في شهر أغسطس من عام 1980م، حصلت الحادثة الشهيرة لطائرة "ترايستار" التابعة للخطوط الجوية العربية السعودية التي اندلعت فيها النار، وراح ضحيتها 301 شخص من ركاب وملاحين، لتسجل الرحلة 163 كواحد من أكبر حوادث الطيران المدني، وأمام غموض المعلومات وندرة الدراسات والتقارير الخاصة بها، إلا أن الكاتب منصور العساف أعاد قراءة الحدث من جديد للوقوف على حقيقة ما جرى من خلال العودة إلى التقارير الرسمية وغير الرسمية للحادثة، والعمل على جمع المعلومات من مصادرها الموثوقة والمراجع المعتبرة، ومقابلة شهود العيان من المختصين وذوي الشأن، وهو ما استغرق جهداً قارب السبعة أعوام، حاول الباحث من خلالها جمع المعلومات المتباينة، وربط الروايات المتناقضة، وإعادة قراءة الحادثة من زوايا متعددة، مستنداً في الحديث عن الجوانب الفنية للمختصين والفنيين، ليعمل على ربط الأحداث واستخلاص النتائج بعد التحقق من مصداقية المعلومات المتوفرة، وهو ما زاد من أمد الفترة الزمنية للبحث، لاسيما أنه في كثيرٍ من الأحيان وقف حائراً أمام معضلة ندرة المعلومات وبُعد العهد بالحادثة. ليخرج لنا كتاب بعنوان "الرحلة 163".

كما استعرض العساف في هذا الكتاب قصص المسافرين، منهم من ساقه القدر إلى رحلة الموت، ومنهم من صرفه عنها، فكم من لاهث خلف أمنية الصعود، مجتهد في بلوغها، دون أن يعلم أنه إقبال على الموت! وكم من ساخط من تغيير رحلته أو فواتها، وما علم أن الحياة قد كتبت له من جديد! فسبحان مقدر الأقدار والعالم بها، وما أعجل الإنسان، وأهلعه، وأجهله. ومن أعاجيب هذه الرحلة، أنها ضمت ركاب ثلاث رحلات مختلفة، وبعض من كان فيها أخرج منها إلى غيرها، وسيق إليها آخرون لم يكونوا على متنها أصلاً، وبعض من سافروا على رحلات سابقة أو لاحقة، ذهبت أمتعتهم مع الطائرة المنكوبة التي سلموا منها.

ومن قصص الناجين، أن موظفًا في الخطوط السعودية انسحب من الرحلة في آخر لحظة، وسافر على طائرة خاصة، وبقي اسمه مسجلاً، فهو ميت حسب الأوراق، لكنه حي يرزق في الواقع، واستغرق آخران في النوم ففاتت عليهم الرحلة، وكانت غفوتهما خيراً لهما، واستسلم شاب للمروءة، فتنازل عن بطاقات صعوده هو وعائلته الصغيرة لثلاثة من كبار السن، وأخذ مكانهم في رحلة متأخرة، فكتبت له السلامة، بينما مات كبار السن الثلاثة، وكاد أربعة من موظفي الخطوط السعودية أن يكونوا آخر ركاب الرحلة بسبب تأخر عائلة سودانية مكونة من أربعة أشخاص ورضيعين، وفي الثواني الأخيرة أتى بأهل السودان أجلهم، وسلم الشبان الأربعة.

ومن المفارقات أن شيخًا مسناً أغضبه التأخير فأعطى بطاقة صعوده لراكب آخر، وأصبح هذا الشيخ آخر ناج من مصير الطائرة، من مفارقاتها أيضاً أن إعلامياً أعد حلقات عن حوادث الطائرات فجاء به يومه المحتوم ليكون من ضمن ركاب الطائرة المحترقة، مع أنه دخل للمطار دون حجز مسبق، واعتمد على علاقاته.

ومن الصدف أن بعض الركاب غادر الدنيا، وأزواجهم تحمل في أحشائها جنيناً خرج إلى الحياة يتيماً يحمل نفس اسم أبيه الراحل وذكراه.

خالد المخضب