في كل 8 فبراير/شباط من كل سنة تحل ذكرى أحداث محطة مترو "شارون" الباريسية، التي شهدت سنة 1962 أحد أكثر جرائم العنف البوليسي دموية، حينما قمعت الشرطة الفرنسية مظاهرة للاحتجاج على أنشطة منظمة "الجيش السري" الفاشية بالجزائر.

يوم الثلاثاء، وفي ذكراها الستين، كرَّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قتلى تلك الأحداث. وبالنيابة عن ماكرون وضع قائد شرطة باريس، ديدييه لالمان، إكليلاً من الزهور خلال مراسم أقيمت في مقبرة "بير لاشيز" في باريس بهذه المناسبة.

وحيا ماكرون في بيان مقتضب ضحايا تلك الأحداث، قائلاً: "بعد ستين عاماً على هذه المأساة، أحيّي ذكرى الضحايا وعائلاتهم". فيما يندرج هذا التكريم الذي طال انتظاره" ضمن عملية شاملة للاعتراف بكل الذكريات المرتبطة بالحرب الجزائرية والتي تهدف إلى بناء هذه الذاكرة المشتركة"، حسبما أفاد مصدر مقرب من الإليزيه.

ماذا حدث في محطة مترو "شارون"؟

في وهج الثورة التحريرية الجزائرية، والعمل النضالي الذي قاده الجزائريون ضد المستعمر الفرنسي في بلادهم، كما في عقر داره، كان العنف والتقتيل الإجابة الوحيدة للسلطات الفرنسية. ذلك ما ظهر في التضييقات التي فرضتها على المدنيين الجزائريين على التراب الفرنسي، وتجلى في مذبحة 17 أكتوبر/ تشرين الأول التي قتلت فيها الشرطة الفرنسية العشرات منهم وألقت بجثثهم في نهر السين.

بشاعة الأحداث دفعت اليسار الفرنسي، على رأسه الحزب الشيوعي والنقابات العمالية، إلى الاصطفاف بجانب الجزائريين، والدخول في نضالات من أجل السلام واستقلال الجزائر، وضد الاحتلال وجماعاته الفاشية، على رأسها منظمة "الجيش السري" التي كانت تنفذ عمليات اغتيال وترهيب ضد وجوه المقاومة الجزائرية.

في 8 فبراير/شباط سنة 1962، قرر الحزب الشيوعي الفرنسي والنقابات والمنظمات الطلابية اليسارية تنظيم مظاهرة حاشدة من أجل استقلال الجزائر ومناهضة لمنظمة "الجيش السري" الفاشية. مظاهرة لم ترخص لها شرطة باريس، وتوعد قائدها موريس بابون المحتجين بالقمع نزولاً عند تعليمات وزير الداخلية روجي فري والرئيس شارل دي غول.

محل تجمع المحتجين كان "ساحة الباستيل على الساعة السادسة والنصف"، وكان من المفترض أن يصلها المحتجون الذين قدرت أعدادهم بحوالي 150 ألف متظاهر عبر خمس مسيرات متفرقة، إحداها كانت تحاول عبور شارع فولتير نحو مكان التلاقي، حتى هاجمتها فرقة من قوات الأمن مسلحة بالعصي والقنابل المسيلة للدموع.

أمام القمع الذي شهدته تلك المسيرة قرَّر منظموها التراجع من الشارع نحو ساحة "ليون بلوم" من أجل فض الاحتجاج، إذا بهم يجدون أنفسهم محاصرين من الجانبين، وسط فرقتين من الشرطة تشنان حملات القمع العنيف ضدهم. وقتها لم يبق أمام المتظاهرين سوى الهروب والاحتماء في الأزقة الفرعية وبوابات العمارات، واحتمى جزء منهم في مداخل محطة مترو شارون حيث قضوا تحت ضربات رجال الشرطة والتدافع.

سقط في تلك المحطة تسعة متظاهرين قتلى، من بينهم صحفية في مجلة "L'Humanité" اليسارية الفرنسية. وعدَّدت المجلة ذاتها حوالي 250 جريحاً نتيجة تلك الأحداث الدموية. في 13 فبراير/شباط، خلَّفت الأحداث سخطاً كبيراً في الأوساط الشعبية، حيث شيعت جثامين القتلى بمظاهرة مليونية إلى مقبرة "بير لاشيز" وتجمهروا في ساحة الجمهورية تنديداً بالقمع البوليسي.

منظمة الجيش السري

تعود نشأة منظمة "الجيش السري" الفاشية التي احتج ضدها الفرنسيون في 8 فبراير/شباط 1962، إلى أعقاب فشل المحاولة الانقلابية للجيش الفرنسي في الجزائر على الحكومة المركزية في باريس، في نيسان سنة 1961، حيث اتهم ضباط الجيش تلك الحكومة بالتخلي عن فرنسيي الجزائر.

وبعد فشل الانقلاب، سعى ضباط الجيش إلى تنظيم مجموعات متطرفة من المستوطنين من أجل تنفيذ عمليات عدائية ضد المدنيين الجزائريين، كما ضد اليسار الفرنسي المتعاطف مع جبهة التحرير الجزائرية.

وبين العناصر المتطرفة لمنظمة "الجيش السري" نجد ضباطاً كانوا موالين للمريشال النازي بيتان، وكذلك متطرفين من "الأقدام السود" الذين يتبنون أفكاراً قومية فاشية. فيما تأسست المنظمة، كما كانت تدّعي لنفسها، من أجل الدفاع عن "الجزائر الفرنسية" ومقاومة جبهة التحرير الجزائرية والشيوعية.

وكان اختصاص هذه المنظمة تنفيذ اغتيالات ممنهجة ضد وجوه المقاومة الجزائرية واليسار المتعاطف معها. هذا وحسب إحصاءات غير رسمية يرتفع عدد ضحايا المنظمة إلى 2200 قتيل، 263 منهم أوروبيون.

TRT عربي