مسألة نضج الأمن السيبراني «2 من 2»


تحدثنا في المقال السابق عن مسألة نضج الأمن السيبراني، أي وصول هذا الأمن إلى حالة مستهدفة، هي حالة النضج، التي تحقق خصائص مطلوبة. وذكرنا حقيقة أن منظومات الأمن السيبراني، عموما لا تحقق بالضرورة جميع الخصائص المطلوبة، بل تحقق جزءا منها، أي لا تكون ناضجة تماما، لكن تتمتع بدرجة من النضج قد تقترب أو تبتعد عن النضج المنشود. وفي هذا الإطار، ذكرنا أن هناك نماذج تستهدف تقييم درجة نضج منظومات الأمن السيبراني، وركزنا على النموذج الصادر في آذار (مارس) عام 2021، عن المركز العالمي لقدرات الأمن السيبراني، التابع لقسم علوم الحاسب في جامعة أكسفورد البريطانية الشهيرة. ويحمل الكتيب عنوانا يقول "نموذج نضج قدرات الأمن السيبراني"، وجاء هذا النموذج تحديثا لنماذج سابقة، يستجيب لمتطلبات الأمن السيبراني المتجددة على مستوى الدول.
وكأي نموذج نضج في أي موضوع من الموضوعات، يشمل النموذج المذكور ثلاثة محاور رئيسة تتكامل معا في صياغته: محور معايير النضج للحالة المطروحة، ومحور مكونات هذه الحالة، ثم محور تقييم واقع هذه المكونات على أساس معايير النضج. في محور المعايير هناك مستويات النضج ودرجات تقييمها، وفي محور مكونات المضمون هناك مشهد حالة المسألة المطروحة، وأبعاد موضوعاتها المختلفة، أما في محور تقييم حالة مكونات المضمون، فهناك المؤشرات التي تقيس هذه الحالة على مقياس مستويات النضج. وطرح المقال السابق جانب أبعاد مكونات المضمون، وذكر أنها تشمل خمسة أبعاد رئيسة، هي: استراتيجية وسياسات الأمن السيبراني، وشؤون الثقافة والمجتمع الذي ترتبط به، والقدرات البشرية الواعية والمؤهلة في مجال هذا الأمن، والعوامل التنظيمية والقانونية، إضافة إلى معايير تحقيق هذا الأمن.
وهكذا يكون المقال السابق، قد رسم مشهد أبعاد مضمون الأمن السيبراني. ويحتاج الأمر، كي يعطي النظرة الشاملة إلى مسألة النضج، ويمكن القدرة على تقييمها إلى تحديد معايير لتقييم مستويات نضج مكونات منظومات الأمن السيبراني من جهة، وإلى وضع أساليب ومؤشرات لهذا التقييم من جهة أخرى. وهذا ما سيتم طرحه ومناقشته فيما يلي.
ولعلنا نبدأ بطرح أساليب ومؤشرات تقييم الأمن السيبراني لأنها ترتبط بأبعاد المضمون الخمسة، بل إنها تنطلق من تحليل عناصر هذه المكونات. فهي تعتمد على بناء صورة هرمية لكل بعد من الأبعاد الخمسة لمضمون مشهد الأمن السيبراني. في هذا الإطار، يقسم كل بعد إلى عوامل يختص كل منها بجزء من أجزاء البعد، حيث تمثل هذه الأجزاء معا كامل البعد المطروح. ثم يقسم كل عامل من هذه العوامل إلى جوانب تمثل عناصره، حيث تمثل هذه العناصر كامل العامل المطروح. ويتم بعد ذلك تحديد مؤشرات لتقييم كل جانب من الجوانب المعطاة.
ولعل من المناسب، تقديم مثال على ما سبق يختص بأحد الأبعاد الخمسة، وليكن البعد الثالث، أي بعد "القدرات البشرية الواعية والمؤهلة في مجال هذا الأمن". يتضمن هذا البعد أربعة عوامل رئيسة، هي: عامل بناء الوعي السيبراني، وعامل تعليم الأمن السيبراني، ثم عامل التدريب المهني على شؤون الأمن السيبراني، وأخيرا عامل البحث والابتكار في مجال الأمن السيبراني.
يشمل "عامل بناء الوعي السيبراني" أربعة جوانب رئيسة: جانب وجود مبادرات حكومية لتعزيز الوعي بالأمن السيبراني، وجانب وجود مبادرات مثيلة يطرحها القطاع الخاص، ثم جانب وجود توعية خاصة للمديرين وأصحاب المواقع المؤثرة في القطاعين العام والخاص، وبما يشمل الأكاديميين وشخصيات المجتمع المدني، ويضاف إلى ذلك طرح كيفية تنفيذ التوعية المنشودة. ويتضمن عامل تعليم الأمن السيبراني جانبين رئيسين: جانب تقديم هذا التعليم عبر برامج متطورة تواكب المعطيات المتجددة، وتقود إلى مؤهلات وتخصصات تغطي مجالات هذ الأمن، ثم جانب إدارة هذا التعليم وبرامجه. ونأتي إلى عامل بناء الوعي السيبراني، وله جانبان أيضا هما: جانب تقديم التدريب المنشود، وجانب تحديثه تبعا للمتطلبات والخبرات المتجددة. ونصل أخيرا إلى عامل البحث والابتكار في مجال الأمن السيبراني، وله جانب واحد هو: جانب تفعيل البحث والتطوير في هذا المجال.
وهكذا نجد أن بعدا واحدا من الأبعاد الخمسة للأمن السيبراني يتفرع هرميا إلى أربعة عوامل، وتتفرع هذه العوامل بدورها إلى تسعة جوانب، ثم يتفرع كل من هذه الجوانب إلى مؤشرات تفصيلية تسمح بتقييم حالة متطلباته. وتلقى الأبعاد الأربعة الباقية تفريعات هرمية مماثلة بأعداد مختلفة من العوامل، ومن الجوانب المرتبطة بها. ويبلغ مجمل عدد العوامل للأبعاد الخمسة "23 عاملا"، كما يبلغ عدد الجوانب المرتبطة بهذه العوامل "62 جانبا".
يتم تقييم كل من الجوانب المطروحة من خلال مؤشرات تعبر عن حالة مضامينها تبعا لمعايير تتوزع على خمسة مستويات متدرجة تعبر عن مدى النضج الذي وصلت إليه حالة الجانب المطروح. يعبر المستوى الأول عن بداية التفكير في الأمر، ويمثل المستوى الثاني حالة وجود إجراءات بشأنه، ويبين المستوى الثالث وجود دليل على حالة متطورة، ويعبر المستوى الرابع عن حالة فاعلة، ثم يأتي المستوى الخامس متوافقا مع حالة النضج المستهدفة للجانب المطروح. وعلى أساس تقييم جوانب كل عامل، يتم تقييم هذا العامل، وعلى أساس تقييم العوامل، يتم تقييم مجمل حالة الأمن السيبراني المطروحة.
لا شك أن مسألة نضج الأمن السيبراني مسألة ذات أهمية كبيرة في هذا العصر، بل إن هذه الأهمية تتزايد باطراد، مع ازدياد الإبداع والابتكار في تطوير تقنيات العالم السيبراني الرقمية، وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المرتبطة بها، والتطبيقات الكثيرة المختلفة في هذا المجال. ومن المتوقع بالطبع، مع هذا التطور، أن تتطور أيضا متطلبات نضج الأمن السيبراني، خصوصا أن التحديات تزداد بازدياد معطيات هذه التقنيات وتطبيقاتها، وهو ما يجب الاستجابة له في تحديد تغيرات النضج المستهدف، والعمل بالتالي على الارتقاء المتواصل به، والتقييم على أساس ذلك. والغاية المنشودة هي الحفاظ على عالم سيبراني آمن يجعل من حياتنا في العالم الحقيقي أجدى كفاءة وأكثر فاعلية.

* نقلاً عن صحيفة "الاقتصادية".

تاريخ الخبر: 2022-02-03 09:16:45
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 89%
الأهمية: 92%

آخر الأخبار حول العالم

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٤)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:21:31
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

عاجل.. لحظة خروج الدكتور التازي من سجن عكاش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:25:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 70%

عاجل.. لحظة خروج الدكتور التازي من سجن عكاش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:25:38
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية