النسوية.. وحَرْق العباءة


في عام 1955 تم حَرْق العباءة في الكويت، فعلّق كاتب في مجلة الرائد حينها بقوله: «إن حَرْق العباءة ليس وسيلة صحيحة تبدأ منها المرأة تحرّرها.. وإنني مُتّفق مع فتياتنا العزيزات في أن العباءة قيد غليظ وأنه عائق ثقيل وكريه... وكان من التقاليد البالية وانتشر وسط عقلية اجتماعية طوّقتها الأجيال الغابرة من المعتقدات الرجعية.. لكن لا يمكن قفزه.. وليس في قدرتنا أن نهدمه بجرّة قلم، فتياتنا اصعدن السلّم من أول درجاته ما دامت الطفرة مستحيلة». (انتهى)
وفي عام 1956 تم إحراق البوشيّه أو غطاء الوجه في الكويت أيضاً، وقرّرت جميع الطالبات حينها أن يخلعن البوشيّه إلى الأبد.. وبعد أخذ وعطاء اقترح الراحل الأستاذ عبدالعزيز حسين، المدير العام لوزارة المعارف آنذاك، أن يكون التحرّر بالتدريج.. أي أن تُخلَع البوشيّه في المدرسة لا خارجها.. لكن الطالبات حينها لم يوافقن وتم خلع البوشيّه إلى الأبد.

ذلك كان بعضاً من المحطات التي عبَرت بها الكويت في مجال الدعوة النسوية، وهي كحركة اجتاحت العالم ومرّت بمراحل تاريخية عدّة... قسّمها الباحثون إلى أربع موجات، بدأت الموجه الأولى منها في القرن التاسع عشر مع مطالبة المرأة بحقها في التصويت والانتخاب، ولتعقبها الموجة الثانية مع بداية الستينيات من القرن العشرين، فيما أصبح معروفاً بحركة تحرير المرأة، حيث تَشَعّبت المطالب وتوسّعت لتصب في مطالب المساواة القضائية والاجتماعية. أما في تسعينيات القرن الماضي فقد شهدت الحركة النسوية تطوراً نوعياً في المطالب التي تركّزت على التفرّد والتنوّع، لتصل إلى محطة الألفية التي تم فيها استخدام تكنولوجيا التواصل والاتصال لبث مطالب جديدة كان عنوانها مكافحة التحرّش الجنسي والعنف ضد المرأة وجرائم الاغتصاب.

الحركة النسوية منذ القرن التاسع عشر لا تحمل دعوة للانحلال ولا للعري ولا للرذيلة، وكما يروّج بعض المعارضين لحق المرأة أساساً، بل هي حركة تدخل ضمن سياق الثورات الاجتماعية التي تُعتبر أمراً حتمياً يلعب دوراً داخل أي تجمع أو منظومة تضم بشراً وبغض النظر عن حجمهم أو عددهم أو موقعهم الجغرافي.

تحدث عادة الثورات الاجتماعية كحاجة للوقوف ضد أي شكل من أشكال الظلم أو الاستبداد، أو في مواجهة أي قيم سائدة بشكل يتعارض مع العدالة والمساواة. وغالباً ما تؤدي الثورة الاجتماعية في أي مجتمع بشري إلى إعادة بناء وترتيب المجتمع بشكل مباشر وجذري، وكما هو الحال في الثورة الفرنسية، وحركة الهيبيز في الستينيات، والمطالب بالحقوق المدنية للملونين في الولايات المتحدة، أو مثل ما حدث في الثورة الإسلامية في إيران.

التغيير الاجتماعي يتسرّب ببطء ونعومة، وهو لا يخضع عادة للرغبة، وإنما تفرضه ديناميكية الحركة في كل المجتمعات، وهو هنا بعكس التغيير السياسي الذي قد يكون عاصفاً ويهب فجأة ليقلب الموازين والمشهد.

لذلك نادراً ما تكون مساهمة التغيير السياسي عبر القرارات واضحة أو مرصودة في البنية الاجتماعية، وإن حدثت فإنها تلامس قشور الواقع الاجتماعي لا جوهره. فعلى سبيل المثال لم يؤد القرار السياسي في الكويت بمنح المرأة حق الانتخاب والترشّح إلى تحقيق نسبة معقولة من التواجد النسائي في البرلمان.. فلا تزال قضية الحقوق السياسية للمرأة تنضج على نار هادئة في مطبخ التحوّل والتغيير الاجتماعي البطيء والناعم، مما يعني أن التواجد النسائي في المحفل السياسي هو مسألة وقت لا غير وإن تأخّر.

كذلك ستأتي بقية الحقوق والمطالب التي تنادي بها فتيات اليوم، والتي يهاجمها البعض بكونها تحمل فكراً ليبرالياً غربياً مخالفاً للتقاليد والعادات والعقيدة، ستأتي حتماً تحت ستار الزمن الذي يغيّر تضاريس المجتمع بهدوء تماماً كما يغيّر ملامح وقسمات العمر والهيئة من دون أن نحس أو نعي مروره أو لمساته.

مسألة التغيير والتحوّل المجتمعي هي بلا شك مسألة حتمية وبلا مُنازع، وعلى من يرى عكس ذلك أن يعود بذاكرته إلى الوراء ليرى حجم تطوّر قوة الدفع في المطالب النسوية في دولة صغيرة ومجتمع محدود كالكويت، التي بدأت برفض وإحراق غطاء الوجه أو البوشيّه والعباءة.. متدرّجة شيئاً فشيئاً لتصل اليوم إلى مطالب عالية السقف، قد تبدو لنا نحن جيل الآباء مطالب لا معقولة وغير مقبولة وفقاً لمعاييرنا، لكن ذلك لن يغيّر من الواقع شيئاً، ولن تتوقّف معه عجلة التغيير والتحوّل الاجتماعي، التي فرضت علينا القبول بحرق العباءة سابقاً، وستفرض علينا ربما مستقبلاً القبول بحق الإجهاض مثلاً.

إفلاطون خضع بحكمة لحتمية التغيير منذ ثلاثة آلاف عام حين دافع من أجل المساواة الكاملة بين الجنسين، مشيراً إلى أن «النساء يحكمن ويقاتلن».. ومن طبيعة الحال أن يكون الفكر البشري قد تحوّر وتبدّل مئات المرات عبر هذه الثلاثة آلاف عام.

*نقلا عن القبس

تاريخ الخبر: 2022-01-04 18:17:51
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 86%
الأهمية: 91%

آخر الأخبار حول العالم

تعليق الدارسة وتأجيل الاختبارات في جامعة جدة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-29 06:23:55
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

يعيش في قلق وضغط.. هل تُصدر المحكمة الجنائية مذكرة باعتقال ن

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-29 06:22:01
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 70%

ما خسائر قطاع النقل والمواصلات نتيجة الحرب في غزة؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-29 06:22:07
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 62%

إبادة جماعية على الطريقة اليهودية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 06:06:57
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 92%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية