صلةُ الرّحم.. عملية بمدخلات ومخرجات


مقدمة

لقد عانت صلة الرحم، التي ندب الإسلام إليها فجعلها وصلةً عظيمة، في الآونة الأخيرة كثيرا من القطع جراء الظروف الوبائية التي فُرض على إثرها حالة من الطوارئ في مجتمعاتنا، إلى حدّ أنه لم يعد يقدر الواحد منا أن يصل حتى أقرب أقربائه، والديه مثلا. فكان التواصل بالهاتف ينوب منابها حفاظا على هذه الصلة في حدها الأدنى وهو سماع الكلام أو رؤية الصورة عبر الهاتف. مع العلم أن ذلك لم يكن ليغني بالمرّة عن الزيارة المباشرة ولو بقي الواحد منا أمام الهاتف لعدة ساعات. ونؤكد على أنه لا زالت المعاناة بالقطع وعدم الزيارات لذوي الرحم والتواصل معهم بالشكل المباشر يشكو منه الكثير من الناس.

ومما زاد في تلاشي هذه الشعبة الإيمانية أيضا ما يعيشه الناس من فتنة في هموم العيش تقذفهم ذات اليمين وذات اليسار، ومن رقّة في الدين لضعف في التذكير بها من على المنابر وعن طريق الوعظ والنصيحة. وهذا ينذر بخطر كبير يهدد العلاقات الاجتماعية التي تلعب دورا مهما في تماسك المجتمع وصلابته. فأمام هذا الخطر الذي يهدد هذه الشعبة الإيمانية والذي ينذر بنهاية العلاقات الاجتماعية كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين بات من الضروري اجتماعيا، ومن الواجب شرعا التذكير بهذه الشعبة الإيمانية والعروة الاجتماعية. وذلك من خلال:

ü           القيام بحملات تحسيسية على مواقع التواصل الاجتماعي (هاشتاجات).

ü           التوعية الميدانية من خلال القيام بمبادرات عملية (زيارات).

ü           استثمار مقالات ومواعظ سمعية وبصرية للحديث عن فضل صلة الرحم انتفاعا وخطورة قطعها عقابا.

فضلها عظيم

ونذكر هنا بأنه يكفي في فضل صلة الرحم الذي ينتفع به صاحبها، ما بشّره به هذا الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “صلة القرابة مَثراة في المال، محبة في الأهل، منسأة في الأجل” . وفي حديث نبوي آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَعَلَّموا من أنسابِكم ما تَصِلُونَ به أرحامَكم؛ فإن صلةَ الرحِمِ مَحَبَّةٌ في الأهلِ، مَثْرَاةٌ في المالِ، مَنْسَأَةٌ في الأَثَرِ” .

هذا الفضل تظهر كفايته في كونه يعمّ نفعُه الجانبَ الاقتصادي بنماء المال وزيادته، والجانب الاجتماعي بتقوية العلاقات الأسرية والعائلية، والجانب الصحي بطول العمر وتأخير الأجل. وحرصا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيت هذه الصلة على مستوى الأسرة أمر بتعلّم الوسائل الكفيلة بتحقيقها.

الفهم المنهاجي

ومما تجدر الإشارة إليه أن صلة الرحم إذا تتبعنا مواضعها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية سنجد أنها تكون نسقا من المعاني يتكامل بعضها مع بعض، ليشكل مفهوما منهاجيا لا ينحصر في القرابة الدموية والأخوة الايمانية فقط، بل يتعداهما إلى الأخوة الآدمية أيضا. يقول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة:8).

 كما أن هذا المفهوم المنهاجي أيضا لا ينحصر في التواصل المادي من خلال زيارات تفقدية وعطاءات وهدايا ودعاء، بل يشمل كل هذا ويُضاف إليه أمر مُهم هو استثمار هذه العلاقات بكل أنواعها الدموية والإيمانية والآدمية للدلالة على الله تعالى والدعوة إلى دينه. فإن القول الجامع في معنى صلة الرحم: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة. يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1). وقد علّق الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى عن هذه الآية فقال: “تَسَّاءلون: تُسْألون عن الرحِمِ الآدمية هل أديتم حقها. في مقدمة حقها البلاغ والبيان والشهادة بالسلوك النموذجي والإحسان، والجهاد الدائم لكشف عوائق الظلم حتَّى يسمَع الناس جميعا كلام الله. تعالى الله” .

وتأكيدا على هذا المفهوم المنهاجي لشعبة صلة الرحم التي تتسع معانيها كل الإنسانية ابتداء من الأسرة وانتهاء بكل بني آدم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بهذه الشهادة فيقول: «اللهم ربَّنا ورَبَّ كلِّ شيء ومليكَه، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكَه، أنا شهيد أن محمدا عبدُك ورسولُك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العبادَ كلُّهم إخوة» .

وإذا قلنا بأن صلة الرحم بمفهومها المنهاجي تتسع لكل بني آدم من حيث الشفقة والإحسان والرحمة والبلاغ، إلا أنه ينبغي استحضار لمن تكون الأولوية والأحقية من بين هؤلاء. لأن اعتبار كل أنواع الصلة سواسية يسقطنا في “المثلية البشرية” وهذا منزلق خطير. يقول الإمام رحمه الله تعالى: “شهادةُ أنَّ العبادَ كلّهم إخوةٌ في الرحِمِ الآدمية تُلزم الشاهد واجباتٍ تُجاهَ الإنسانية لا تنافي ولا تزاحم ولا تعطِّل الإلزام الوَلائي بين المؤمنين، والاصطفاف في صف المسلمين. فشرط أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ 1 قائم بسيف لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ 2 يمنعنا عن الرخاوة والهشاشة التي تُزلق إلى «المثلية البشرية»” .

قصص ملهمة

ومن المفيد جدا أن أسوق في ظل الحديث عن صلة الرحم بعض القصص التي قد تلهم القارئ الكثير من الفوائد، وسأكتفي بذكر ثلاثة قصص تفاديا للإطالة في الموضوع.

1- يقول تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ۗ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (النور:22). فقد كان لأبي بكرٍ رضي الله عنه ابن خالة يُدعى مِسْطح بن أُثاثة، وقد كان مِسِطَح أحد فقراء المهاجرين المساكين الذين يُنفق عليهم أبو بكر رضي الله عنه، وكان من الصحابة الذين شهدوا بدرًا. ولكنّه رضي الله عنه قد تكلّم في حادثة الإفك، وخاضَ في الحديث حول براءة سيدتنا عائشة رضي الله عنها، وكان لهذا أثرًا بالغًا في نفس سيدنا أبي بكر. فلما نزلت براءة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأصبحت هذه البراءة قرآنًا يُتلى إلى قيام الساعة، حَلَفَ أبو بكر ألّا يُنفق على مِسطح؛ وهذا لغضبه منه للأذية التي ألْحقها مِسطح بأبي بكر وبابنته. ولما أنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ. قال سيدنا أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.

وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح .

2- يقول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة:8). يذكر المفسرون أن سبب نزول هذه الآية، أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها جاءتها أمها وهي مشركة ترغب في صلتها. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء هي بنت أبي بكر، رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: “نعم، صلي أمك”.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: صناب، وأقط، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها .

3- قصة الصحابي الذي يقطعه أهله رغم صلته لهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ”.

من الآيتين الكريمتين والحديث النبوي الشريف يمكن أن نستلهم على الأقل ثلاثة فوائد وهي:

1- حُكم صلة من تصله ويقطع صلتك بل أكثر من ذلك قد يؤذيك. أن ذلك الموقف السلبي والمؤذي من الآخر ينبغي ألا يؤثر عليك فيمنعك من موقفك الإيجابي في صلة رحمه مع الإحسان إليه. بل صلتك بهذا الموقف الإيجابي تنال به تأييد الله لك وفضائل أخرى.

2- حكم صلة من ليسوا على دين الإسلام من الأقارب. أن الاختلاف في العقيدة لا يمنع من صلة الرحم، بل تجب صلتهم حفاظا على حق البرّ والقرابة.

3- الوسائل التي يمكن أن تتمّ بها صلة الرحم، وقد ذكرت منها الآيتين: النفقة والعفو والهدايا منحها وقبولها. بينما الحديث ذكر من تلك الوسائل: الوصال بالزيارة، والإحسان بأنواع البرّ، والحلم بالتسامح.

خاتمة

نخلص مما ذكرناه سابقا إلى ما يلي:

–       أن صلة الرحم واجبة شرعا، وأن قطعها بشكل من الأشكال يوجب العقوبة.

–       أن صلة الرحم عملية اجتماعية ودعوية لها مدخلات تتمثل في الوسائل المتعددة: زيارات، نفقة، هدايا، إحسان… يجتهد الإنسان لتحقيها حسب طاقته. ولها مخرجات تتمثل في نتائج دعوية أهمها تمتين الروابط العائلية والاجتماعية.

وصلى الله وسلم بارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه من بعده.


[1] ذكره الإمام السيوطي في الجامع الصغير عن عمرو بن سهل. وهو حديث حسن.
[2] أخرجه الترمذي وأحمد.
[3] عبد السلام ياسين، العدل، ص:370.
[4] رواه الإمامان أحمد وأبو داود.
[5] عبد السلام ياسين، العدل، ص:371.
[6] ينظر تفسير القرطبي، سورة النور، الآية:22.
[7] انظر تفسير ابن كثير، سورة الممتحنة، الآية: 8.
تاريخ الخبر: 2021-11-04 12:22:10
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 56%

آخر الأخبار حول العالم

المغرب – فرنسا: فتاح تدعو إلى أشكال تعاون جديدة تستشرف المستقبل

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-27 00:25:37
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 57%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية