انكسار

أخذت تتقلب فى فراشها، شاخصة بصرها فى سماء الحجرة التى تساقط طلاؤها، وتآكلت جدرانها بفعل الرطوبة، تنام ابنتها بجوارها فى هدوء، بملامحها الجميلة وشعرها الناعم، إنها تشبهها كثيرًا، لولاها وأختها ما وافقت على هذا اللقاء بعدما عاهدت نفسها أن تنسى كل ما يتعلق به؛ وتكتفى بما لاقته منه، والعذاب الذى عانته بسببه.

قبل عشرين عامًا كانت تعيش حياة بسيطة لكنها سعيدة مع والدها صاحب محل تصليح الأحذية فى تلك القرية البعيدة.. حياة سهلة تمتعت فيها بكل ما فى الطفولة من براءة وصفاء مع أختها الوحيدة وأمهما الحنون، لم يملكوا من حطام الدنيا سوى منزل متواضع، والرضا بالمقسوم، حتى أتى لخطبتها، بوجهه الصبوح، وبشرته الخمرية، وقوامه الممشوق، ومهنته كعامل بناء، لديه شقة حجرة وصالة، أصبحت ملكه بعد وفاة أبويه وزواج أخويه، تم الزواج سريعًا بعد مساعدة إخوته له، كانت بالنسبة لها قصرًا، عاشت فيه أيام سعادتها الأولى، وفرحتها بأولادها الثلاثة والرضا والقناعة، لكنه كان على العكس.

عاد من عمله يومًا حزينًا شاكيًا قلة الرزق، وليس أمامه إلا حل واحد «بيدها»، فما كان منها عن طيب خاطر وبمحبة خالصة إلا أن نزعت أساورها لتكون نواة لتحقيق حلمه، بمشاركة صديقه فى شراء سيارة «ربع نقل»، ليعملا عليها، بعدما تعلم القيادة أثناء فترة تجنيده.

ابتسم لهما القدر، بعد أن ربحت تجارته مع أحد أقاربه، استطاع بعدها أن يمتلك السيارة بمفرده.

اتسعت أعماله، فقام بشراء خلاط للبناء يقوم بتأجيره، انتقلوا إلى مسكن جديد بعد أن وضع قدمه على أولى درجات الثراء.

أصبح مقاولًا معروفًا، زادت وسامته بعدما صار يهتم بصحته، ومظهره، ويرتدى الملابس الفاخرة.

تغيرت أخلاقه، لم يعد الزوج الوفى، ولا الأب الحنون، رغم أنه عوّضها بأساور جديدة وزاد عليها، وملابس لها وللأولاد، وأثاث جديد يليق به، لكنها كانت تريده هو، زوجها وحبها الأول.

تناثرت الأقاويل حول علاقته بأخرى، يقوم بالإشراف بنفسه على بناء عمارتها، واجهته بما سمعت، رد ببرود: «دا حقى، هاتجوز بشرع ربنا، وإنتى وولادك مش ناقصكم حاجة، واللى مش عاجبه، الباب يفوت جمل».

صدمت، واختنقت عيناها بالعبرات، وتركها وخرج، غاب لمدة شهر، حتى كانت على مشارف أزمة مالية، مع كثرة طلبات الأبناء.

وجدته فجأة يحضر، فرح به الصغار، لكنها لم تفرح، أعطاها ظرفًا مغلقًا وانصرف وسط بكائهم، أصبحت زياراته قليلة، وعلى فترات متباعدة، وفى كل مرة يقل المبلغ ويزيد الجفاء، فلا يجلس سوى لحظات.

عادت الأقاويل عن إهماله عمله، وبيعه بعض ما يمتلكه، خمس سنوات منذ أن هربت مع الأولاد من بلدتها بعد أن أصبحت سيرتهم تلوكها الألسنة، بعد قتله زوجته والحكم عليه بخمسة عشر عامًا، لم تحضر جلسات محاكمته، ولم تزره فى السجن، أغلقت بابها عليهم تنعى حظها وأحلامها الضائعة.

بعد سجنه بعام، جاء أخوه الكبير يأمرها بأن ترسل له الولدين ليعملا عنده فى تجارة الأخشاب، ولتعدّ ابنتها للزواج من ابنه، فلا فائدة من التعليم فى ظل ظروفهم الصعبة، رفضت بشدة ولم يستمع إليها أحد.

بعد وفاة أبويها، ليس لها سوى شقيقتها وزوجها، ولا يستطيعان الوقوف أمام جبروت شقيق زوجها، أعدت نفسها للهرب بهم للقاهرة، حيث يقيم عمها، ويعمل ساعيًا فى إحدى الشركات، كان عند حسن ظنها، بعد إقامتهم شهرًا فى منزله، دبّر لها عملًا فى مطعم شهير، تقوم بتحضير وتنظيف الخضروات للطهى، كان العمل شاقًا، لكنها كانت سعيدة لكونها تستطيع منه دفع إيجار شقتها القريبة من منزل عمها، شقة صغيرة فى بدروم إحدى البنايات، وفى هدوء وحذر استطاع عمها وزوج شقيقتها سحب أوراق الأولاد وتقديمها فى مدارس بالقاهرة.

التحقت بعدها بعمل آخر، عاملة فى مدرسة خاصة، كان المرتب مجزيًا، مع الوقت تحسنت أوضاعها المادية قليلًا، كانت تخفى عنهم أنه مسجون، كان ردها دائمًا أنه مسافر فى بلد بعيد، عندما يزداد السؤال عنه، حتى زارتهم أختها وزوجها ونقلا إليهما رغبته فى رؤيتهم عن طريق أحد أقاربه، جنّ جنونها، ألا يكفى ما فعله بها وبهم من مذلة وهوان، لا لن يراهم، وعلا صوتها حتى وصل إلى الأبناء الذين هرعوا إليها من حجرتهم، وبين بكاء ورجاء ولوم لحرمانهم من رؤيته وسؤال ابنتها إن كانت تكرهه فلماذا لم تطلب الطلاق حتى الآن؟، إنها تشتاق لأبيها رغم كل شىء.

وافقت على الزيارة مرغمة، وها هى تنتظر طلوع النهار، حتى يذهبوا إليه، استعد الأولاد بفرح مشوب بالقلق والتوتر، كانت مشاعرها مضطربة طوال الطريق، سوف ترى من كان حبيبًا وزوجًا لسنوات، من تركها من أجل نزواته، من أهان أنوثتها، وتعاون مع الزمن عليها، لتلاقى كل هذه المهانة بعد الثراء والاستقرار.

وصلوا إلى السجن، رأته فارتجف جسدها، كان شاحبًا، عيناه غائرتين، ذهبت وسامته، كأنها أمام شخص لا تعرفه، قلبها كان يبكى عليه، وقفت من بعيد تحمل «شنطة» بها بعض الأشياء له.

جرى الولدان عليه وهما يبكيان، أما الابنة فوقفت تنظر إليه غارقة فى دموعها، أمسكتها من يدها للسلام عليه من قرب، نظر إليها بغضب قائلًا: «خايفة منى وللا إيه؟، أمك السبب»، أكمل بصوت عالٍ وعيون يملؤها الشر: «قالت لكم إيه عليا بنت الكلب».

فى لحظة، خطف قطعة حجر كبيرة من الأرض، وضرب بها رأسها، فصرخت وصرخ الأولاد، تركوه وارتموا فى حضنها، والدماء تسيل على وجهها وملابسها، والحرس يشدونه بعيدًا، والهرج يسود المكان.

تاريخ الخبر: 2022-01-01 19:27:35
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 70%

آخر الأخبار حول العالم

استئناف مرتقب لجولة المحادثات بالقاهرة حول الهدنة في غز

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:54
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

بطولة السعودية.. ثلاثية الـ "دون" تخرق بريق الصدارة الهلالية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:26:01
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 60%

توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:03
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

استئناف مرتقب لجولة المحادثات بالقاهرة حول الهدنة في غز

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:58
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 67%

بطولة السعودية.. ثلاثية الـ "دون" تخرق بريق الصدارة الهلالية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:26:07
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 57%

المقابر الجماعية في قطاع غزة على طاولة مجلس الأمن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:46
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 67%

رشق إيريك زمور بالبيض خلال حملته الانتخابية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 51%

المقابر الجماعية في قطاع غزة على طاولة مجلس الأمن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:53
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 58%

رشق إيريك زمور بالبيض خلال حملته الانتخابية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-05 12:25:39
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 54%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية