مشانق وخردالة ومصّاصو الماء.. مواجع تخفيها ابتسامة شفشاون الزرقاء


يقول قائل “دع الابتسامة أول ما يراه الناس في حياتك” وتقول شفشاون أنا مبتسمة منذ ما يزيد عن خمسة قرون، فمن استنزف مائي وعطّل تنميتي وهمّش أبنائي؟، من يزور المدينة الزرقاء لا يرى فيها غير الجمال واللوحة البهية لغرناطة الصغيرة في قلب بلاد جبالة، لكن الاضواء المسلطة عليها تخلف ظلمة في جوانبها حيث يعيش الآلاف من المغاربة موزعين على عشرات القرى يئنون تحت وطأة ظروف صعبة.

 

شفشاون “غرناطة الصغيرة” التي تقول عنها الرواية التاريخية إنها تأسست لتكون أرض لجوء للموريسكيين الهاربين من محاكم التفتيش بعد تسليم آخر مفاتيح الأندلس لحملة الاسترداد المسيحي، يبدو أن لها قدرا يلازمها منذ نشأتها فقد استقبلت اللاجئين وغلفت مأساتهم بأولوان زاهية وسط أرض غابوية وينابيع ماء لا تنضب، ولا تزال إلى اليوم تئن في صمت وتستقبل زوارها بابتسامة زرقاء لا تفارقك من مدخلها إلى ساحة وطا حمام وإلى رمز خصوبتها “رأس الماء”.

 

وجاء سقوط “ريان” المؤسف في بئر لا ماء فيه على عمق 32 مترا ليجذب الاقليم الذي يحمل اسم حاضرته وجمليته شفشاون أنظار العالم ويوجه بوصلة المغاربة خاصة نحو مناطق تعيش العزلة وظروفا صعبة لم يكن في مخيال المغربي لمثل هذه الحياة صورة إلا في مناطق الجنوب الصحراوية القاسية، فالاقليم يشهد بشكل شبه يومي حالات انتحار بلغت نسبة قياسية وتجفيفا غير طبيعي للمياه الجوفية بسبب نبتة القنب الهندي “الكيف” وهجرة متواصلة لشبابها نحو المدن الكبرى مضطرين لقلة فرص الشغل.

 

“كيف الخردالة” والطفل ريان وبئر بلا ماء

 

لا يزال صدى تصريح مؤلم أدلت به والدة الطفل الراحل ريان أثناء عملية اخراجه، يتردد في آذان المغاربة حين قالت: ما شربت منو حتى جغيمة الماء”، فالحفر لعشرات الأمتار تحت سطح الأرض لم يعد كافيا للعثور على ماء سلسبيل في المخزون الجوفي، وحسب مذكرة للمندوبية السامية للتخطيط صادرة سنة 2018 فإن 6,5 في المئة فقط من الساكنة القروية مزودة منازلها بالماء الصالح للشرب حتى سنة 2014، وما يقارب 70 في المئة منهم يتزودون بمياه الآبار والمنابع والأنهار.

 

ويقول محمد الرابون رئيس كونفدرالية جمعية إقليم شفشاون، إن “ندرة المياه في المغرب كافة ولكن لماذا بالضبط في إقليم شفشاون، اولا في كل بيت تقريبا بئر ساندا للتزود بالمياه لأن في هذه المنطقة لا توجد سدود للأسف مثل أقاليم مجاورة نذكر منها تاونات ووزان وتطوان، رغم أن الإقليم الذي ننتمي إليه يشهد هطولا للأمطار بغزارة كل سنة وفيه منابع مائية وفيرة، وهذه مناسبة لتوجيه رسالة إلى الجهة المسؤولة لبناء سدود هنا.

 

الرابون متحدثا لـ”الأيام24” يرفض الاختباء وراء مسميات أخرى ويمضي في تفسيره لهذه المشكلة قائلا: “أغلب السكان يعيشون من عائدات زراعة القنب الهندي الكيف لكن هذه النبتة تحتاج لكميات كبيرة جدا من الماء، إضافة إلى تشديد الدولة في إجراءات محاربة هذا النشاط لأجل تقنينه، وأمام ندرة المياه السطحية كان اللجوء المكثف إلى حفر الآبار “ساندا” سببا في تجفيف المخزون الجوفي للإقليم، فالجماعات الترابية القريبة من البحر مثل بني رزين وبني سمح لم يعد يصلها الماء، والفقير هو الضحية فلا قدرة له للحفر في عمق الأرض ولا ماء له للسقي فيضطر لقطع عشرات الكيلومترات للعودة ببعض اللترات وبالتالي تنمي هذه المشاكل ظاهرة الهجرة خارج الاقليم بحثا عن مورد رزق قار، ويعبر عن هذا الواقع المر ما قالته والدة الطفل الراحل ريان عن البئر الذي حفره زوجها لعمق 60 مترا ووجده جافا : “لم أرتشف منه ولو شربة ماء”.

 

وعن هذا حذرت منظمة الزراعة والأغذية “فاو”، التابعة للأمم المتحدة، من النشاط المفرط الذي يشهده المغرب في استخراج أكثر من نصف المياه الجوفية، ورسمت صورة قاتمة لمستقبل السائل الذي به تسري الحياة في الكائنات، وقالت في تقرير نشرته بعنوان “نظرة إقليمية عامة حول الأمن الغذائي والتغذية في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا لعام 2017”، إن المغرب يستخرج 833 مليون متر مكعب من المياه سنويا من الآبار الجوفية دون وجود روافد تغطي هذا الاستهلاك.

 

حاولت “الأيام24” التواصل مع واحد من الذين وجهت لهم أصابع الاتهام في أزمة المياه، ويتعلق الأمر بمزارعي “الكيف”، فأوضح مزارع تحفظ عن كشف هويته إن الكبار الذي يسيطرون على هذه التجارة تعمدوا استبدال بذور “البلدية” أي النبتة المغربية المحلية بأخرى هجينة ومعدلة تعود عليهم بمحصول أكبر وأرباح مالية فلكية، فدخلت إلى المغرب أصناف من أشهرها “الخردالة” و”المكسيكية” والفرق بينها والصنف المغربي أنها تحتاج ريا مستمرا دفع أغلب المزارعين إلى الاستعانة بمضخات قوية لجلب المياه من الأنهار والآبار العميقة.

 

 

يبدو إذن أن “الخردالة” و”المكسيكية” تقود إقليم شفشاون نحو سنوات من العطش تحول مروج “غرناطة الصغيرة” إلى صحراء لا تختلف عن “فم زكيد” و”محاميد الغزلان” إلا بلكنة سكانها، وفي هذا يقول محمد الرابون متنذرا : “النصف من السكان هنا مبحوث عنه بسبب الكيف والنصف الآخر ينتحر فهل سنبقى على هذا الحال إلى أن ينقرض الشفشاونيون ؟”.

 

وسجلت مذكرة المندوبية السامية للتخطيط نسبة فقر في الاقليم أعلى من جهة طنجة تطوان الحسيمة كاملة، ففي إقليم شفشاون تم رصد تفشي الفقر بنسبة 21,20 في المئة مقابل 11,14 في الجهة.

 

سم ومشانق وفواجع تخترق هدوء المدينة الزرقاء

 

بمجرد البحث عن شفشاون في موقع “غووغل” يقترح عليك المحرك المئات من المقالات والصور أغلبها منشورة في مواقع للسفر والسياحة تتحدث عن المنطقة وتعدد صفاتها الجيدة وأولها الهدوء ونقاء الجو وجمالها الساحر وروعة التجول بين دروبها، لكن هذه الصورة الوردية تخدشها ظاهرة لا تفسير يقيني لها ويتعلق الأمر هنا بالانتحار فالأخبار أصبحت تأتي من هناك حاملة معطيات مؤلمة عن شاب أو شابة أو حتى رجل مسن وضع حدا لحياته، بابت هذه الظاهرة محيّرة حقا.

 

وفي دراسة أنجزها الباحث المغربي يونس الجازولي، نجد أن من أصل 22 حالة انتحار سجلت وطنيا في الفترة ما بين 20 مارس و20 أبريل 2020، تضم جهة الشمال أكثر من 54 بالمئة من مجموع الحالات، 70 بالمئة منها سجلت في إقليم شفشاون.

 

محمد الرابون في حديث مع “الأيام24” يرى أنها “ظاهرة لم تعد غريبة على إقليم شفشاون بل أصبحت عادية ونسمع أخبارا شبه يومية، ففي هذا الأسبوع تم سجيل حالتي انتحار الأول شنقا والثاني بسم الفئران للأسف، مثلا هذه الحالة أعرفها شخصيا هو رجل لديه أحفاد أصبح بدون مدخول وتضخمت مديونيته وهناك الكثير في الوضع نفسه ويعيشون بدون ربط بالكهرباء والماء الصالح للشرب، والمثير للانتباه هنا هو أن كل الحالات المسجلة تقريبا تقطن في البوادي وليس في مدينة شفشاون”.

 

أما الباحث في علم الاجتماع، عبد ربه بخش، فيذهب في تصريح لـ”الأيام24″ إلى أن لظاهرة الانتحار “أسبابا عديدة ومتعددة، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية غير أن هذه الاسباب موجودة بباقي مناطق المغرب بشكل أو بآخر، فلم تفشي ظاهرة الانتحار بشمال المغرب خاصة إقليم شفشاون..؟
إن هذه الاسباب لوحدها غير فاعلة في ظاهرة الانتحار ما لم تتغذى بعامل آخر أسميه ثقافة الانتحار على غرار ثقافة الفقر عند السوسيولوجي الامريكي لويس أوسكار”.

 

ثم يوضح أن “الأشخاص الذين يحاولون أو يقدمون على الانتحار هم أشخاص يتقاسمون نظاما معقدا من المعتقدات وردود الافعال وأنماط السلوك التي يواجهون بها صعوبات الحياة اليومية، تبدأ من الشعور بالعجز واليأس وتمر من التفكير في الانتحار وتصل إلى إرادة الموت ثم الانتحار. إن هذه الثقافة تتجلى في بعض العبارات المتداولة عند هؤلاء الاشخاص “عنعلق راسي، الله يرفدنا من هد الأرض، الله يجعلها دفنى…”

 

يخلص عبد ربه بخش إلى أن الانتحار ليس نتاج أزمة اقتصادية أو مشكل اجتماعي أو مرض نفسي أو بيئة طبيعية فقط “بل هو نتاج بيئة ثقافية يتشرب فيها الطفل هذه الثقافة عبر قنوات التنشئة الاجتماعية. وعليه يمكننا أن نقضي على أزمة اقتصادية ونحل مشاكل اجتماعية ونعالج أمراض نفسية لكن لن نقضي على الانتحار ما دمنا لم نقضي على ثقافة التعاطي للموت أو الانتحار”.

 

الصورة النمطية

 

كانت حادثة الطفل ريان وراء كشف مشاكل إقليم شفشاون التي حجبتها الصورة النمطية في مخيلة المواطن المغربي عن الشمال والجنوب، فكلما اتجهت شمال تتوقع حياة أكثر رفاهية وأما إذا سلكت طريق الجنوب فتنتظر أن تلاقي أوضاعا مزرية.

 

ففي تقدير الباحث في علم الاجتماع عبد ربه بخش، يمكن فهم وتحليل هذه التمثلات تبعا لسياقين، السياق العام الذي يرتبط بالتصنيف الاقتصادي الذي قسم العالم إلى دول الشمال ودول الجنوب، فالشمال يحيل في هذا الاطار على التقدم والازدهار والغنى والتحضر، في حين يحيل الجنوب إلى التقهقر والفقر والتخلف.

 

أما السياق الخاص فيتمثل في طبيعة الأنشطة الاقتصادية بمناطق شمال المغرب، وهي أنشطة تقوم في مجملها على زراعة الكيف والتجارة في المخدرات والتهريب المعيشي والهجرة إلى أروبا. إن هذه الانشطة في التمثل العام تحقق إرادات مالية مهمة وأرباحا خيالية مقارنة بالانشطة الاقتصادية المعيشية خاصة الفلاحة المنتشرة بمعظم قرى وسط وجنوب المغرب.

 

وتبعا لهذا التصنيف يقول في تصريحه لـ”الأيام24″ يمكن تصنيف الشمال أيضا إلى شمال الشمال “طنجة أصيلة، الفحص أنجرة، المضيق الفنيدق، تطوان”، وجنوب الشمال “وزان،شفشاون، تارجيست، تاونات…”.

تاريخ الخبر: 2022-02-16 12:17:49
المصدر: الأيام 24 - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 71%
الأهمية: 84%

آخر الأخبار حول العالم

حموشي يُشارك في ذكرى تأسيس الشرطة الإسبانية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 15:26:50
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 66%

موظفو جماعة أولاد عياد يصعدون ضد الرئيس بسبب الإقتطاع

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 15:26:55
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 50%

حكيمي في التشكيلة المثالية لإياب نصف نهائي دوري أبطال أوربا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 15:26:09
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 66%

موظفو جماعة أولاد عياد يصعدون ضد الرئيس بسبب الإقتطاع

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 15:26:56
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 50%

حكيمي في التشكيلة المثالية لإياب نصف نهائي دوري أبطال أوربا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 15:26:15
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 63%

حموشي يُشارك في ذكرى تأسيس الشرطة الإسبانية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-09 15:26:52
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 65%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية