بقلم عبد العزيز القاطري: قراءة في تعييــن السيدة نجــاة العمــراني الجــوادي مديــرة عــامة للدّيـــوانة


0 مشاركة

قبل الخــوض في ملابســات هذا التّعييـــن ونتــائجه المحتمــلة، لنتّفق أوّلا أنه جــاء متأخّــرا كثيــرا بالنّظـر لحــالة الإحتقــان التــي بلغتهــا إدارة الدّيــوانة في ظل قيــادة ســابقهــا في الخطّـة بسبب جهله بخصــوصية تلك الإدارة وطــابعهــا التّقنــي والجبــائي البحت، وانشغــاله بديمــومة وجــوده علــى رأسهــا بدل إصلاحهــا، خــاصّة بعد أن تـولّد لديــه طمــوح في مستقبل سيــاسي لم يكن ليحــلم به مذ تمّ اختيــاره من طــرف الــوفاق الإجــرامي المتكــوّن من النهضـة وقلب تــونس وائتلاف الكــرامة ليكــون وزيــرهم للعدل في حكــومة الإنقلاب البرلمــاني بقيــادة الغــادر المشيــشي، فــي إطــار المحــاصصات بيــن تلك الأحــزاب وبعض الأطــراف الفــاعلة في الشّــأن الوطنــي وعلى خلفية المصلحية والجهوية المقيــتتين.

كيــف لا وقد سبـق له أن قلّــده رئيــس الجمهــورية قيــس سعيّــد في 5 ديسمبر 2020 الصنف الثاني من وسام الجمهورية بحضــور وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار آنـذاك، علي الكعلي، الذي قد يكــون وراء هذا التوسيــم، وهو المتضــامن هذه الأيّــام مع جمــاعة “ضدّ الإنقلاب” بعد أن تمّت إقــالته من منصب لا زال يحــلم بالعــودة له والحـــال أنه لم يكن مؤهّــلا له هو الآخــر، توسيــم جعله يعتقد أنّه فــي مأمن من الإقــالة؟

كيف لا وقد أغدق علــى كل من لــه ذرّة نفــوذ في الدّولــة من محجــوزات الدّيــوانة ، خــاصّة السيــارات الفخمة، كي يضمــن ولاءهم ودفــاعهم عنه، مقـــابل تهميــش الإدارة والسّلك الذي هــو مسـؤول عنهمــا، واستغلال النّفــوذ المطــلق الذي تمنحه له النّصـــوص المنظِّمـة للإدارة لتصفيــة حســاباته مع كلّ من تخــوّل له نفسه عدم الإنسيــاق في توجّهــاته والتنكيــل بهم وحتّــى طردهم من السلك؟ وقد أتت تلك الهــدايا أُكلهــا فــي شكل جائزة أفضل مؤسسة عمومية للحوكمة ومكافحة الفساد قدّمتهــا لها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 2019 مقــابل السيّــارات الفخمة أو الرّيــاضية التــي تحصّلت عليهــا. هذا وقد كنت في مقــال ســابق طــالبت بفتــح تحقيــق جدّي ومحــايد في أوجه التّصــرّف في تلك المحجــوزات وفي عدّة مجــالات من نشــاط الإدارة دون نتيــجة إلــى حدّ الآن.

نعــود إذن إلــى هذه التّسمــية.

بخصــوص مؤهّلات المديــرة العــامّة الجديــدة، وبالإطّـلاع علــى مــا تمّ نشــره على وســائل التّــواصل الإجتمــاعي من معلــومات، نلاحــظ أنّهــا تلقّـت تكــوينــا أكــاديميّــا صلبــا في مــادة القــانون الخــاصّ تَـوّجَته بالحصــول علــى الدكتــوراه في تلك المــادّة سنة 2019، كمــا نلاحــظ أنهــا شغلت عدّة خطط في المصــالح الأمنية بـوزارة الدّاخلية قادتهــا من أوّل امرأة فــي تــونس تتــولّــى رئاسة مـركز شــرطة إلــى مديـــرة عــامة بنفس الــوزارة، وأكسبتهــا خبــرة لا بأس بهــا فـي مجــالي التسييــر الإداري والقيــادة قد تســاعدهــا فــي الإضطلاع بمهــامّهــا الجديــدة.

بالمٌقــابل نلاحظ أيضــا أنّهــا تشتــرك في نوعية التكــوين القــانوني مع كلا ســابقيْها في الخطّة الّلذان قضّيــا أطول فتــرة علـى رأس إدارة الدّيــوانة وفشـلا فشلا ذريــعا في إصلاحهــا، بل وكــان لهمــا ضلع كبيــر في تدهــورهــا وتفشّــي مظــاهر الفســاد والمحســوبية والإنحلال داخلها وإقصــاء الشّــرفــاء فيهــا ونشــر اليــأس والإحبــاط في نفــوسهم.

لذلك، يمكن القــول أنّ هذه التّسمــية، تمــاما مثل ســابقــاتها منذ الثّــورة، لم تخضــع لمقــاييس التّصــرف فـي المــوارد البشــرية بطـريــقة علمية تقتضــي أن يتطــابق التّكــوين والمســار المهنــي من جهة مع متطللّبــات الخطّة من جهة أخــرى، حتّـى نضمن الإنسجــام السّــريع معهــا والمردودية العــاجلة فــي الآداء. فعــلى عكس بعض المنــاصب الإدارية والــوزارية، يتطلّــب منصب مديــر عــام الدّيــوانة اطّــلاعـا دقيــقا على التّشــريع الدّيــواني والنّصــوص التّـرتيبية المطبّقة له والإجــراءات الإدارية والتقنية الجــاري بهــا العمل داخل مصــالح الإدارة، إذ علاوة علــى المشمــولات الإداريّة البحتة والواسعة التــي يضطلع بهــا المديــر العــام والمتعلقة بالتّصــرّف في المــوارد البشرية والمــالية والتّجهيــزات والمعدّات المــوضوعة علــى ذمّته والتــي يملك وحده سلطة التّصرف فيــها وإمضــاء القــرارات الإدارية بشــأنها، فإن الأمــرعدد 1845 لسنة 1994 مؤرخ في 6 سبتمبر 1994 المتعلق بتنظيم الإدارة العامة للديوانة يمنحه أوسع الصّلاحيــات في المجــالات التقنية مثل النّظـم الدّيــوانية والإمتيــازات الجبــائية والتعــريفة الجمركية والقيمة لدى الدّيــوانة وقــواعد المنشأ وامتيــازات التّــونسييــن بالخــارج ومقــاومة الغش والتهريــب والنــزاعات والتّتبعــات العدلية وإبــرام الصّلح مع المخــالفيــن، إضــافة إلــى المســاهمة الفعّــالة والــواسعة في وضع القــوانين المتعلّقة بالإستثمــار وبالجبــاية، وخــاصّة قــانون المــالية، دون أن ننســى أوجه التّصــرّف في النّظــام الإعلامي للدّيــوانة (سندا).

ولقــائل أن يقــول إنّ هنــاك ضبّــاطا وإطــارات لدى الإدارة قــادريــن علــى التّكفــل بهذه المســائل التّقنية المعقّــدة، أجيــب هؤلاء بدعــوتهم للعــودة إلــى الفصــل الأول من الأمــر المشــار إليه الذي يجعــلهــا تكــاد تكــون من اختصــاص المديــر العــام بمفرده، ويجعل من المديــرين الذيــن يعملــون تحت إمــرته مجــرّد مســاعدين يقــومون بإعداد الملفّــات والقــرارات وليــس لهم أيّ سلطة لإمضــائها. لذلك تتــراكم الملفّــات بالمئــات يوميّــا على مكتب المديـــر العــام بانتظــار أن يتــولّى قراءتهــا أوّلا إذا سمحت له الإجتمــاعات المطــولّة بذلك، وطلب مــراجعته من طرف المديــر المعني قصد الإستفسار والإصــلاح عند الإقتضــاء، ثمّ إمضــائها أخيــرا بعد أن يضطــرّ أحيــانا إلــى جلبهــا لمنزله لإتمــام النّظــر فيــها. وكثيــرا مــا يحدث أن يُـرجِئُ البتّ فيــها إلــى حيــن استشــارة بعض “المقرّبيــن” نظــرا لجهله بفحــواها التقنــي ولتفشّــي منــاخ الرّيــبة والشّك في الجميــع، وفي الأثنــاء تتعطّــل مصـالح المتعــامليــن من مؤسّســات ومواطنيـن، وتمـرّ الأســابيع والأشهر وأحيــانا السنيــن دون البتّ في ملفّــاتهم.

وقد سبق لــي أن لفتّ نظــر جميــع المديــرين العــاميــن الذين تعــاملت معهم في العشرية الأخيــرة إلــى هذا الخلل، مبيّــنا لهم بصــراحة وبكل احتـرام أنّهــم غيــر مؤهّليــن تقنيّــا للتّعهد بمثــل هذه الملفّــات، نــاصحا إيّــاهم بمــراجعة ذلك الأمــر باتّجــاه تـوزيــع تلك المهــام على المديــرين وتمكيــن جميــع المنظــوريــن بمختلف رتبهم وخططهم من مستــوى معيّـن من المسؤولية يسمح لهم بإمضــاء الوثــائق والقــرارات الدّاخلة في مجــال اختصــاصهم، مع تعزيــز الخطّة الرّقــابية داخل الإدارة وتكثيــف التّفقّد والتّدقيــق لتجنّب التجــاوزات ومكــافأة المجتهديــن ومعــاقبة المخــالفين، بمــا يسمح للمديــر العــام بالتّفــرغ لمهــامّ الإصلاح الإستــراتيجي والتّخطيــط والتّنظيــم والمــراقبة. وقد أبدى جميــعهم فــي الأول انسجــامهم مع هذه الفكــرة، وتمّ إعداد مشــروع أمر في ذلك الإتّجــاه في جــانفي 2016، لكن حبّ النّفــوذ والرّغبــة في احتكــار الإمضــاء مع مــا يمنحــه من امتيــازات وإمكــانية الإنحــراف بالسلطة ســرعان ما يتفشّــى لديهم ويرمـون عرض الحــائط بكل مشــاريع الإصلاح التــي قد تحدّ من ذلك النّفــوذ.

لقد أثبتت الممــارسة أنّه لا يكفي أن نُغيّــر مسؤولا علــى رأس الإدارة لنضمـن تحسّن أوضــاعها، وأنّه بدون تكليــف المديــر العــام الجديــد بمهمّة واضحة تتضمّــن أهدافــا مضبــوطة ومــربوطة بآجــال محدّدة بمــا يمكّن من تقييــم آدائه ومحــاسبته في حــالة الإخفــاق، سيستمـرّ الحــال على مــا هـو عليه، بل ستؤول الأمــور إلــى الأســوأ.

لذا، فإنّ نجــاح المديــرة العــامّة الجديــدة من عدمه مــرهون بمدى وعيهــا بهذه الحيثيّــات، واستعدادهــا للتّخلّــي عن ممــارسات ســابقيــها وعقليتهم، وامتنــاعها عن الدّخــول في القــالب المهيّـإ لها، وذلك بالمبــادرة بإجــراء الإصلاحــات العــاجلة بشأن التنظيــم والهيكلة وتـوزيــع المسؤوليّــات، بطــريقة تُحـرّرهــا من المشــاغل التّقنية البحتة المُكبّلة لهــا، وتمكّنهــا من الإرتفــاع اللازم لقيــادة الإدارة بدل تسييــرها.

مع تهنئتــي لهــا بهذا التّكليــف وتمنّيــاتي لهـا بالنّجــاح في مهمّتهــا الشّــاقّة والصّعبة ومســاندتي المبدئية لهــا واستعدادي لمدّ يد المســاعدة دون قيد أو شرط، آمل من السيدة نجاة العمـراني الجـوادي ألّا تنشغـل مثل ســابقيــها بمســارها الشخصــي وألّا تنخرط أيضــا في سيــاسات فرّق تسدْ التــي كرّســوها، وأن تكــون قويّة أمــام إغـراءات المنصب وأمــام التّدخلات ولعبة المصــالح والجهويــات، وأن تضــع المصلحــة العليــا للـوطن والدّولة والإقتصاد نصب عينيهــا، عندهــا فقط ستدخــل التّــاريخ من بــابه الــواسع، ليس كــأول امــرأة تضطلع بخطّة مديــرة عــامة للدّيــوانة، بل كأول مديــر عام للدّيــوانة قــام بإصلاح تلك الإدارة بعد الثّــورة بدل خدمة نفسه وأوليــاء نعمته.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

0 مشاركة

تعليقات

تاريخ الخبر: 2021-12-25 15:33:04
المصدر: تونس الرقمية - تونس
التصنيف: مجتمع
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

الحبس النافذ للمعتدين على فتيات بسبب تلاوتهن القرآن

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:10:14
مستوى الصحة: 64% الأهمية: 81%

توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:11:14
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 59%

مفاوضات تؤخر انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:10:11
مستوى الصحة: 69% الأهمية: 81%

نادي الجيش الملكي يشكو تحكيم مباراته أمام حسنية أكادير

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:11:13
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 64%

نزار بركة يخلف نفسه على رأس حزب الاستقلال

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-28 12:11:09
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 65%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية