في كتابه "الجينوم.. السيرة الذاتية للنوع البشري"، يصف المؤلف مات ريدلي، وهو كاتب بريطاني حاصل على دكتوراه الفلسفة في علم الحيوان من جامعة أكسفورد، الخريطة الجينية بأنها أكبر من الكتاب المقدس بـ800 مرة، ويقول موضحاً: "لو كتبتُ الجينوم البشري بحيث يحتل كل حرف منه مساحة ملليمتر واحد، فسيكون النص الناتج بطول نهر الدانوب. إنه وثيقة هائلة الحجم".

وبالتزامن مع الطفرة الهائلة التي شهدتها المجالات العلمية في القرن الأخير، والأحياء والكيمياء الحيوية تحديداً، بزغ علم جديد يهتم بدراسة الجينات ورسم خرائطها سمي بعلم الهندسة الجينية، طُورت خلاله تقنيات عديدة من أجل التعديل على الجينات فصلاً ووصلاً وإدخالاً لأجزاء من كائن إلى آخر بغرض إحداث حالة تمكن من معرفة وظيفة الجين المستهدف أو بهدف استكمال ما نقص منه في خلية مستهدفة.

أصل الحكاية

على الرغم من أن الراهب مندل هو مؤسس علم الوراثة، إلا أنه لم يكن يعرف أي شيء عن الجينات ومما تتكون، وبقي الأمر غامضاً حتى فك العالمان واتسون وكريك أسرار تركيب الحمض النووي، في اكتشاف هز الأوساط العلمية في القرن الـ 20، وحصلا على إثره على جائزة نوبل.

ويطلق مصطلح الهندسة الجينية أو الوراثية على التلاعب الإنساني المباشر بالمادة الوراثية للكائن الحي بطريقة لا تحدث في الظروف الطبيعية، حيث يُحدث العلماء طفرات وراثية يصممونها مسبقاً من أجل إنتاج كائنات حية معدلة وراثياً.

في بادئ الأمر، ابتدأ العلماء بالكائنات الدقيقة، حيث كانت البكتيريا هي أول الكائنات التي خضعت للهندسة الوراثية في عام 1973، ومن ثم تلتها الفئران في عام 1974. وبينما بيع الإنسولين الذي تنتجه البكتيريا المعدلة وراثياً بدءاً من عام 1982، بدأ بيع الغذاء المعدل وراثياً منذ العام 1994.

تقنية كريسبر

تعد "كريسبر" إحدى التقنيات المستخدمة في تحرير الجينات، فلقد تركت بصماتها على القرن من خلال كونها رخيصة وفعالة وسهلة مقارنة بالتقنيات الأخرى. كما أنها لا تمهد الطريق لتحرير الحمض النووي للبشر وحسب، ولكن أيضاً للكائنات الحية مثل النباتات والحيوانات والفيروسات. فيما يقول العلماء إن بإمكانهم المضي قدماً والاستفادة من تقنية "كريسبر" في الزراعة والصناعة أيضاً.

و"كريسبر" بالأساس هي تقنية تعلمها العلماء اليابانيون أثناء دراستهم لآليات دفاع البكتيريا، فيما يطلق عليها أيضاً اسم تقنية "المقص الجيني"، حيث بات من الممكن خلالها قطع خيوط الحمض النووي وإعادة تجميعها بدقة شديدة. وهكذا، مهدت الطريق أمام إمكانية التعديل والتغيير على الحمض النووي وإضافة ميزات جديدة، فضلاً عن قدرتها استهداف الجين المحدد بدقة، بعكس التقنيات الأخرى.

يذكر أن العالمين إيمانويل شاربنتييه وجنيفر دودنا، اللذين كانا من رواد تطويرها، قد حصلا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020.

وتجدر الإشارة أيضاً، إلى أن تقنية "كريسبر" يجري استخدامها مؤخراً في الدراسات العلمية الحديثة التي تفحص طرقاً لمنع انتقال فيروس (SARS-CoV-2) بنجاح في الخلايا البشرية المصابة، الأمر الذي من شأنه أن يمهد الطريق لإنتاج علاجات جديدة لفيروس"كوفيد-19".

هل نخاف أم نفرح؟

على الرغم من أن هذه القدرة على التلاعب بالحمض النووي تجعل من تقنية "كريسبر" تقنية مثيرة للجدل خصوصاً وأنه من خلالها بات بالإمكان ولادة أطفال معدلين وراثياً، إلا أن هذه التقنية واعدة لعلاجات جديدة واستخدامات محتملة.

فبينما يروج المتخوفون من الهندسة الجينية إلى قدرتها على اختصار الزمن الطويل التي تحتاجة الطفرات الوراثية، وإنتاجها لجنس بشري يمتلك قدرات فائقة شبيهة بالتي يمتلكها "سوبرمان" نعيش معه لأجيال ثم ننقرض نحن، فضلاً عن ظهور وتطوير فيروسات وبكتيريا لا يمكن مكافحتها قد تستخدم كسلاح بيولوجي.

ولكن على الرغم من كل هذا الخوف والتحفظات، يرى الكثير من العلماء أن هندسة الجينات تعد بتغييرات إيجابية كبيرة يمكنها تحسين الصحة ونوعية الحياة. ففي السنوات القادمة، على سبيل المثال، بدلاً من الانتظار لمدة عام للحصول على لقاح، ستمكننا تقنيات مثل " كريسبر" من إنتاج لقاحات وأدوية في وقت قصير جداً، بالإضافة لقدرة هذه التقنيات على توفير علاجات لمئات أنواع السرطان أو الأمراض الوراثية.

TRT عربي