حول الإحالة في النص الشعري الحداثي في السودان


صلاح محمد الحسن القويضي

أحاول في ما يلي فض الاشتباك بين مصطلحي الإحالة و(التناص) مما التبس علي وربما يلتبس على البعض (تشابك) وتداخل حقلي شغلهما. يشتمل كل من (التناص) و(الإحالة) على مكون (التضمين) لعنصر أو عناصر في نص معين. غير أن (التناص) يقتصر – حسب التعريف المعتمد من أغلب الباحثين – على تضمين (نص) أو جزء منه في نص آخر، على اختلاف أشكال ذلك التضمين. بينما الإحالة تتسع لتشمل العناصر المضمنة عناصر (نصية قاموسية – او تراكيب لغوية – أو مكان أو حادثة أو فكرة أو كائن أو عوالم ما في نص معين تحيل المتلقي إلى وقائع او أفكار أو أماكن او نصوص أخرى، خارج النص لكنها تضيئ النص وتضيف إليه). وبهذا المعنى يكون التناص واحدًا من تجليات الإحالة لا مرادفًا لها.
وبعودة لأمثلتنا التطبيقية نجد خالد أبو شقة في ديوانه الأول (هذيان منتصف العمر) يقول:
(تعال تحديدًا
عند قولها.. هيت لك)
بعبارة واحدة (هيت لك) ينقلنا أبو شقة لعوالم النص القرآني الذي يحكي قصة النبي يوسف، بكل ما فيه من عوالم وقائع وأفكار وأماكن.
ويفعل عفيف إسماعيل ذات الأمر عندما يقول في صفحة 45 من (الأعمال الكاملة):
(لماذا
كل ما
ننتظر
نصير
مثل “جودو”)
فكلمة “جودو” تؤطر كل النص بعوالم “صمويل بيكيت” وتحيل المتلقي لعوالمه (العبثية).
وقد تجيئ الإحالة شفيفة خفيفة، وربما على غير قصد واع من الشاعر، كما في عبارة الشاعر الشاب بشير أبو سن حينما يقول في نص (انتفاضة) من ديوانه الأول (أغنيات في شارع الحرية):
(جيلي أنا
جيل الثلاثين خرابًا
واغترابًا واحترابًا
كلما دنا قليلًا
من أمانينا اقترابًا
زادنا الوقت عذابًا)
فرغم أن نص بشير أبو سن يتحدث عن معاناة جيله وعذاباته إلا أن عبارة “جيلي أنا” في مفتتح النص نقلتني لعوالم محمد وردي وهو يتغنى بملحمة محمد المكي إبراهيم التي يقرظ فيها (بطولات) الجيل الذي (هزم المحالات العتيقة وانبرى) ولعل بشير أراد بهذه الإحالة الشفيفة أن يقول بأن المعاناة والعذاب لا بد أن يعقبها نصر، وهو ما قد كان فعلًا… ولعله لم يرد.
وقد تأتي الإحالة في جملة اعتراضية تنقل المتلقي لعوالم في نص سردي آخر. يقول عصام عيسى رجب في ديوانه (الخروج قبل الأخير للعباس بن الأحنف) – القاهرة 1999م:
(لا شئ هنا
إلا فوضاك
وأنت تروقين
من الباب الخلفي
بغير حذاء).
ورغم أن عنوان نص عصام ربما يؤطره بأجواء العصر الذي عاش فيه ابن الأحنف إلا أن جملة (تروقين من الباب الخلفي بغير حذاء) تنقل المتلقي لأجواء وعوالم سندريللا وهي تنسرب على عجل من (حفل رقص) الأمير فتترك حذاءها على عتبة الباب في علتها تلك.
وقد تأني الإحالة بسبب استخدام تركيب لغوي محدد – رغم اختلاف المفردات كما يفعل الأصمعي باشري حين يقول في ديوانه الأول – والأخير – (رصيف طويل للنسيان – المصورات 2017م):
(عندما شئت قذف حزني
باتجاه أشجارك العالية
قالت لي الأرض رفقًا بالعصافير)
“فرفقًا بالعصافير” تحيل المتلقي للحديث النبوي “رفقًا بالقوارير” لدرجة أنني كتبت الاقتباس كذلك في الوهلة الأولى لأعود وأصححه لاحقاً.
وقد تكون الإحالة إلى (حالة) باستخدام (صورة شعرية). يقول أمل دنقل في ختام “الإصحاح الأول” من قصيدته” أغنية الكعكة الحجرية”،:
(رايتي عظمتان وجمجمة
وشعاري الصباح)
والعظمتان والجمجمة شعار (القراصنة) لا يجادل في ذلك مجادل. وقصيدة أمل دنقل هذه – كأغلب نصوصه – تحتشد بكم هائل من الإحالات والتناصات تجعل من قراءتها متعة تتطلب استحضار معارف عدة.
وقد تاتي الإحالة من اتخاذ (عنوان) يلقي بظلاله على قراءة المتلقي للنص. يعنون الشاعر (الشاب) – بين معقوفتين –أسامة سليمان نصًا له بعنوان (الروح صافنة):

(الروح صافنة
حطّ الغبارُ على الحروفِ ونام عصفور ٌ على الشرفةْ
أرنو إلى الشباكِ
ثمة نجمةٌ تنضو الضياءَ من الملالِ، تقولُ – ساخرةً- لجارتها:
تعالي نغزلُ (اللاشئ) في هذا الفراغِ
تقول جارتها: …
وتعبر في السماء سحابةٌ كسلى فينقطع الحوارُ
أعودُ للصمتِ، الستارةُ ظلُّها في حافةِ الشباكِ منسكبٌ
ولم تنبسْ بهمسِ تموّجٍ يشفي ولا رفّةْ
في صالةِ البيتِ السكونُ يسيلُ موتاً أبيضَ الأزهارُ تغفو في الأصائصِ،
تذهلُ الأسماكُ عن أحزانها وتدورُ في الحوضِ الزجاجيِّ الصغيرِ
فلم يعد سجناً فكلُّ البيت سجنٌ،
والسكونُ يفيضُ من خللِ الجدارِ فلا الغناءُ ولا الصراخُ يشلُّ نزفَهْ
ما يفعلُ الشعراءُ في هذا الفراغِ وقد تكدَّست المشاعرُ ،
بعضهم يزهو بوزن مهملٍ،
أو يطلقُ الألحانَ من صندوقِهِ السحريِّ
لكن لا تطاوعه وتخلدُ للسكونِ،
فما الغناءُ،
الروحُ صافنةٌ
ونبضُ الشعرِ مرهونٌ
بما في الروحِ من قلقٍ وما في القلبِ من خفّةْ)

وكلمة صافنة تحيل مباشرة للفرس (المطهمة المجهزة المستعدة المتحفزة المتوثبة) بينما نص أسامة يرسم حالة جمالية (للسكون والضجر) لدرجةالتساؤل الممض عما يمكن أن يفعله الشعراء تجاه ذلك. بل يمضي النص أبعد من ذلك ليتناول معنى (الغناء) وجدواه. هذا التناقض (الظاهري) بين العنوان والمتن يوفر حالة من العصف الذهني لموقف متسائل حول (هل الروح الصافنة جاهزة للرحيل؟)، خصوصًا وأنني قرأت النص –وأظنه قد كتب – في أيام (عزلة) الكورونا (المربكة) – كما قال الشاعر الصديق يوسف الحبوب – وأجواء الموت الجماعي القاتمة التي صاحبت انتشار الكوفيد 19.
وبعد،
فعندما بدأت كتابة هذا المبحث انتويت أن يكون كتابة (فيسبوكية) خفيفة تسلي وتمتع، وقد تفيد. لكني أجد نفسي مديناً باعتذار لأصدقائي (الفيسبوكيين) لأن الأمر نحى بي منحىً غير الذي أريد. وحملتني تيارات (النصوص) إلى أعماق لم أكن أريد أن أغوص فيها. وعلى وعد بالعودة مرة أخرى لذات الموضوع لأتناول (أشكالًا) أخرى من الإحالة لم أتطرق إليها بعد.

تاريخ الخبر: 2021-03-21 21:26:01
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 60%
الأهمية: 56%

آخر الأخبار حول العالم

أسعار الحديد اليوم الجمعة 26-4-2024.. «اعرف الطن بكام» - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 06:20:59
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 51%

تراجعت 16 جنيها.. انخفاض أسعار اللحوم اليوم في الأسواق - اقتصاد

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 06:21:01
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 61%

خريطة افتتاحات المساجد في 11 محافظة اليوم.. اعرفها - المحافظات

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 06:21:00
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 64%

مواعيد تحرك القطارات اليوم مع بدء التوقيت الصيفي - أي خدمة

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-26 06:21:02
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية