتىقد يكون مكوناً منه". وهولا يقصد الجوهر بالمعنى الحديث أي المقومات والمكونات المادية، واستخدامنا لهذه اللفظة بمعنى الماهية والأهمية الأساسية أقرب إلى ما قصد إليه هو. وإذا أخذنا اللفظة اللاتينية Subslansia استخدمها بمعناها الحرفي، فإنها تعني "يقع تحت، يشكل الأساس، يدعم". وفي مراسلاته(70)يتحدث سبينوزا عن "الجوهر أوالكينونة" أي أنه يعادل الجوهر بالوجود أوالحقيقة. ومن ثم يمكن حتى يقول "إن الوجود يتعلق بطبيعة الجوهر" أي أنه في الجوهر تكون ماهية الشيء أوطبيعته الأساسية ووجوده شيئاً واحداً(71). وقد نخلص من هذا حتى الجوهر عند سبينوزا يعني الحقيقة الأساسية التي تشكل أساس جميع الأمور.

ونحن ندرك هذا الواقع في شكلين: الامتداد أوالمادة ثم الفكر أوالذهن، وهاتان "صفتان مميزتان" للجوهر، لا صفتان به قائمتان فيه. بل هما نفس الحقيقة التي ندركها خارجياً بحواسنا باعتبارهما مادة، والحقيقة التي ندركها بشعورنا باعتبارها فكراً. وسبينوزا "واحدى" تماماً يقول بأن الحقيقة جميع واحد، فإن جانبي الحقيقة هذان-المادة والفكر-ليسا وجودين متميزين مستقلين الواحد منهما عن الآخر، بل هما جانبان، الخارجي والداخلي لحقيقة واحدة، إلى غير ذلك الجسم والذهن، إلى غير ذلك الأحداث الفسيولوجية (الجسدية) والحالة العقلية المناظرة لها. والحقيقة التي لا مراء فيها حتى سبينوزا كان يدين بالمثالية قدر ابتعاده عن الممضى المادي، إنه يعهد الصفة بأنها "ما يدركه العقل عن الجوهر كما لوكان يؤلف ماهيته(72)" ويسلم سبينوزا (قبل مولد باركلي بزمن طويل) بأننا نعهد الحقيقة، أما مادة أوفكراً، عن طريق الإدراك الحسي أوالفكرة فقط. ويعتقد بأن الحقيقة تعبر عن نفسها في مظاهر لانهاية لها، عن طريق "عدد لا متناه من الصفات" التي لا ندرك منها، نحن الكائنات الناسيرة، إلا اثنتين. وعند هذا الحد،قد يكون الجوهر أوالحقيقة، هوجميع ما يظهر لنا من مادة أوذهناً، والجوهر وصفاته شيء واحد: والحقيقة إتحاد من المادة والذهن، وهذان متميزان فقط في الشكل الذي ندرك به الجوهر. ونتحلل قليلاً من صيغة سبينوزا، ونقول بأن المادة هي حقيقة مدركة خارجياً والذهن حقيقة مدركة داخلياً. فإذا استطعنا حتى ندرك جميع الأمور بطريقة مزدوجة-خارجياً وداخلياً-كما ندرك أنفسنا، فإننا نجد، كما يعتقد سبينوزا، "أن جميع الأمور حية نشيطة بشكل ما(73)". فهناك شكل أودرجة من الذهن أوالحياة في جميع شيء. والجوهر دائماً حي أونشيط: والمادة في حركة دائمة، والذهن دائماً يدرك أويحس أويفكر أويرغب أويتخيل ويتذكر، في اليقظة أوالنوم. والعالم في جميع جزء من أجزائه حي.

ويعادل سبينوزا بين الله وبين الجوهر، فهوالحقيقة التي تشكل أساس المادة والذهن وتوحد بينهما. والله لا يتعادل مع المادة (فلهذا لا يدين سبينوزا بالممضى المادي) ولكن المادة صفة ملازمة متأصلة أساسية، أومظهر من الله (وهنا تظهر من حديث إحدى هرطقات سبينوزا في شبابه). ولا يتعادل الله مع الذهن (ومن ثم لا يدين سبينوزا بالروحية) ولكن الذهن صفة أومظهر ملازم متأصل أساسي لله. والله والجوهر متعادلان مع الطبيعة والمجموع الكلي للكينونة أوالوجود (ولهذا كان سبينوزا يقول بوحدة الوجود: إذا الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية).

وللطبيعة مظهران. فباعتبارهما القدرة على الحركة في الأجسام، والقدرة على التوالد والنمووالإحساس في الكائنات الحية، فإنها طبيعة "خالقة" أوولودة. وباعتبارها جماع جميع الأمور والأجسام والنبات والحيوان والإنسان. فهي طبيعة "محدثة أومخلوقة". وهذه "الموجودات الفردية" في الطبيعة المخلوقة يسميها سبينوزا حالات-أوتعديلات أوتجسيدات طارئة في الجوهر، والحقيقة والمادة والعقل والله. وهي جزء من الجوهر، ولكننا نميزها في إدراكنا الحسي، باعتبارها أشكالاً عابرة سريعة الزوال لكل داخلي. فهذا الحجر وهذه الشجرة، وهذا الإنسان أوالكوكب أوالنجم-هذا المشهد المتغير العجيب من الأشكال الفردية التي تظهر وتتلاشى-تؤلف كلها "النظام المؤقت" الذي قابله سبينوزا في "رسالة إصلاح العقل" "بالنظام الأزلي" وهوبمعنى أدق الحقيقة والله المفهومان ضمناً:

لا أفهم من سلسلة العلل والموجودات الحقيقية... سلسلة من الأمور الفردية المتحولة، بل سلسلة من الأمور الثابتة الأزلية. لأنه قد يحدث من المتعذر على الضعف البشري حتى يتتبع سلسلة الأمور الفردية المتحولة (كل حجر، وزهرة وإنسان). إذا وجودها ليس له علاقة بماهيتها (قد توجد، ولكن ليس لها ثمة ضرورة لأن توجد)، أوحتى وجودها ليس حقيقة أزلية... وهذه الماهية يمكن التماسها من الأمور الثابتة الأزلية، ومن القوانين المنقوشة في هذه الأمور وكأنها دستورها الذي بمقتضاه صنعت ورتبت، بل حتى هذه الأمور الفردية المتحولة تعتمد اعتماداً وثيقاً أساسياً (هكذا ينطق) على هذه الأمور الثابتة، وبدونها لا يمكن وجودها ولا إدراكها(74).

إلى غير ذلكقد يكون مثلث واحداً بعينه "حالة"، وقد لاقد يكون ثمة ضرورة لوجوده، ولكن إذا وجدقد يكون لزاماً عليه حتى يطيع القوانين-وسيكون لديه جميع صلاحيات-المثلث بصفة عامة، والرجل بعينه حالة. وقد يوجد أولا يوجد، ولكن إذا وجد، فإنه سيشارك في ماهية وقدرة المادة-الذهن، ويكون عليه حتى يطيع القوانين التي تحكم عمليات الأجسام والأفكار، وهذه القدرات والقوانين تؤلف نظام الطبيعة باعتبارها طبيعة "خالقة"، وهي تشكل في لغة اللاهوت "إرادة الله". وحالات المادة هي في مجموعها جسم الله، وحالات الذهن في مجموعها هي ذهن الله، والجوهر أوالحقيقة. في جميع حالاتها وصفاتها هي الله. "كل ما يوجد هوفي الله(57)". ويتفق سبينوزا مع الفلاسفة السكولاسيين في حتى الماهية والوجود في الله شيء واحد، إذا وجوده متضمن في تصورنا الماهية لأنه يتصور حتى الله هوجميع الوجود نفسه يحتوي على الوجود كله. ويتفق مع السكولاسيين في حتى "الله علة ذاته" حيث لا يوجد شيء خارج عنه. ويتفق معهم في أننا نستطيع حتى نعهد وجود الله، ولكنا لا نعهد طبيعته الحقيقية. ويتفق مع توما الأكويني في حتى استخدام ضمائر المذكر للدلالة على الله سخيف مضحك ولكنه مريح . ويتفق مع اتباع ابن ميمون في حتى معظم الصفات التي ننسبها إلى الله يمكن تصورها عن طريق القياس الضعيف مع صفات الإنسان.

يوصف الله بأنه واضع القوانين أوالأمير أوالملك ويوصف بأنه عادل رحيم... الخ، لمجرد الاعتراف أوالتسليم بالفهم العادي ونقص الفهم العادي(77)... والله مجرد من الانفعالات، ولا يتأثر بأية عواطف من الفرح أوالحزن(78).... حتى أولئك الذين يخلطون بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، إنما ينسبون بساطة الانفعالات الإنسانية إلى الله، وبخاصة إذا كانوا لا يعهدون كيف من الممكن أن تحدث الانفعالات في الذهن(79).

وليس الله شخصاً، لأن هذا يعني عقلاً مفرداً خاصاً محدوداً متناهياً، ولكن الله هومجموع جميع عقل (كل الحيوية والنشاط والإحساس والفكر)-بقدر ما جميع المادة-الموجود(80). العقل البشري جزء من عقل معين غير متناه لا حدود له(81) (مثل التقليد الأرسطي-السكندري). ولكن "إذا كان العقل والإرادة تتعلقان بالماهية الأزلية لله، فإن شيئاً آخر بعيداً يجب حتى يفهم من هاتين الصفتين أكثر مما يفهمه الناس عامة(82)". "فالعقل العملي... مع الإرادة والرغبة والحب، الخ، يجب إرجاعها إلى الطبيعة المخلوقة لا الطبيعة الخالقة(83)" أي حتى العقول الفردية برغباتها وعواطفها واختياراتها، هي حالات أوتعديلات موجودة في الله باعتباره جماع جميع الأمور، ولكنه لا تتعلق به باعتباره قانون وحياة العالم. فهناك في الله إرادة، ولكن بمعنى القوانين التي تعمل في جميع مكان. فإن إرادته قانون.

وليس الله أباً ملتحياً يجلس على سحابة، يحكم الكون. إنه "العلة المقيمة الكامنة، غير العابرة، لكل الأمور(84)". وليس يوجد "خلق" إلا بمعنى الحقيقة غير المتناهية-المادة الذهن-تتخذ دوماً أشكال أوحالات جديدة فردية. وليس الله في مكان واحد، ولكنه في جميع مكان تبعاً لماهيته(85). والحق حتى لفظة "الهلة" هنا غير ملائمة. وأن الله هوالهلة الكاملة العامة، لا بمعنى علة سابقة على نتيجتها، ولكن فقط بمعنى حتى سلوك أي شيء ينبع بالضرورة من طبيعته. والله هوعلة جميع الأحداث، بنفس الكيفية التي تكون بها طبيعة المثلث هي علة خواصه وسلوكه. والله حر، فقط بمعنى أنه غير خاضع لأية علة أوقوة خارجية، وأنه غير محكوم إلا بماهيته أوطبيعته الخاصة، ولكنه "لا يتصرف عن حرية الإرادة(86)"، وكل أفعاله تحددها وتحكمها ماهيته-وهذا يعني حتى الطبيعة المتأصلة الملازمة للأشياء وخواصها هي التي تحكم جميع الأحداث. وليس في الطبيعة خطة بمعنى حتى الله يرغب في غاية أوهدف بعينه، فليس لديه رغبات أوخطط ومشروعات، اللهم إلا حتى جماع الأمور تحتوي رغبات وخطط جميع الحالات، ومن ثم خطط ورغبات جميع الكائنات الحية. وليس في الطبيعة إلا نتائج، تتبع بالضرورة عللاً سابقة لها وخواصاً متأصلة. وليس هناك معجزات، لأن إرادة الله و"نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير" شيء واحد(87)، وأي خرق أواضطراب في "سلسلة الأحداث الطبيعية"قد يكون تناقضاً ذاتياً.

والإنسان مجرد جزء صغير من الكون. والطبيعة تقف على الحياد بين الإنسان وسائر الأشكال. وينبغي ألا نطلق على الطبيعة أوالله ألفاظاً مثل الخير أوالشر، جميل أوقبيح، فتلك مصطلحات ذاتية، مثل ساخن أوبارد وإنما يحددها إسهام العالم الخارجي في منفعتنا أوإستيائنا.

إن الحكم على كمال الأمورقد يكون بطبيعتها وقدرتها فحسب، فهي ليست أكثر أوأقل كمالاً بسبب أنها تسر أوتسيء إلى حواس الإنسان، ولا يسبب أنها نافعة أوضارة للطبيعة البشرية(88)... وبناء على ذلك، فإنه إذا كان في الطبيعة شيء يظهر لنا سخيفاً أومضحكاً أوشراً، فما ذاك إلا لأننا لا ندرك إلا القليل، بل نكاد نجهل جميع الجهل، نظام الطبيعة واتكالها بعضها على بعض ككل، كذلك لأننا نريد حتىقد يكون جميع شيء وفقاً لم يمليه عقلنا البشري. والواقع حتى ما يعتبره العقل شراً، ليس شراً بالنسبة لنظام الطبيعة وقوانينها ككل، بل بالنسبة لقوانين عقلنا فقط(89).

وبالمثل لا يوجد في الطبيعة جمال أوقبح.

ليس الجمال... إلى حد كبير صفة في الشيء المرئي، تحدث أثراً في الرائي. وإذا كان أبصارنا أطول أوأقصر، وإذا كانت بنياتنا متفاوتة، فإن ما نراه الآن جميلاً، يجب حتى نظنه قبيحاً. حتى أجمل يد بالمجهر ستبدومخيفة(90)... أنا لا أنسب إلى الطبيعة الجمال أوالتشويه ولا النظام أوالفوضى والاضطراب. وبالنسبة لخيالنا أوتصورنا فقط، يمكن حتى توصف الأمور بأنها جميلة أوقبيحة، حسنة الترتيب أومهوشة(91). والنظام موضوع بمعنى واحد، هوحتى جميع الأمور تتحد في نهج واحد من القانون ولكن في هذا النظام تكون العاصفة المدمرة طبيعية، بقدر ما تكون روعة غروب الشمس أورهبة البحر الطبيعية.

وهل نحن على حق، على أساس هذا "اللاهوت" إذا نعتنا سبينوزا بالإلحاد،يا ترى؟ لقد رأينا أنه لم يكن مادياً، لأنه لم يعادل بين الله والمادة، فإنه يقول في وضوح بأن أولئك الذين يمضىون إلى حتى "الرسالة باللاهوتية والسياسية" قائمة على تعادل بين الله مع الطبيعة آخذين الطبيعة على أنها كتلة معينة من مادة عينية-مخطئون غاية الخطأ(92). "إنه تصور الله ذهناً ومادة على حد سواء. ولم يختزل الذهن إلى مادة واعترف بأن الذهن هوالحقيقة الوحيدة المعروفة المباشرة. ومضى إلى حتى ثمة شيئاً مجانساً للذهن. يختلط بكل مادة، وكان من هذه الناحية ممن يقولون بوحدة الوجود، كان مؤمناً بوحدة الوجود، حيث يرى الله في جميع الأمور، ويرى جميع الأمور في الله. واعتبره بيل وهيوم، وغيرهما(93)ملحداً. وقد يظهر ما يبرر هذا الوصف في إنكار سبينوزا للشعور والرغبة أوالفرض عند الله(94). إنه هونفسه على أية حال، اعتراض على "رأي العامة في حيث لا يكفون عن اتهامي خطأ بأني ملحد(95)" والظاهر أنه شعر بأن نسبته ذهناً وذكاء إلى الله غفرت له تهمة الإلحاد. ويجب التسليم بأنه تحدث مراراً وتكراراً عن ربه في تعبير تتسم بالإجلال الديني، مما يتفق تمام الاتفاق مع مفهوم الله عند ابن ميمون أوتوما الأكويني، بل قد يسميه نوفاليس "الرجل الثمل بحب الله".

والواقع أنه كان نشواناً بنظام الطبيعة بأسره، ذلك النظام الذي بدا له في تماسكه وحركته الأزليتيت مثيراً للإعجاب مهيباً. وفي الكتاب الأول من "الأخلاق" خط عن نهج للاهوت وميتافيزيقا العلوم معاً. وفي دنيا القانون أحس بوحي إلهي، أعظم من أي كتاب مهما كان كريماً وجميلاً. وأن الفرد الفهمي الذي يفهم ذلك القانون، حتى في أتفه تفاصيله وأصغرها شأناً، إنما يفك مغاليق هذا الوحي لأننا "حدثا ازددنا فهماً للأشياء الفردية ازددنا فهماً لله(96)" (وقد هزت هذه الجملة مشاعر جوته باعتبارها أعمق تعبير في الأدب كله.). وبدا لسبينوزا أنه قبل وقابل في أمانة وإخلاص التحدي الضمني في كوبرنيكس-ليعيد تصور الإله على أساس جدير بالكون الذي يتكشف يوماً بعد يوم. ولم يعد ثمة صراع بين الفهم والدين عند سبينوزا، فهما شيء واحد.


الذهن

إن أكبر لغز في الفلسفة والفهم، بعد طبيعة الكون وعمله، هوطبيعة الذهن وعمله. وإذا كان من الصعب التوفيق بين نزعة خيرة بالغة القدرة وبين حياد الطبيعة وحتمية المعاناة والألم، فإنه يظهر من الصعوبة بنفس القدر حتى نفهم كيف من الممكن أن يستطيع شيء ظاهر أنه خارجي مادي محدود ذوحيز حتى يولد فكرة واضح أنها غير مادية وغير محدودة بحيز، وكيف تصبح فكرة في الذهن حركة في الجسم، أوكيف من الممكن أن تستطيع فكرة حتى تدقق التأمل في فكرة أخرى في غياهب الوعي.

ويتفادى سبينوزا بعض هذه المشاكل بنبذه فرضية ديكارت القائلة بأن الجسم والذهن جوهران مختلفان. ويعتقد حتى الجسم والذهن شيء واحد، وأنهما نفس الحقيقة، وأنهما يدركان في مظهرين أوصفتين مختلفتين مثلما حتى الامتداد والفكر شيء واحد في الله-ومن ثم لا تكون هناك معضلة في كيفية تأثير الجسم في الذهن أوالعكس بالعكس. وكل وقع هوالعملية المتزامنة الموحدة للجسم والذهن كليهما. ويعهد سبينوزا الذهن بأنه "فكرة الجسم(97)" أي العمل السيكولوجي (وليس بالضرورة عملاً واعياً) المتلازم والمرتبط بأية عملية فسيولوجية. فالذهن هوالجسم نحس به من الداخل، والجسم هوالذهن نراه من الخارج والحالة الذهنية هي المظهر الداخلي أوالباطني لأي عمل جسمي. وأي عمل "للإرادة" هوالمرافق الذهني لأية رغبة جسدية تتحول إلى تعبير بدني. وليس هناك عمل "للإرادة" في الجسم، ولكن هناك عمل واحد للكائن السيكوفسيولوجي (الذهني المادي)، وليست "الإرادة" هي العلة، بل هي وعي الحدث أوالعمل. "إن قرار الذهن، ورغبة الجسم وتصميمه... شيء واحد ليس إلا، إذا أدرجناه تحت صفة الفكر نسميه قراراً، وإذا اعتبرناه من صفا الامتداد، واستنتجناه من قوانين الحركة والسكون نسميه تصميماً "عملاً منتهياً(98)". ومن ثم فإن "نظام أفعال وانفعالات أوحركات جسمنا متزامنة مع نظام وانفعالات أوحركات الذهن(99)". وفي جميع أحوال التفاعل المفروض بين الذهن والجسم، ليست العملية الواقعية تفاعلاً بين حقيقتين أوجوهرين أوعاملين متميزين، بل هي عمل جوهر واحد، إذا رئي من الخارج سميناه جسماً، وإذا رئي من الداخل سميناه ذهناً. ولكل عملية في الجسم إلا أدركه الذهن(100)" ولكن هذا المتلازم الذهني قد لاقد يكون فكراً، بل قد يحدث شعوراً، وقد لاقد يكون بالضرورة واعياً، إلى غير ذلك يأتي الذي يمشي وهونائم بسلسلة من الأفعال وهو"غير واع(101)" وهذه النظرية تسمى "التوازي السيكوفسيولوجي"، وهي تفرض عمليات متوازية ، لا في وجودين مختلفين، بل في وحدة سيكوفسيولوجية (عقلية جسدية) ترى رؤية مزدوجة.

وعلى هذا الأساس ينتقل سبينوزا إلى وصف ميكانيكي لعملية الفهم. ومن المحتمل أنه حذا حذوهوبز في تعريف الإحساس والذاكرة والتصور على أسس بدنية(102). ويستدل على هذا بأن معظم الفهم ينشأ من تأثيرات تحدثها فينا أشياء خارجية. ولكنه يسلم بما يمضى إليه المثالي من حتى "الذهن البشري لا يدرك حتى جسماً خارجياً موجود بالعمل إلا عن طريق أفكار عن تعديلات في جسمه(103)". فالإدراك الحسي والعقلي، وهما شكلان للفهم، مشتقان من الإحساس. ولكن هناك شكل ثالث أسمى "الفهم البديهية"، ولا يستمد (هكذا يعتقد سبينوزا) من الإحساس، بل من وعي واضح متميز مباشر تام لفكرة أوحادث باعتباره جزءاً من نظام كوني له قانون.

واستبق سبينوزا لوك وهيوم حيث نبذ فكرة حتى الذهن قوة أووجود له أفكار، "فالذهن" تعبير عام أومجرد عن تسلسل المدركات الحسية والذاكرات والتصورات والمشاعر وغيرها من الحالات العقلية.

"وفكرة الذهن، والذهن نفسه" في أية لحظة "شيء واحد بعينه(104)". كما أنه ليس هناك "ملكات" متميزة، مثل العقل أوالإرادة، فهذه أيضاً تعبيرات مجردة عن مجموع المدركات والاختبارات. إذا للعقل أوالإرادة صله بهذه الفكرة أوتلك، وبهذه الرغبة أوتلك، بنفس أسلوب الصلة بين الحجرية وهذا الحجر أوذاك، أوالرجل بيتير أوبول(105). كما حتى الفكرة والرغبة لا تختلفان. فالرغبة وعمل "الإرادة" هي مجرد فكرة "أكدت نفسها(106)" (أي أنها طال على بقائها من الوقت ما يكفي لاستكمال نفسها أوتحقيقها في عمل-كما تعمل الأفكار تلقائياً إذا لم يقف في طريقها عائق). "وليس قرار الذهن.... إلا مجرد توكيد تنطوي عليه الفكرة بقدر ما هي فكرة(107).... والإرادة والفكر شيء واحد بعينه(108)".

وثمة وجهة نظر أخرى، تلك هي حتى ما نسميه إرادة هوببساطة ذروة الرغبات ونشاطها، "أنا أفهم الرغبة... على أنها جميع محاولات الإنسان وإندفاعاته وشهواته واختياراته التي لا يندر حتى يتعارض بعضها مع بعض، إلى حد أنه يتخبط هنا وهناك، وهولا يدري أية جهة يتجه(109)". والتروي هوتعاقب سيطرة الرغبات المتصارعة على الجسم والفكر. وهذا ينتهي عندما تثبت رغبة ما أنها بلغت من القوة مبلغاً تحتفظ معه بالحالة العقلية بها وقتاً كافياً لتنتقل إلى عمل. ويقول سبينوزا بأنه واضح أنه لا توجد "إرادة حرة"، فالإرادة في أية لحظة ليست إلا أقوى الرغبات. فنحن أحرار بقدر ما يجاز لنا حتى نعبر عن طبيعتنا أوعن رغباتنا دون عائق خارجي، ولسنا أحراراً في اختيار طبيعتنا اورغباتنا، إنما نحن رغباتنا. وليس الذهن إرادة مطلقة أوحرة ولكن الذهن محكوم عليه بأن يريد هذه أوذاك لعلة هي نفسها بدورها محكومة بعلة أخرى، وهذه بعلة ثالثة، إلى غير ذلك إلى ما لا نهاية(110)". ويظن الناس أنفسهم أحراراً لأنهم يعون اختياراتهم ورغباتهم، ولكنهم يجهلون العلل التي تؤدي بهم إلى حتى يتخيروا ويرغبوا(111)، ومثل هذا مثل حجر يقذف به في الفضاء فيظن أنه يتحرك ويهوي بمحض إرادته(112).

ومن الجائز حتى الجبرية الكلفنية في "جوالرأي" الذي عاش فيه ديكارت وسبينوزا أثناء إقامتهما في هولندا، قد أسهمت مع ميكانيكا جاليليو(ولم تكن قاعدة نيوتن قد ظهرت بعد) في تشكيل النظرية الميكانيكية عند ديكارت، وفهم النفس الجبري عند سبينوزا. والجبرية هي الإيمان بالقضاء والقدر دون لاهوت. وهي تحل محل الدوامة أوالسديم البدائي لله، وتتبع سبينوزا منطق الميكانيكا إلى نهايته المريرة، فإنه مثل ديكارت لم يقصره على الأجسام والحيوانات، بل طبقه على الأذهان كذلك، وكان لزاماً حتى يعمل ذلك، حيث حتى الذهن والجسم عنده شيء واحد. وخلص إلى حتى الجسم آلة(113). ولكنه أنكر حتى الجبرية تجعل الأخلاق عقيمة منافقة، إذا عظات رجال الأخلاق والمثل العليا عند الفلاسفة، ووصمة عار الاستنكار العام وعقوبات المحاكم لا تزال ضرورية ذات قيمة، وإنها لتدخل في تراث وخبرات الفرد الذي يكبر وينمو، ومن ثم في العوامل التي تشكل رغباته وتحدد إرادته وتحكمها.


الإنسان

يدخل سبينوزا في فلسفته التي يظهر أنها جامدة عاملين فعالين، أولهما وبصفة عامة، هوحتى المادة والذهن متحدان في جميع مكان، وأن جميع الأمور مفعمة بالحيوية والنشاط، وأن فيها شيئاً مماثلاً لما نسمعه في أنفسنا بالذهن أوالإرادة، والثاني، وعلى وجه التخصيص، هوحتى هذا العنصر الحيوي يشتمل في جميع شيء على "محاولة للإبقاء على الذات". حتى جميع شيء بقدر ما في نفسه يسعى للمحافظة على وجوده هونفسه. و"قدرة أي شيء أوسعيه... للإصرار على وجوده، ليس إلا... مجرد ماهية ذاك الشيء(114)". ومثل الفلاسفة السكولاسيين الذين نطقوا "أن تكون هوحتى تعمل"، وأن الله "نشاط محض"، ومثل شوبنهور الذي رأى في الإرادة ماهية جميع الأمور، ومثل الفيزيائيين الحديثين الذين يختزلون المادة إلى طاقة يعهد سبينوزا ماهية جميع كائن عن طريق قدراته على العمل أوالعمل. "وقدرة الله هي من نفس ماهيته(115)"، وفي هذه الناحية "يكون الله طاقة (ويمكن حتى تسمى الطاقة، بالإضافة إلى المادة والذهن، صفة ثالثة ندرك أنها تؤلف ماهية الجوهر أوالحقيقة)". ويحذوسبينوزا حذوهوبز في تصنيف الوجودات حسب قدرتها على العمل وتأثيرها. "ويقدر كمال الأمور حسب طبيعتها وقدرتها فحسب(116)" ولكن "كامل" عند سبينوزا معناه "تام".

ونتيجة لهذا يعهد سبينوزا الفضيلة بأنها القدرة على التصرف والعمل، "أني أفهم من الفضيلة والقدرة نفس الشيء(117)". ولكنا سنرى حتى هذه القدرة تعني القدرة على أنفسنا، حتى أكثر من القدرة على الآخرين(118)حدثا ازداد المرء سعياً وراء ما فيه نفعه-سعياً وراء المحافظة على وجوده-ازداد تنعمه بالفضيلة... فالسعي للمحافظة على الذات هوالأساس الوحيد للفضيلة(119). فالفضيلة عند سبينوزا حيوية (بيولوجية)، داروينية على الأغلب، إنها أية صفة تعمل على البقاء. وبهذا المعنى، على الأقل، تكون الفضيلة جزاء الفضيلة. "فهي مرغوب فيها من أجلها هي وحدها، وليس ثمة شيء أكثر امتيازاً أونفعاً لنا.... من أجله ينبغي حتى تكون الفضيلة مرغوباً فيها(120)".

ولما كان السعي للمحافظة على الذات (التنازع من أجل البقاء) هوالماهية الفعالة لكل شيء. فإن جميع الدوافع تنبع منه، وهذه الدوافع في أساسها أنانية. ومن حيث حتى العقل لا يطالب بشيء ضد الطبيعة، فهويطالب، لذلك، بأن يحب جميع إنسان نفسه، ويلتمس ما مفيد له-أعني ما حقاً له-ويرغب في جميع ما يؤدي بالإنسان حقاً إلى حالة كمال أعظم، وأخيراً أنه يجب على جميع إنسان حتى يسعى جاهداً للمحافظة على وجوده قدر استطاعته(121). وليس ضرورياً حتى تكون هذه الرغبات واعية، فقد تكون شهوات لا واعية قائمة في الجسد. وهي تؤلف في جملتها ماهية الإنسان(122). ونحن نحكم على جميع الأمور على أساس رغباتنا. نحن لا نناضل من أجل أي شيء أونريده أونتلمسه ونرغب فيه لأننا نظن أنه خير، بل نحكم على شيء بأنه خير... لأننا نرغب فيه(123). "أني أفهم حتى الخير هوما نفهم فهم اليقين أنه نافع لنا(124)" (وهنا نجد، في جملة واحدة، ممضى المنفعة عند بنتام).

وكل رغباتنا تهدف إلى اللذة أوتجنب الألم. "اللذة هي انتنطق الإنسان من حالة كمال أدنى(125)" واللذة تصاحب أية ممارسة وشعور يؤيد ويزيد من قيمة النشاط أوالتقدم الذاتي الجسدية العقلية(126). ويتمثل الفرح في حتى قدرة المرء تزداد(127)" . وكل شعور يوهن من حيوتنا إنما هوضعف لا فضيلة. وما أسرع ما يتخلص الرجل السليم من مشاعر الحزن والندم والاتضاع والأسف(129)، وهوعلى أية حال أكثر من الرجل الضعيف استعداداً لمد يد المساعدة، لأن الكرم فائض القوة الواثقة. وأية لذة تكون مشروعة إذا لم تعوق لذة أعظم أوأبقى، ويمتدح سبينوزا، مثل أبيقور، اللذات العقلية باعتبارها أوفضلها، ولكنه يسوق حدثة طيبة في تشكيلة كبيرة من اللذات:

لا يمكن حتىقد يكون ثمة مرح بالغ.... وليس هناك ما يحرم الضحك إلا الخرافة الكئيبة.... والإفادة من جميع الأمور والابتهاج بها قدر الإمكان (لا إلى حد التخمة حقاً، لأن هذه ليست ابتهاجاً) جزء من الرجل الحكيم العاقل.. فيتناول المعتدل الطيب من الطعام والشراب، ويستمتع بالعطور والحدائق والثياب والموسيقى والألعاب والمسارح(130).

أن المشكلة في مفهوم اللذة باعتبارها تحقيقاً للرغبات، تكمن في حتى الرغبات قد تتصارع، فإن الرغبات لا تنتظم في تسلسل متناسق منسجم إلا عند الإنسان العاقل الحكيم. والرغبة عادة هي المتلازم الواعي لشهوة متأصلة في الجسم، وقد يبقى قدر كبير من الشهوة غير واع، إلى حد أننا لاقد يكون لدينا إلا مجرد "أفكار مشوشة غير وافية" عن عللها ونتائجها. ومثل هذه الرغبات المشوشة يسميها سبينوزا عواطف أوانفعالات. ويعهدها بأنها "تعديلات في الجسم تزيد أوتنقص بها قدرة الجسم على العمل.... وفي نفس الوقت أفكار هذه التعديلات(131)" وهوتعريف يسلم تسليماً غامضاً بدور الإفرازات الباطنية في العواطف، يستبق بشكل ملحوظ نظرية س.ج.لانج ووليم جيمس التي تقول بأن التعبير الجسدي عن العاطفة هوالنتيجة المباشرة الغريزية للعلة، وأن الشعور الواعي مصاحب أونتيجة، لا علة، لتعبير الجسم أواستجابته. ويقترح سبينوزا دراسة العواطف-الحب والبغض والغضب والخوف الخ-وسيطرة العقل عليها "بنفس الطريقة... كما لوكنت أعالج الخطوط والسطوح والأجسام(132)" لا لأمتدحها ولا لأنتقص منها، لا لأفهمها، لأننا "حدثا ازددنا فهم بالعاطفة ازدادت سيطرتنا عليها، وأصبح الذهن أقل سلبية بالنسبة لها(133)". ودان تحليل العواطف الناتج عن هذه الدراسة ببعض الفضل لديكارت، وربما بفضل أكبر لهوبز، ولكنه بزهما، حتى حتى جوهانس موللر، عندما عالج موضوع العواطف في كتابه الممتاز "فسيولوجية العواطف" (1840) خط يقول "بالنسبة لعلاقات العواطف بعضها ببعض، بعيداً عن ظروفها الفسيولوجية، فإنه يتعذر الإداء ببيان أوفى مما ذكره سبينوزا في براعة لا تفوقها براعة(134)"-وأخذ يقتبس كثيراً من كتاب "الأخلاق".

وتصبح العاطفة هوى أوانفعالاً، إذا كانت علتها الخارجية-بسبب أفكارنا المهوشة الناسيرة عن منشئها ومغزاها-تفرض علينا شعورنا واستجابتنا، كما هوالحال في البغض أوالغضب أوالخوف". حتى الذهن يخضع بشكل أوبآخر للأهواء والانفعالات، تبعاً لما لديه بنفس القدر من أفكار كافية أوناسيرة(135). والإنسان ذوالمقدرة الضعيفة على الإدراك الحسي والفكري خاضع بصفة خاصة للأهواء. ومثل هذه الحياة يصفها سبينوزا في كتابه الفذ، الجزء الرابع، "استرقاق الإنسان"، فإن هذا الإنسان مهما كان تصرفه عنيفاً، سلبي بليد، مسوق بمؤثر خارجي، بدلاً من حتى يتماسك ويثبت ويعمل فكره. "إن أسباباً خارجية تقودنا على غير هدى في دروب متشعبة كثيرة، وكما تسوق الرياح الهوج غير المواتية الأمواج سوقاً، فإننا نضطرب ونتردد على غير وعي بالعاقبة ولا بالمصير(136)".

ترى هل نستطيع فكاكاً من هذا الاسترقاق، ونصبح بدرجة ما سادة أنفسنا وحياتنا؟.


العقل

لن تكون لنا سيادة تامة على أنفسنا أبداً، لأننا سنبقى جزءاً من الطبيعة، خاضعين (كما كان يقول نابليون) "لطبيعة الأمور". وحيث حتى العواطف هي قوتنا الدافعة، والعقل مجرد ضوء، وليس لهيباً، "فإن أية عاطفة لا يمكن تعويقها أوالقضاء عليها إلا بعاطفة أخرى متعارضة وأشد قوة(137)". ومن هنا كان المجتمع بحق يحاول جاهداً حتى يلطف من انفعالاتنا وأهوائنا باللجوء إلى حبنا للثناء وحسن الجزاء وخوفنا من العتاب والعقاب(138). كما يسعى المجتمع جاهداً بحق ليغرس فينا الشعور بالصواب والخطأ وسيلة أخرى لكبح جماح الأهواء والانفعالات. والضمير، بطبيعة الحال، نتاج اجتماعي، وليس هبة أومنحة فطرية إلهية(139).

ولكن في استخدام الثواب والعقاب الوهميين في الحياة بعد الموت، حوافز على الخلق القويم، تشجيعاً على الخرافة، لا يليق أبداً بمجتمع ناضج. وينبغي حتى تكون الفضيلة-وهي عملاً كذلك-جزاء نفسها، إذا عهدناها، مثل الرجال، بأنها المقدرة والذكاء، والقوة، لا مثل الجبناء، بأنها الإذعان والطاعة والتواضع والخوف. واشمأز سبينوزا من النظرة المسيحية إلى الحياة بأنها واد من الدموع، وإلى الموت بوصفه مدخلاً للنعيم أوالجحيم، وقد أحس بأن هذا يلقي حجاباً كثيفاً من الكآبة على نشاط البشر، ويغشي بفكرة الخطيئة آمال الناس وأمنياتهم ومسراتهم المشروعة بالظلام والقتام. إذا التفكير في الموت ليل نهار سبة في جبين الحياة وامتهان لها "أن أقل ما يفكر فيه الإنسان الحر هوالموت، وأنه ليفرغ جميع حكمته وعقله في التأمل في الحياة، لا في الموت(140)".

وعلى الرغم من ذلك كان سبينوزا يظهر في بعض الأحايين وكأنه يحوم حول فكرة الخلود حتى نظريته في الذهن والجسم باعتبارهما جانبين لنفس الحقيقة أدت به منطقياً إلى حتى يرى فناءها متزامناً. وهويؤكد هذا في وضوح تام: "أن الوجود الراهن للذهن، وقدرته على التصور تزولان بمجرد حتى يكف الذهن عن توكيد الوجود الراهن للجسم(141)". ثم "أن الذهن لا يمكن حتى يتصور شيئاً، ولا حتى يتذكر شيئاً مضى إلا حينقد يكون الجسم موجوداً(142)". وتظهر في الجزء الخامس بعض فروق غامضة: "أننا إذا نظرنا إلى الرأي السائد بين الناس لرأينا أنهم يعون حقاً خلود أذهانهم، ولكنهم يخلطون بين هذا وبين البقاء أوالدوام، وينسبونه إلى التصور والذاكرة اللتين يعتقدون أنهما تبقيان بعد الموت(143)". وما دام الذهن تعبير عن سلسلة من الأفكار والذكريات والتصورات المؤقتة المرتبطة بجسم معين، فإنه ينبتر وجوده عندما يفنى الجسم، وهذا هو"البقاء الفاني" الذهن. ولكن ما دام الذهن البشري يدرك الأمور في علاقاتها الأبدية، باعتبارها جزءاً من المنهج الكامل الذي لا يتغير للقانون الطبيعي، فإنه يرى الأمور كأنها في الله، ويصبح جزءاً من الذهن الإلهي ويكون خالداً: أننا نتصور الأمور واقعية بطريقتين: أما بقدر ما نتصور وجودها بالنسبة لزمان ومكان معينية، أوبقدر ما نراها متضمنة في الله (وفي النظام والقوانين الأزلية) وأنها تنشأ عن ضرورة الطبيعة الإلهية (أي تلك القوانين). ولكن الأمور التي ترى في الحالة الثانية على أنها صادقة أوحقيقية إنما نتصورها نوعاً معيناً من الأزلية (في جانبها الأزلي). وأفكارها تتضمن ماهية الله الأزلية اللامتناهية(144).

وعندما نرى الأمور بهذه الحالة السرمدية، فإننا نراها كما يراها الله، وعند هذا الحد تصبح أذهاننا جزءاً من الذهن الإلهي، وتشارك في الأزلية.

أننا لا ننسب إلى ذهن الإنسان بقاء يحدد بزمن. ولكن حيث حتى هناك، على الرغم من ذلك، شيئاً آخر يتصور في ظل ضرورة أزلية معينة، عن طريق ماهية الله، فإن هذا الشيء الآخر سيكون بالضرورة الجزء الأزلي الذي يتعلق بالذهن(145).... ونحن على يقين من حتى الذهن أزلي طالما أنه يتصور الأمور في ظل الأبدية(146).

ولنفترض أنه في التأمل في التسلسل المهيب للعلة والنتيجة الظاهرتين طبقاً لقوانين واضح أنها أبدية، أحس سبينوزا أنه قد هرب، مثل بوذي بلا خطيئة، من أغلال الزمن، وشارك في وجهة نظر الذهن الأزلي وهدوئه.

وعلى الرغم من الوصول الظاهري للقمر، خصص سبينوزا معظم ختام الجزء الخامس "الحرية الإنسانية" لصياغة فهم أخلاق طبيعي، ينبوع ومنهج الأخلاق، مستقلين عن الحياة بعد الموت، ولوحتى استخدم في ولع شديد تعبيرات دينية، وأن جملة واحدة لتكشف عن نقطة البداية. "أن العاطفة التي تكون انفعالاً أوهوى لا تعود انفعالاً ولا هوى إذا نحن كونا عنها فكرة واضحة متميزة(147)"-أي حتى العاطفة التي تثيرها أحداث خارجية يمكن الهبوط بها من الانفعال إلى شعور منضبط إذا هيأنا لمعهدتنا حتى نحتال عليها حتى تصبح علتها وطبيعتها واضحتين، كما يصبح التنبؤ بعاقبة التصرف أمراً ممكناً من خلال الخبرة المختزنة في الذاكرة. وثمة طريقة لإيضاح الحالة العاطفية، تلك هي حتى نرى الأحداث التي أنشاتها، بوصفها جزءاً من سلسلة من علل طبيعية ونتائج ضرورية لها. "وبقدر ما يفهم الذهن جميع الأمور على أنها ضرورية لازمة،قد يكون اكثر سيطرة على العواطف، وأقل سلبية نحوها(148)"-أي أقل نهباً للانفعالات والأهواء. ولن يصبح أي إنسان انفعالياً لما يعتبره طبيعياً لازماً. ويمكن التخفيف من حدة الغضب لأية إساءة، إذا نظرنا إلى المسيء باعتباره نتاج الظروف التي لم يستطع التحكم فيها. كما يمكن التخفيف من الحزن على فقد والدين مسنين بتذكر حتى الموت أمر طبيعي. "ومحاولة الفهم هي الأساس الأول الوحيد للفضيلة(149)"، بمعنى هذه الحدثة عند سبينوزا، لأنها تنقص من خضوعنا للعوامل الخارجية، وتزيد من قدرتنا على ضبط أنفسنا والمحافظة عليها. والفهم قدرة أوقوة، ولكن أفضل وأنفع شكل لهذه القمة هوسيطرتنا على أنفسنا.

إلى غير ذلك يطبق سبينوزا طريقته الرياضية (طريقة إقليدس) علي حياة العقل. ويسترجع الأنواع الثلاثة التي وضعها للفهم، فيصف الفهم الحسية، بأنها تهجرنا عرضة إلى حد كبير للمؤثرات الخارجية، والفهم العقلانية (المكتسبة عن طريق التفكير والتأمل) بأنها تحررنا تدريجياً من استرقاق الانفعالات حيث تمكننا من رؤية العلل المحتومة غير الشخصية للأحداث، وأخيراً الفهم البديهية أوالحدسية-الوعي المباشر بنظام الكون-ويصفها بأنها تجعلنا نحس أنفسنا جزءاً من ذاك النظام، "ومتحدين مع الله". وينبغي ان نتسقط ونحتمل وجهي الحظ كليهما بنفس الذهن، لأن جميع الأمور تنشأ من القانون الأبدي لله، بنفس الكيفية التي ينشأ بها من ماهية المثلث حتى زواياه الثلاث تشكل زاويتين قائمتين(150). حتى هذا الهروب من التفكير الطائش هوالحرية الحقيقية الوحيدة(151). وهذا الذي يستطيع بلوغها، يملان-كما اعتاد الرواقيون حتى يقولوا-أنقد يكون حراً في جميع الظروف في جميع حالة تقريباً. حتى أكبر هبة يمكن حتى تمنحنا إياها الفهم هي حتى نرى أنفسنا كما يرانا العقل. وعلى هذا الأساس من الممضى الطبيعي يصل سبينوزا إلى بعض نتائج أخلاقية، مثل تلك التي وصل إليها المسيح، بشكل يدعوإلى الدهشة:

أن الذي يعهد بحق حتى جميع الأمور تنشأ من ضرورة الطبيعة الإلهية، وتسير وفق قوانين أزلية طبيعية منتظمة، لن يجد إطلاقاً شيئاً جديراً بالكراهية، أوالسخرية أوالازدراء، كما أنه لن يرثى لأحد، ولكنه، بقدر ما تسمح الفضيلة البشرية، سيسعى جهده ليعمل صالحاً.... ويبتهج(152).... حتى الذين يعترضون على الناس ويؤثرون استنكار الرذائل، لا غرس الفضائل... مصدر ازعاج لأنفسهم وللآخرين معاً(153).... حتى الرجل القوي لا يبغض أحداً، ولا يثير غضبه أحد، ولا يحسد أحداً، ولا ينقم على أحد، وليس بأية حال مغروراً(154). حتى الذي يعيش على هدى من العقل، يحاول قدر طاقته حتى يقابل الكراهية والغضب والاحتقار... الخ، بالحب والكرم... وهذا الذي يرغب في الانتقام للأدى بالكراهية المتبادلة، إنما يعيش حليف البؤس والشقاء. فالكراهية تتفاقم إذا كانت متبادلة، وعلى العكس يمكن القضاء عليها بالحب(155).... والناس، بهدى من العقل،.... لا يرجون لأنفسهم شيئاً لا يحبونه لسائر البشر(156). (أحب لأخيك ما تحب لنفسك).

وهل ضبط العاطفة بالعقل على هذا النحو، يتعارض كما يطن بعضهم(157)، مع تسليم سبينوزا بأنه ليس ثمة إلا عاطفة يمكن حتى تقهر عاطفة؟. من الجائز حتىقد يكون هذا إلا إذا كان من الميسور حتى يرتفع التزام جادة العقل إلى مستوى عاطفي وتحمس. حتى الفهم الحقة بالخير والشر لا يمكن حتى تكبح جماح أية عاطفة بقدر ما تكون الفهم حقة، بل يقدر ما تعتبر هذه الفهم عاطفة(158). إذا تلك الحاجة، وربما الرغبة في الهاب العقل وأثارته بعبارات تكللها التقوى والزمن بالتبجيل والاحترام، هي التي أدت بسبينوزا إلى الفكر الأخير الذي توج به عمله-وهوحتى "الحب العقلي لله" يجب حتى يلهم حياة العقل ويحمل من شأنها. وحيث حتى "الله" في رأي سبينوزا، هوالحقيقة الأساسية، والقانون الثابت الذي لا يتغير للكون نفسه، فإن هذا الحب العقلي لله ليس مجرد استرضاء مذل لسلطان جالس على طبيعة الأمور ونظام العالم. إذا احترام إرادة الله، والامتثال الواعي لقوانين الطبيعة شيء واحد. وبقدر ما يجد العالم الرياضي من رهبة ونشوة في حتى يرى العالم خاضعاً لقواعد قياسية رياضية، قد يجد الفيلسوف أعمق سرور في تأمل عظمة الكون يسير رابط الجأش في تواتر القانون الكوني الكامل. وحيث حتى "الحب لذة مصحوبة بفكرة علة خارجية(159)، فإن الحب الذي نستمده من رؤية نظام الكون-وتكييف أنفسنا معه-يسموإلى حب الله الذي هوحياة ونظام الكل. وحينئذ يغمر حب الكائن السرمدي اللامتناهي، يغمر الذهن تماماً بالفرح والبهجة(160)". حتى هذا التأمل في العالم، كنتيجة لازمة لطبيعته-طبيعة الله-هوالمصدر الآخر للرضا والاطمئنان في ذهن الإنسان العاقل، وهويوفر له هدوء التفكير والارتياح إلى قيود أوالحدود المعترف بها للحق المحبوب المقبول. "أن أعظم خير للذهن هوفهم الله، وأسمى فضيلة في الذهن هي فهم الله(161)".

إلى غير ذلك زواج سبينوزا في نفسه بين العالم الرياضي والمتصوف. وأبى حتى يرى في ربه روحاً قادرة على لقاءة حب الإنسان أومكافأة الابتهالات والصلوات بالمعجزات، ولكنه خص ربه بالعبارات الرقيقة التي ألهمت لآلاف السنين أبسط المتدينين المتحمسين وأعمق المتصوفين في البوذية واليهودية والمسيحية والإسلام، ووجدوا فيها السلوى والراحة. ومذ قبع سبينوزا واهناً مقروراً وحيداً في علياء فلسفته، تواقاً إلى حتى يعثر في الكون على شيء يتقبل عبادته وثقته، فإن المهرطق الوديع، الذي كان قد أبصر الكون رسماً هندسياً، انتهى برؤية جميع الأمور في الله وفقدانها في الله، حيث أصبح "الملحد" النشوان بحب الله. مما أدى إلى أرتابك الأجيال القادمة وحيرتها. حتى الدافع الذي لا يقاوم للعثور على معنى في الكون جعل النأي عن جميع عقيدة يختم محاولته برؤية إله قدير، وبإحساس مثير رفيع بأنه كان قد بلغ الأبدية، ولوللحظة واحدة.


الدولة

إن سبينوزا، بعد حتى كان قد انتهى من كتاب "الأخلاق" من الممكن أحس، مثل معظم القديسين المسيحيين، بأنه قد صاغ فلسفة لمنفعة الفرد وخلاصه، لا لتوجيه وهداية جماعة المواطنين في دولة. ومن ثم فإنه حوالي 1675 تفرغ لدراسة الإنسان "حيواناً سياسياً"، وليطبق العقل على مشاكل المجتمع. وشرع في تدوين شذرات "الرسالة السياسية"، موطداً العزم، كما عمل في تحليل الانفعالات، على حتىقد يكون موضوعياً ينتهج أسلوب عالم الهندسة أوالفيزياء:

رغبة في درس مادة هذا الفهم بنفس الروح الحرة التي ننتهجها بصفة عامة في الرياضيات، بذلت غاية الجهد في الحرص على ألا أسخر من أفعال البشر أوأرثى لها، بل على حتى أتفهمها، ولهذا الغرض نظرت إلى انفعالات الحب والكراهية والغضب، والحسد والطمع والحسرة وسائر إرهاصات الذهن، لا في ضوء رذائل الطبيعة البشرية، بل باعتبارها من خواص الذهن، وهي وثيقة الصلة به، مثل الصلة الوثيقة بين الحرارة والبرودة، والعاصفة والرعد، وما إليها، وبين طبيعة الجو(162). ومذ كانت الطبيعة الإنسانية هي مادة فهم السياسة، فإن سبينوزا أحس بأن دراسة الدولة ينبغي حتى تبدأ ببحث الخلق الأساسي للإنسان. وقد نفهم هذا بشكل أفضل إذا تيسر لنا حتى نتصور الإنسان قبل حتى يعدل التنظيم الاجتماعي من سلوكه، بالقوة والأخلاقيات وبالقانون، وأن نتذكر حتى تحت خضوعه الهم الكريه لهذه المؤثرات التي تؤهله لبيئة اجتماعية، لا تزال تضطرم بين جنبيه دوافع غير مشروعة لم يكن يجد منها في "حالة الطبيعة" إلا الخوف من القوة العدائية. وحذا هوبز وكثيرين غيره في القول بأن الإنسان عاش يوماً في مثل هذه الحالة، وبأن صورته في هذه الوحشية الافتراضية تكاد تكون قاتمة مثل صورته في "اللواياثان" تقريباً. وفي "جنة الشر" هذه كانت قوة الفرد هي الحق الوحيد، ولم يكن ثمة شيء يعتبر جريمة لأنه لم يكن هناك قانون ولم يكن ثمة شيء عدل أوظلم، صواب أوخطأ، لأنه لم يكن هناك قانون أخلاقي. وبناء على هذا "كان قانون الطبيعة وأوامرها لا تخطر شيئاً.. ولا تقاوم الصراع أوالكراهية أوالغضب أوالخيانة أوبصفة عامة أي شيء توحي به الشهوة(163)". وبمقتضى "حق الطبيعي حينذاك، أعنى بعملية الطبيعة، متميزة عن قواعد المجتمع وقوانينه-يكون لأي لإنسان الحق هذا فيما تمكنه قوته من اكتسابه أوالاستيلاء عليه، ولا يزال هذا أمر مسلماً به بين الأجناس استغلال الحيوانات لخدمته أولغذائه(165).

ويلطف سبينوزا من هذه الصورة الوحشية بالإيحاء بأن الإنسان، حتى في أول ظهوره على الأرض، من الممكن كان يعيش بالعمل في جماعات اجتماعية. ومن حيث حتى الخوف من الوحدة كان في جميع الناس-لأن أي إنسان في الوحدة لا يملك من القوة ما يدافع به عن نفسه، ويحصل به على ضرورات حياته-فإن هذا يستتبع ينزع الناس بالطبيعة إلى تنظيم اجتماعي(166). ومن ثم فإن في الناس غرائز اجتماعية وغرائز فردية على حد سواء. وللمجتمع وللدولة جذور في طبيعة الإنسان. وكيفما وقع هذا وحيثما حدث، فإن الناس والأسرات اتحدت في جماعات، وحد آنذاك حق الجماعة أوقوتها من "الحق الطبيعي" للفرد أومن قوته. ولا ريب في حتى الناس قبلوا هذه القيود أقوى أداة للإبقاء على الفرد ولتنميته وتطويره. وعلى ذلك فإن تعريف الفضيلة بأنها أية صفة تعمل على البقاء-مثل "النزوع للمحافظة على الذات(167)"- كان ينبغي التوسع فيه (أي التعريف) ليضم أية صفة تعمل على بقاء الجماعة. حتى التنظيم الاجتماعي، والدولة على الرغم من تقييداتها، والمدنية على الرغم من خداعها، جميع هذه هي أعظم المخترعات التي ابتدعها الإنسان للمحافظة على ذات وتنميتها وتطويرها. ولذلك يستبق سبينوزا رد فولتير على روسو:

دع الهجائين يسخروا ما طابت لهم السخرية من شئون البشر، ورجال اللاهوت يلعنوهم، ودع المكتئبين يمتدحوا قدر طاقتهم الحياة الانعزالية القاسية الوحشية، فليزدروا الإنسان ويعجبوا بالوحوش، عملى الرغم من هذا كله، سيجد الناس أنهم، بالعون المتبادل، وفي يسر أكثر كثيراً، يستطيعون إعداد ما يحتاجون إليه... والإنسان الذي يسير بهدى من العقل أكثر حرية من دولة يعيش فيها وفق القانون العام، منه في وحدة لا يخضع فيها لأي قانون(168).

ويرفض سبينوزا كذلك الطرف الآخر من حلم "لا قانون"-يوتوبيا الفوضوي الفيلسوف:

إن العقل يستطيع حقاً حتى يصنع الكثير ليكبح جماح الانفعالات والتخفيف منها، ولكنا رأينا.... حتى الطريق الذي يحدده العقل نفسه شديد الوعورة، ومن ثم فإن الذين يقنعون أنفسهم بأن الجمهور قد يغريه يوماً حتى يعيش وفق أوامر العقل المجردة، لا بد أنهم يحلمون بالبيضة المضىية الوارد ذكرها في الأشعار، أوبرواية مسرحية(169).

وينبغي حتىقد يكون هدف الدولة مهمتها تمكين أعضائها من حتى يحيوا حياة العقل:

ليست الغاية القصوى للدولة حتى تهيمن على الناس، ولا حتى تكبح جماحهم بالرهبة، بل حتى تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً جميع الاطمئنان، دون حتى يلحق به أوبجاره أي أذى. وليست غاية الدولة حتى تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات (كما هوالحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، حتى غايتهم حتى توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه.... حتى غاية الدولة حقاً هي الحرية(170).

ونتيجة لذلك يجدد سبينوزا دعوته إلى حرية التعبير، أوعلى الأقل حرية الفكر، ولكنه استسلم مثل هوبز، للخوف من التعصب والصراع الديني، فاقترح، لا مجرد إخضاع الكنيسة للدولة، بل حتى تحدد الدولة أي الممضى الدينية يلقن للناس. وينتقل سبينوزا إلى درس الأشكال التقليدية للحكومة، وإذ أصبح وطنياً هولندياً منبرماً يغزولويس الرابع عشر لهولندا، فإن الملكية لم ترق في عينيه، وهاجم بشدة نظرية هوبز في الحكم الاستبدادي المطلق:

المظنون حتى التجارب تفهمنا حتى وضع السلطة في يد رجل واحد منادىة للسلام والهدوء والانسجام، لأن أي نظام سياسي لم يخط له البقاء طويلاً دون تغيير يذكر، مثل النظام الهجري، على حين حتى أي نظام لم يكن قصير الأجل تعتروه الفتن والمشاغبات سوى الدول ذات النظام الشعبي أوالديموقراطي. ولكن إذا كانت العبودية والوحشية والدمار تسمى سلاماً، لكان السلام أشد محنة تبتلى بها الدولة... إذا الاسترقاق. لا السلام، هوالذي ينتج عن وضع السلطة في يد رجل واحد. فإن السلام لا يكمن في عدم وجود الحرب، بل في اتحاد نفوس الناس وانسجامها(171).

وقد تكون الأرستقراطية "حكومة الصفوة" ممتازة، لولم تكن هذه الصفوة خاضعة للروح الطبقية والحزبية العنيفة وجشع الفرد أوالأسرة. إذا تجرد الأرستقراطيون أوالأشراف من جميع الأهواء وكانوا لا يصدرون في أعمالهم إلا عن غيرة على المصلحة العامة، لما كان ثمة دولة يمكن حتى تقارن بالأرستقراطية. ولكن التجربة تفهمنا فهم اليقين حتى الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، أي حتى الأمور تجري على عكس ما نريد(172).

إلى غير ذلك شرع سبينوزا في أواخر أيام حياته وهوعلى سرير الموت يخطط آماله في دولة أرستقراطية. حتى الرجل الذي أحب جان دي ويت الذي قتله الرعاع، لم تساوره أية أوهام بالنسبة للجمهور. أوأولئك الذين خبروا تقلب مزاج الناس، كاد يتغلب عليهم اليأس، لأن الناس تحكمهم العاطفة، لا العقل، لأنها تغلب على جميع شيء، وما أيسر حتى يفسدها الجشع والترف(173). ومع ذلك "أعتقد حتى الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أويفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هولا يعمل إلا حتى ينقله إلى الأغلبية(174)" واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم(175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا "أمكن حتى تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح(176)". وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره(177). وما ينبغي حتىقد يكون هناك إلا ضريبة واحدة:

الحقول والأرض كلها، والبيوت إذا أمكن تدبيرها حتى تكون ملكاً عاماً، أي ملكاً لمن له حق الحكم في الدولة، وهذا بدوره يؤجرها للمواطنين لقاء إيجار سنوي... وبهذا الاستثناء وحده، دعهم أحراراً معفين من أي نوع من الضرائب في زمن السلم(178).

وفي اللحظة التي أقبل فيها على أثمن جزء من رسالته اختطف الموت القلم من يده.


سلسلة من التأثيرات

في السلسلة الضخمة من الأفكار التي تربط تاريخ الفلسفة إلى مجرى كريم واحد يتلمس فيه الفكر البشري الحائر طريقه، نجد منهج سبينوزا يتشكل في عشرين قرناً وراءه، ويسهم في تشكيل العالم الحديث. أنه أولاً، بطبيعة الحال، كان يهودياً، وعلى الرغم من أنه كان محروماً من الكنيس، فإنه لم يستطع حتى يخرج عن هذا التراث الضخم، ولا حتى ينسى سنين تأمله في العهد القديم والتلمود وكثير من الفلاسفة اليهود. ولنعد بالذاكرة إلى الهرطقات التي روعت انتباهه في ابن عزرا وابن ميمون، وهاسادي كريسكاس، وليفي بن جرسون وأورييل أكوستا. ولا بد حتى دراسته للتلمود ساعدت على شحذ الإحساس المنطقي الذي جعل من رسالة "الأخلاق" معبداً ممتازاً للعقل. نطق سبينوزا "أن بعض الناس" يبدءون فلسفتهم من الأمور المخلوقة، وبعضهم من الذهن البشري، أما أنا فأبدأ من الله(179). وتلك كانت الطريقة اليهودية.

إن سبينوزا أخذ القليل عن الفلاسفة الذي جرت التنطقيد على أشد الاعجاب بهم ولوأنه في تمييزه بين عالم الأمور العابرة وعالم الله ذي القوانين الأزلية. قد نجد صيغة أخرى لتفريق أفلاطون بين الوجودات الفردية ونماذجها الأصلية في ذهن الله. وأمكن تتبع تحليل سبينوزا للفضائل إلى كتاب أرسطو"الأخلاق" عند نيقوماخوس(180). ولكنه نطق لأحد أصدقائه "لم يكن أفلاطون وأرسطووسقراط كبيرون عندي(181)". أنه مثل بيكون وهوبز، آثر ديمقريتس وأبيقور ولوكريشيوس. وقد يرجع مثل الأعلى في الأخلاق صدى الرواقيين، وقد ترن في آذاننا بعض نبرات ماركوس أوريليوس، ولكنه كان منسجماً جميع الإنسجام مع أبيقور. أن سبينوزا دان للفلاسفة السكولاسيين بفضل أكثر مما وضح له. إنهم تسربوا إليه عن طريق ديكارت. إنهم كذلك-مثل توما الأكويني في "الرسالة الجامعة" الرائعة. كانوا قد حاولوا عرضاً هندسياً للفلسفة، وزودوه بكثير من المصطلحات، مثل الجوهر، والطبيعة الخالقة، والصفة والماهية والخير الأسمى وكثير غيرها. حتى قولهم بتعادل الوجود والماهية في الله، أصبح ما نطق به هوتعادل الوجود والماهية في الجوهر، ومد إلى الإنسان إدماجهم العقل والإرادة في الله.

وربما قرأ سبينوزا أعمال برونو(كما يظن بيل)، وارتضى تمييز جيوردانوبين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة. وربما أخذ التعبير والفكرة عن كتاب برونو"المحافظة على الذات(182)" وربما عثر عند الإيطالي على وحدة الجسم والذهن، ووحدة المادة والروح، ووحدة العالم والله، ومفهوم الفهم الأسمى، بمعنى رؤية جميع الأمور في الله-ولوحتى المتصوفة الألمان لا بد نشروا هذا الرأي حتى في المدينة التجارية أمستردام.

وعن طريق مباشر أكثر أوحى إليه ديكارت بمثل فلسفته، ونفره وثبط من همته بتفاهات لاهوتية. وألهبت خياله محاولة ديكارت حتى يجعل الفلسفة تتسار مع أقليدس شكلاً ووضوحاً. وربما تبع ديكارت في رسم قواعد لتوجيه حياته وعمله. واقتبس عن طيب خاطر وجهة نظر ديكارت في حتى أية فكرة لا بد حتى تكون صادقة، إذا كانت "واضحة متميزة". وقبل وعمم رأي ديكارت في حتى العالم آلة من علة ونتيجة، نابعة من دوامة بدائية قدماً إلى الغدة الصنوبرية، واعترف بأنه مدين بالفضل لتحليل ديكارت للانفعالات(183).

وواضح حتى "لواياثان" هوبز في ترجمته اللاتينية لقي ترحيباً كبيراً من فكر سبينوزا، وهنا صيغ مفهوم الآلية (ميكانيكية العالم) دون رحمة وبلا وجل. حتى الذهن الذي فرق ديكارت بينه وبين الجسم ومنحه الحرية والخلود، أصبح عند هوبز وسبينوزا خاضعاً لقانون كوني عام، وهوقابل لمجرد خلود غير ذاتي، أولا خلود مطلقاً. ووجد سبينوزا في "لواياثان" تحليلاً مقبولاً للإحساس والإدراك والذاكرة والفكرة، وتحليلاً غير عاطفي للطبيعة الإنسانية. ومن نقطة البداية المشهجرة "للحالة الطبيعية" و"الميثاق الاجتماعي" انتهى المفكران كلاهما إلى نتائج عكسية حيث أنتهى هوبز من "دوائره الملكية" إلى الملكية المطلقة، وانتهى سبينوزا من الوطنية الهولندية إلى الديموقراطية. وربما كان هوبز هوالذي وجه اليهودي الوديع إلى مكيافللي، فيشير إليه بأنه "الفلورنسي البالغ الذكاء"، ومرة أخرى بأنه "أعظم عبقري... بعيد النظر(184)" ولكنه تجنب الخلط بين الحق والقوة، معترفاً بأن هذا أمر يمكن التجاوز عنه بين الأفراد فقط في "حالة طبيعية" وبين الدول قبل سن قانون دولي فعال.

وخفف سبينوزا من جميع هذه التأثيرات وصاغها في كيان فكري يبعث الرهبة في منطقه واتساقه ووحدته البارزة. وكان ثمة بعض تصدع في المعبد، كما أشار الأصدقاء والأعداء على السواء. وفي براعة كبيرة انتقد أولدنبيرج البديهيات والقضايا التي صدر بها كتاب الأخلاق(185). وتناولها أولدنبيرج بتحليل دقيق مشروح يتسم بالدقة الألمانية(186). وكان المنطق مشرقاً، ولكنه استنتاجي إلى حد مرهق، وكان، ولوأنه مبني على خبرة شخصية، تعبير عن براعة الفكر ترتكز على اتساق ذاتي، لا على حقيقة موضوعية. إذا وثوق سبينوزا باستنتاجاته وتفكيره (وإلا فيم يسترشد؟) كان التسقط الوحيد في عمله. لقد عبر عن ثقته في قدرة الإنسان على فهم الله، أوالحقيقة الأساسية أوالقانون الكوني، وكم من مرة أعرب عن اقتناعه بأنه أثبت نظرياته فوق جميع شك أوجدل أوغموض أولبس، وتحدث أحياناً في لهجة توكيد لا يتأتى صدورها عن رذاذ من الزبد تحليلاً وتفسيراً للبحر. وأية جدوى إذا كان جميع المنطلق وسيلة عقلية أوآلة موجهة مساعدة للذهن الباحث، لا كيان العالم،يا ترى؟ إلى غير ذلك يختزل منطق الجبرية الذي لا مفر منه، الوعي إلى ظاهرة ثانوية (كما أعترف هكسلي) لاحقة، ظاهر أنها زائدة غير ضرورية لعمليات سيكولوجية، قد تجري بدونها بمقتضى ميكانيكية أوآلية العلة والنتيجة. ومع ذلك ليس ثمة شيء يظهر حقيقياً، أوشيء يظهر مثيراً، أكثر من الوعي. ويبقى اللغز الأكبر بعد حتى نطق المنطق حدثته.

وربما أسهمت هذه الصعوبات في عدم شعبية فلسفة سبينوزا في أول قرن مضى بعد وفاته. ولكن أشد الاستياء أنصب على نقده للكتاب المقدس والنبوءات والمعجزات، وعلى فهمه لله جديراً بالحب ولكن غير مجسم متصام لا يريد الإصغاء. واعتبر اليهود ابنهم خائناً لقومه، وصب المسيحيين عليه اللعنة شيطاناً بين الفلاسفة، مسيحاً دجالاً سعى لسلب العالم من جميع معنى ورحمة وأمل، بل حتى المهرطقين أنفسهم أدانوه واستنكروه. ونفر بيل من وجهة نظر سبينوزا في حتى جميع الأمور وكل الناس أشكال من نفس الجوهر الواحد أوالعلة الواحدة أوالله، وحينئذ-كما نطق بيل-فإن الله هوالعامل الحقيقي في جميع الأفعال، والعلة الحقيقية في جميع الشرور، وكل الجرائم. وكل الحروب، حتى إذا ذبح أحد الأتراك رجلاً من المجر، كان الله هوالذي اغتال نفسه، ثم احتج بيل (ناسياً ذاتية الشر) على حتى هذا "أسخف وأبشع فرضية(187)" وكان لبينتز، لعقد من السنين (1676-1686) متأثراً أشد التأثر بسبينوزا. حتى نظرية "الجواهر الروحية المونادولوجيا (عناصر الوجود الإلهية)" قد يرجع بعض الفضل فيها لسبينوزا. وأعرب لبينتز يوماً حتى شيئاً واحداً في فلسفة سبينوزا أزعجه-نبذ فكرة العلل النهاية أوتدابير العناية الإلهية في عملية الكون(188). وعندما علت صيحات الاستنكار ضد "الحاد" سبينوزا انضم إليها ليبنتز "حماية لشخصه". أن لسبينوزا نصيباً متواضعاً، يكادقد يكون خفياً، في تنشئة الاستنارة في فرنسا، فإن زعماء الثورة العنيفة استخدموا نقد سبينوزا للكتاب المقدس سلاحاً في حربهم ضد الكنيسة، وأعجبوا بممضى الجبرية عنده، "وبأخلاقه" القائمة على الممضى الطبيعي، وبرفضه للتدابير في الطبيعة، ولكن حيرتهم مصطلحاته الدينية، والتصوف أوالممضى الباطني البارز في كتاب "الأخلاق"، وقد نتخيل رد العمل في فولتير أوديدرو، وفي هلفيشيوس أودى هولباخ، لعبارات مثل "أن الحب الروحي العقلي لله هونفس الحب الذي يحب به الله نفسه(189)".

وكانت الروح الألمانية أكثر استجابة لهذا الجانب من فكر سبينوزا. واستناداً إلى حديث رواه فردريك جاكوبي (1780) لم يعترف لسنج بأنه لم يكن طوال سني نضجه متأثراً بسبينوزا فحسب، بل كذلك أنه "لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا(190)" حتى التعادل بين الطبيعة والله، ذلك التعادل القائم على ممضى وحدة الوجود، هوبالتحديد الذي اهتزت طرباً له ألمانيا أثناء الحركة الرومانتيكية بعد حتى جرت حركة الاستنارة في عهد فردريك الأكبر مجراها. وكان جاكوبي، بطل "فلسفة الوجدان" الجديدة من بين أوائل المدافعين عن سبينوزا (1785) وثمة ألماني رومانتيكي آخر، هونوفاليس، أطلق على سبينوزا "الثمل بحب الله". ونطق هردر بأنه "وجد في رسالة الأخلاق" التوفيق بين الدين والفلسفة. وخط شليماخر، رجل الدين المتحرر، عن "سبينوزا المقدس المحروم من الكنيس(191)" و"وارتد" جيته الشاب عندما قرأ "الأخلاق" لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت غلبت السبينوزية على شعره (غير الجنسي) ونثره. ويرجع بعض الفضل إلى تنسمه جوالهدوء في كتاب "الأخلاق"، في انصرافه عن الرومانتيكية المتطرفة الجامحة عند جوتز فون برليخنجين وآلام فرتر الشاب، إلى الاتزان المهيب في أخريات حياته. وعوق كانت مجرى هذا التأثير لبعض الوقت. ولكن هيجل صرح بأنه "لكي تكون فيلسوفاً ينبغي أول حتى تكون سبينوزياً"، وعبر من حديث عن إله سبينوزا بأنه "العقل المطلق" وربما تسرب شيء من "نزعة المحافظة على الذات" عند سبينوزا إلى "إرادة الحياة" عند شوبنهور، و"إرادة القوة" عند تخصصه.

ولمدة قرن من الزمان عهدت إنجلترا سبينوزا عن طريق الهرطقة أساساً، واستنكرته غولاً بشعاً بعيداً عنها. وأشار إليه ستللنجفليت (1677) بصورة غامضة "مؤلفاً متأخراً أسمع منه حتى تمتع بشعبية كبيرة بين كثير ممن ينادون بأي شيء يتصل بالإلحاد". وخط الأستاذ الأسكتلندي جورج سنكلير (1685) عن "حفنة شاذة من الرجال ممن يشايعون هوبز وسبينوزا، يستخفون بالدين وينتقصون من قدر الأسفار المقدسة". وتحدث سيرجون ايفليف عن "الرسالة اللاهوتية السياسية" بأنها "كتاب مخز، عقبة فاجعة في طريق الباحثين عن الحقيقة المقدسة" أما بركلي (1732) فإنه بينما عد سبينوزا من المؤلفين الضعاف الأشرار، نطق أنه "زعيم كبير للكفرة الحديثين(192)". وفي 1739 ارتاع هيوم-وهومن أتباع ممضى اللاأدرية-في حذر من "الفرضية البشعة" التي اتى بها "ذلك الملحد المعروف، سبينوزا الذي ساءت سمعته في جميع الأنحاء(193)". ولم يصل سبينوزا إلى أذهان الإنجليز إلا عند ظهور الحركة الرومانتيكية عند انصرام القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وحينئذ أوحى، أكثر من أي فيلسوف غيره، بالميتافيزيقا العنيفة القوية عند وردزوث وكوليردج وشللي وبيرون. وأقتبس شللي من "الرسالة اللاهوتية السياسية في حواشيه الأصلية في "ملكة الأحلام كوين ساب" وبدأ ترجمة للرسالة، وتعهد بيرون بكتابة مقدمة لها. وسقط جزء من هذه الترجمة في يد ناقد إنجليزي حسبها من تأليف شللي نفسه فنطق عنها "تفكير أحد صبية المدارس، فج لا يصلح للنشر إطلاقاً". وترجم جورج اليوت "الأخلاق" بعزيمة صادقة. واعترف جيمس فرود، وماتيوآرنولد بتأثير سبينوزا على تطورهما العقلي، ويبدوحتى الدين والفلسفة أثبت جميع نتاج الإنسان على مر الزمان. حتى بركليز مشهور لأنه عاش زمن سقراط.

أننا نحب سبينوزا بصفة خاصة بين الفلاسفة، لأنه كان كذلك قديساً، ولأنه عاش الفلسفة كما خطها. حتى الفضائل التي مجدتها الديانات الكبرى كرمت وتجسدت في المنبوذ الذي لفظته جميع الديانات، حيث لم تجزله أية ديانة حتى يصور الله على أسس يمكن حتى يسيغها الفهم. حتى نظرة إلى الوراء، إلى هذه الحياة الموقوفة على البحث، وإلى هذا الفكر المكثف، لتجعلنا نحس بأن فيهما عنصراً من النبل يشجعنا على حتى نحسن الظن بالإنسان. فلنسلم بنصف الصورة المرعبة التي رسمها سويفت للبشرية، ولنتفق على أننا في جميع جيل، وفي جميع مكان تقريباً، نجد الخرافة والنفاق والفساد والقسوة والجريمة والحرب: فلنضع في لقاء هذا في كفة أخرى، ثبتاً طويلاً بالشعراء والملحنين والفنانين ورجال الفهم والفلاسفة والقديسين. حتى ذلك الجنس البشري بعينه، الذي ثأر منه سويفت المسكين عجز جسده، هوالذي خط روايات شكسبير، وموبيقي باخ وهاندل، وقصائد كيتس الغنائية، وجمهورية أفلاطون "وقواعد" نيوتن. و"أخلاق" سبينوزا، وهوالذي شاد البارثينون وسقف كنيسة سستين، وهوالذي حمل المسيح وأعزاه ودلله، ولوأنه صلبه، حتى الإنسان عمل جميع هذا الذي أسلفنا، فيجدر ألا يدع اليأس يتطرق إلى نفسه.

إرثه

كانت حياة أسبينوزا قصيرة إذ لم يتجاوز به العمر أربعا وأربعين سنة وثلاثية أشهر، ولكنه ألم في حياته القصيرة تلك بعلوم ومعارف شتى، ووقف على خط دينية وفلسفية وفهمية عدة، وعكف على دراسة هذا كله إما نقدا وتحليلا لبعضها، وإما تفسيرا وتأويلا لبعضها الآخر.

على حتى حياته على قصرها كانت حياة خصبة غنية بما أنتجه إبانها من الخط والرسائل وما خلفه من الخطابات التى دارت على كثير من المسائل، وكلها مرآة لما عهده وأخذ عنه وتأثر به من خط وعقائد وممضى سابقة عليه أومعاصرة له من ناحية، وصورة معبرة أصدق تعبير عن أفكاره وأنظاره ومذاهبه التى ابتكرها هومن ناحية أخرى.

وها نحن أولاء نسلك تلك السبيل مع فيلسوف هولندا الفذ، فنلم على قدر ما يتسع له المقام بما خلفه أسبينوزا من آثار فلسفية انطوت على كثير من الأفكار الإنسانية.

1 ـ مبادئ فلسفية رينيه ديكارتـ مبرهنة بالطريقة الهندسية سنة 1663 وقد شفع أسبينوزا هذه الرسالة برسالة أخرى في الأفكار الميتافيزيقية.

2ـ الرسالة اللاهوتية ـ السياسية 1670 م. وقد انتقد فيها التفسير المألوف للكتاب المقدس، ثم رفض الإيمان بالإله كما يصفه العهد القديم وآمن باله أوسع رحمة في عهد حديث من لدنه. والعهد الجديد لسبينوزا هوكتابه الشهير في الأخلاق.

3 ـ رسالة في الله وفى الإنسان 1660 م.

4 ـ رسالة في إصلاح العقل.

5 ـ الرسالة السياسية سنة 1675 ـ سنة 1677 م. وهذه الرسالة كتاب عام في السياسة العقليه والسياسية.

6 ـ الخطابات.

7 ـ فهم الأخلاق على النهج الهندسى.

وهوأبرز خط أسبينوزا وأصدقها تصويرا لممضىه ومنهجه، وقد اشتغل بإعداده وتأليفه وتنقيحه طوال سنين عدة من حياته، ولكنه لم يجرؤ على نشره إبان حياته خشية الفتنة، فنشر الكتاب بعد مماته.


انظر أيضاً

  • Affect
  • Contributions to liberal theory
  • Rationalism
  • History of philosophy in Poland
  • ليبرالية
  • Medieval philosophy
  • Plane of immanence
  • Spinozism
  • The Treatise of the Three Impostors
  • Voorburg

المصادر

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

  • الخالدون من أعلام الفكر، أحمد الشنواني، ج1، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، 2007.

الهامش


أعمال مذكورة

  • Deleuze, G. (1968) Expressionism in Philosophy: Spinoza trans. Martin Joughin (New York: Zone Books)
  • Deleuze, G. (1990) Negotiations trans. Martin Joughin (New York: Columbia University Press)
  • Lucas, P. G. (1960) "Some Speculative and Critical Philosophers", in I. Levine (ed.), Philosophy (London: Odhams)
  • Popkin, R. H. (2004) Spinoza (Oxford: One World Publications)

سيرته

الذاتية

  • ca. 1660. Korte Verhandeling van God, de mensch en deszelvs welstand (Short Treatise on God, Man and His Well-Being). [1].
  • 1662. Tractatus de intellectus emendatione (On the Improvement of the Understanding). Project Gutenberg
  • 1663. Principia philosophiae cartesianae (Principles of Cartesian Philosophy, translated by Samuel Shirley, with an Introduction and Notes by Steven Barbone and Lee Rice, Indianapolis, 1998). Gallica.
  • 1670. Tractatus Theologico-Politicus (A Theologico-Political Treatise). [2]

Project Gutenberg: Part 1 Part 2 Part 3 Part 4

  • 1677. Ethica Ordine Geometrico Demonstrata (The Ethics) Project Gutenberg. Another translation, by Jonathan Bennett.
  • 1677. Hebrew Grammar.

عن سپينوزا

  • Gabriel Albiac, 1987. La sinagoga vacía: un estudio de las fuentes marranas del espinosismo. Madrid: Hiperión D.L. ISBN 84-7517-214-8
  • Etienne Balibar, 1985. Spinoza et la politique ("Spinoza and politics") Paris: PUF.
  • Boucher, Wayne I., 1999. Spinoza in English: A Bibliography from the Seventeenth Century to the Present. 2nd edn. Thoemmes Press.
  • Boucher, Wayne I., ed., 1999. Spinoza: Eighteenth and Nineteenth-Century Discussions. ستة vols. Thommes Press.
  • Damásio, António 2003. Looking for Spinoza: Joy, Sorrow, and the Feeling Brain, Harvest Books,ISBN-13: 978-0156028714
  • Gilles Deleuze, 1968. Spinoza et le problème de l'expression. Trans. "Expressionism in Philosophy: Spinoza".
  • ———, 1970. Spinoza - Philosophie pratique. Transl. "Spinoza: Practical Philosophy".
  • Della Rocca, Michael. 1996. Representation and the Mind-Body Problem in Spinoza. Oxford University Press. ISBN 0-19-509562-6
  • Garrett, Don, ed., 1995. The Cambridge Companion to Spinoza. Cambridge Uni. Press.
  • Gatens, Moira, and Lloyd, Genevieve, 1999. Collective imaginings : Spinoza, past and present. Routledge. ISBN 0-415-16570-9, ISBN 0-415-16571-7
  • Gullan-Whur, Margaret, 1998. Within Reason: A Life of Spinoza. Jonathan Cape. ISBN 0-224-05046-X
  • Hampshire, Stuart 1951. Spinoza and Spinozism , OUP, 2005 ISBN-13: 978-0199279548
  • J. Israel, The Radical Enlightenment, Oxford: Oxford University Press, 2001.
  • Lloyd, Genevieve, 1996. Spinoza and the Ethics. Routledge. ISBN 0-415-10781-4, ISBN 0-415-10782-2
  • Kasher, Asa, and Shlomo Biderman. "Why Was Baruch de Spinoza Excommunicated?"
  • Arthur O. Lovejoy, 1936. "Plenitude and Sufficient Reason in Leibniz and Spinoza" in his The Great Chain of Being. Harvard University Press: 144-82 (ISBN 0-674-36153-9). Reprinted in Frankfurt, H. G., ed., 1972. Leibniz: A Collection of Critical Essays. Anchor Books.
  • Pierre Macherey, 1977. Hegel ou Spinoza, Maspéro (2nd ed. La Découverte, 2004).
  • ———, 1994-98. Introduction à l'Ethique de Spinoza. Paris: PUF.
  • Matheron, Alexandre, 1969. Individu et communauté chez Spinoza, Paris: Minuit.
  • Nadler, Steven, 1999. Spinoza: A Life. Cambridge Uni. Press. ISBN 0-521-55210-9
  • Antonio Negri, 1991. The Savage Anomaly: The Power of Spinoza's Metaphysics and Politics.
  • ———, 2004. Subversive Spinoza: (Un)Contemporary Variations).
  • Michael Hardt, trans., University of Minnesota Press. Preface, in French, by Gilles Deleuze, available here.
  • Pierre-Francois Moreau, 2003, Spinoza et le spinozisme, PUF (Presses Universitaires de France)
  • Stoltze, Ted and Warren Montag (eds.), The New Spinoza (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1997.
  • Smilevski, Goce. Conversation with SPINOZA. Chicago: Northwestern University Press, 2006.
  • Yovel, Yirmiyahu, "Spinoza and Other Heretics", Princeton, Princeton University Press, 1989.

وصلات خارجية

اقرأ نصاً ذا علاقة في

Benedictus de Spinoza


  • Spinoza and Spinozism - BDSweb
  • Internet Encyclopedia of Philosophy - Spinoza
  • Stanford Encyclopedia of Philosophy:
    • Spinoza
    • Spinoza's Psychological Theory
  • Immortality in Spinoza
  • BBC Radio أربعة In Our Time programme on Spinoza
  • Spinoza: Mind of the Modern - audio from Radio Opensource
  • Spinoza Museum in Rijnsburg (هولندية)

أعماله:

  • أعمال من Baruch Spinoza في مشروع گوتنبرگ
  • Refutation of Spinoza by Leibniz In full at Google Books
  • Ethics Demonstrated in Geometrical Order
  • A Theologico-Political Treatise - English Translation


تاريخ النشر: 2020-06-04 21:33:25
التصنيفات: Articles with hCards, Pages with citations using unsupported parameters, مواليد 1632, وفيات 1677, فلاسفة القرن 17, حتميون, فلاسفة هولنديون, يهود هولنديون, فلاسفة معاصرون مبكرون, فلاسفة التنوير, هرطقات, باحثو الكتاب المقدس, باحثو الكتاب المقدس اليهود, فلاسفة يهود, مشككون يهود, لاهوتيون يهود, أنتولوجيون, منتقدو اليهودية, كتاب اللاتينية في القرن 17, أشخاص من أمستردام, فلاسفة العقل, عقلانيون, يهود سفرديون من القرن 17, هولنديون من أصل برتغالي, يهود برتغاليون, باروخ سپينوزا

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

بسبب حزب الله.. إعلام عبري: 60% من سكان الشمال يخشون العودة

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:22:48
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

حماس: جيش الاحتلال يتعمد استهداف مراكز إيواء بخان يونس

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:23:08
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 70%

الذكاء الاصطناعي يضع "أبل" أمام مفترق حاسم في الذكرى الـ 40 لإطلاق "ماك"

المصدر: صحيفة الإقتصادية - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:23:05
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 40%

‏‎ شكري يبحث مع نظيرته البلغارية سبل تعزيز التعاون المشترك ف

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:22:31
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 50%

العاصفة إيشا تضرب مرافق النقل والطاقة في المملكة المتحدة

المصدر: صحيفة الإقتصادية - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:23:09
مستوى الصحة: 32% الأهمية: 50%

فيديو| قوات الاحتلال تقتحم مستشفى الخير بخانيونس وتحتجز طاقم

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:22:42
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 50%

‏‎شكري يلتقي بوزير خارجية لوكسمبورج في بروكسل

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:21:54
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 66%

الاحتلال: إصابة 13 عسكريا في معارك غزة خلال الـ 24 ساعة الما

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:23:01
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 51%

مدير مستشفى بغزة: ما وصلنا من إعانات لا يغطي 3% من احتياجاتن

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:22:55
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 66%

شكري يعقد اجتماعاً مع المفوض الأوروبي لإدارة الأزمات في بروكسل

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:21:56
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 63%

الاحتلال: الحرب مع حزب الله سوف تكون قاسية علينا ومدمرة للبن

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-01-22 15:22:37
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 54%

تحميل تطبيق المنصة العربية