من هنا تأتي أهمية الجولة التي يُجريها حالياً المبعوث الأمريكي الخاص إلى القرن الإفريقي الجديد ديفيد ساترفيلد، بين 24 يناير/كانون الثاني و4 فبراير/شباط، والتي تشمل كينيا ومصر والإمارات العربية وتركيا وإسرائيل، في إطار مقاربة إدارة بايدن للأوضاع في القرن الإفريقي وانعكاساتها على المصالح والأمن القومي في خضمّ تحوُّلات إقليمية، ولتعزيز الحضور والانخراط الأمريكي في قضايا هذه المنطقة.

وفي سباق الأهمية الاستراتيجية للقارة الإفريقية في السياسية الخارجية للولايات المتحدة، وكدليل على الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة، سبق هذه الزيارة الحالية جولة قامت بها مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقي مولي في، بجانب المبعوث الخاص ساترفيلد نفسه، بين 17 و20 يناير/كانون الثاني، وشملت الرياض حيث شاركا في اجتماع لمجموعة أصدقاء السودان، والخرطوم وأديس أبابا تباعاً. كما أجرى الرئيس بايدن -في ذات الشهر أيضاً- اتصالاً هاتفياً برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أكد فيه التزامه العمل مع الشركاء الإقليميين لحل سلميّ للنزاع الإثيوبي.

مبعوث جديد ومقاربة جديدة

وفي هذا الصدد عُيّن الدبلوماسي المخضرم السفير جيفري فيلتمان في أبريل/نيسان 2021، الذي مكث في منصبه هذا لمدة 9 أشهر، قبل أن يعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن تنحّيه عن منصبه في السادس من يناير/كانون الثاني 2022 ليخلفه ديفيد ساترفيلد.

وجاء استحداث منصب المبعوث الخاص إلى القرن الإفريقي في سياق توصيات بإصلاحات هيكلية لتجاوز البيروقراطية التي تطبع أداء الحكومة الأمريكية تجاه هذه المنطقة، تَضمَّنها التقرير الذي أصدرته، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، "مجموعة الدراسات رفيعة المستوى حول الأمن والسلام في منطقة البحر الأحمر" بمعهد السلام الأمريكي.

بشكل عامّ، تنحصر مهامّ المبعوث في قضايا محدَّدة ومترابطة من حيث التداعيات والنتائج على الأوضاع في القرن الإفريقي، هي: النزاع في إقليم تيغراي الإثيوبي، والتوترات الحدودية بين السودان وإثيوبيا، وأخيراً الخلافات بين الدول الأطراف في ملفّ مفاوضات سد النهضة الإثيوبي.

وفي ضوء القرار التنفيذي للرئيس بايدن في سبتمبر/أيلول 2021، الذي يعطي المؤسسات الأمريكية الضوء الأخضر لفرض عقوبات ضد الأطراف المتورطة في نزاع تيغراي، فقد اتسم نهج فيلتمان بفرض العقوبات -أو التهديد بها- كآلية فعالة لتغيير سلوك الفاعلين في بعض هذه القضايا، غير أنه لم يحالفه النجاح في مهمته في جميع الملفات.

فعلى خلفية نزاع تيغراي على سبيل المثال، ففي مايو/أيار 2021، فرضت عقوبات قضت بمنع دخول مسؤولين إثيوبيين وإريتريين الأراضي الأمريكية، كما فرضت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أيضاً عقوبات على أفراد وكيانات تابعة للحكومة الإريترية، كما تم إسقاط إثيوبيا في 3 نوفمبر/تشرين الثاني من قائمة الدول المستفيدة من المزايا التي يوفرها قانون الفرص والنمو الإفريقي (أقوا) اعتباراً من 1 يناير/كانون الثاني 2022.

ومن هنا يرى مراقبون أن المبعوث الأمريكي الخاص الجديد، ربما يتبنى مقاربة مختلفة نسبياً من أجل تحقيق النجاح للسياسة الأمريكية، كما أنه قد يُنهِي التنازع بين المؤسسات والدوائر داخل واشنطن تجاه ملفات هذه المنطقة.

سياسة جديدة لإدارة بايدن

اتسمت حقبة إدارة ترامب بنظرة ازدرائية ودونية إلى القارة الإفريقية بشكل عام، مع إهمال لقضايا القرن الإفريقي بشكل خاص. فكان من الطبيعي أن يتراجع النفوذ الأمريكي جرّاء تلك السياسات لصالح دول أخرى، وتحديداً روسيا والصين، فضلاً عن قوى أخرى صاعدة داخل القارة. كما حدّت تلك السياسة الانعزالية لإدارة ترامب قدرة واشنطن على التعاطي مع تعقيدات الأزمات الراهنة في المنطقة.

ومن هنا تنطلق إدارة بايدن من سياسة مؤداها أنه من الأهمية بمكان إعادة الارتباط مع القارة الإفريقية باعتبارها ساحة للتنافس الدولي حالياً، كما أن القارة أيضاً تمر بتحولات سياسية وأمنية شديدة التعقيد تتطلب نسج علاقات تعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين.

علاوة على ذلك، تسعى إدارة بايدن لإعادة الارتباط مع أقاليم العالم الأكثر أهمية لمصالحها، كالقرن الإفريقي، ولكن على أساس القيم الأمريكية كالديمقراطية العالمية وحقوق الإنسان، جنباً إلى جنب مع هداف احتواء الصين وروسيا كهدف إستراتيجي، وذلك تطبيقاً لشعار "عودة أمريكا لقيادة العالم".

أزمات إقليمية خطيرة

يمكن تشخيص الأوضاع في القرن الإفريقي الكبير بأن بعض دول القرن الإفريقي يمرّ بتجارب انتقال سياسي متعثرة (كإثيوبيا والسودان)، أو صراعات سياسية خطيرة تهدّد بانتكاسة البلاد (كالصومال)، أو انسداد سياسي وتوترات كامنة تؤذن بانفجار داخلي خطير (كإريتريا وجيبوتي)، فيما ترسف دول أخرى في أتون صراعات مدمرة (جنوب السودان). لذلك فإن التحولات في بعض هذه الدول تنطوي على فرص لتعزيز الانتقال إلى الديمقراطية على الصعيد العالمي، وبالتالي دعم تطلعات الشعوب في التحرر من الاستبداد والفساد، والتصدي كذلك لصعود الأنظمة الأوتوقراطية التي تترافق مع صعود الصين وروسيا.

وعليه، تنطلق إدارة بايدن من أن نجاح الانتقال الديمقراطي في بعض الدول قد يشكّل أثره تداعيات تأثير "الدومينو" بانهيار وتفكُّك الأنظمة القائمة تباعاً، وهذا ما يفسر الاهتمام الأمريكي الخاص بالانخراط في هذه القضايا من منظور إقليمي أوسع. بيد أن ما هو أخطر من أثر الانتقال السياسي هو نشوب صراعات خطيرة كنزاع تيغراي نتيجة لفشل محاولات الإصلاح الداخلي، أو بلوغ الأوضاع الداخلية حد الانفجار، وكلاهما ينطوي على تداعيات داخلية وإقليمية.

إعادة توجيه الفاعلين الإقليميين

وبناءً على ما تقدم، تشمل جولة المبعوث كينيا، التي ترى إدارة بايدن أنها شريك موثوق في القضايا الإقليمية كنزاع تيغراي أو الأوضاع في الصومال أو مكافحة الإرهاب اقليمياً. وهناك مصر التي تتطلّع إلى أن يتفهّم المبعوث الأمريكي الجديد شواغلها بخصوص ملفّ سد النهضة، ومن ثم الدفع باتجاه تبنِّي تسوية تقوم على التوصل إلى اتفاق قانوني ومُلزِم بشأن ملء وإدارة وتشغيل السدّ.

وأما زيارة الإمارات فتهدف إدارة بايدن إلى تغيير سلوك أبو ظبي باعتبار أن سياسات الأخيرة قد ترقى إلى جعلها طرفاً في النزاع في إثيوبيا نتيجة تقديمها الدعم العسكري لحكومة آبي أحمد، وأيضاً علاقاتها القوية مع أسياس أفورقي الطرف القوى في معادلات مستقبل هذا الصراع.

أما زيارة "إسرائيل" فربما لكونها أيضاً فاعلاً مهمّاً في الصراع في إثيوبيا، إذ يشير بعض التقارير إلى أنها قدمت دعماً عسكرياً للحكومة الإثيوبية. وأما مغزى زيارة تركيا فباعتبارها فاعلاً صاعداً في القرن الإفريقي، كما لعبت الطائرات المسيرّة التركية التي حصلت عليها حكومة آبي أحمد عقب التوقيع على اتفاق تعاون عسكري خلال زيارته أنقرة في أغسطس/آب الماضي، دوراً كبيراً في تغيير موازين القوة لصالحه. ومن هنا يسعى المبعوث الأمريكي للضغط على تركيا لوقف إرسال مزيد من الأسلحة إلى إثيوبيا، بجانب تشجيعها على أن تكون جزءاً من الجهود الرامية إلى إنهاء هذا النزاع سلمياً.

مقاربة جديدة للأدوار الإقليمية

وفي ضوء كل ما تقدم، يمكن القول إن إدارة بايدن تسعى من خلال الجولة الحالية للمبعوث الأمريكي الخاص إلى القرن الإفريقي لكل هذه الدول، لتبنِّي نهج تعاوني متعدد الأطراف يقوم على التالي: أولاً التواصل وإعادة الارتباط مع الفاعلين الإقليميين على قاعدة الشراكة من أجل تفاهمات حول التعاون والتنسيق لحلّ بعض الصراعات أو مواجهة بعض التحديات على نحو ما يجري في القرن الإفريقي الكبير. وثانياً الاعتراف بمصالح هؤلاء الفاعلين في هذه المنطقة، ومن ثم تشجيعهم لأن يكونوا جزءاً من المقاربات الدولية المتعددة الأطراف التي تقودها واشنطن من أجل إنهاء بعض الصراعات عوض أن يكونوا عامل زعزعة للمنطقة. ثالثًا أن هذه الجولة هي لتأكيد أن واشنطن مصممة على أن تكون ليس فقط شريكاً استراتيجياً لا بديل منه لدول المنطقة التي اتجه بعضها صوب الصين وروسيا في مواجهة الضغوط الغربية عليها فحسب، بل أيضاً شريك للأطراف الإقليمية الأخرى التي باتت منخرطة في قضايا هذه المنطقة بقوة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي