عن المصير والصيرورة: ما بين الخوف و الأمل والرجاء


 بكري الجاك
الناس في السودان مقّسمون و منقسمون باشكال يصعب حتي تصنيفها بأي شكل عقلاني، ففي معسكر الثورة هنالكالمنخرطون في الفعل الثوري اليومي و هؤلاء يرون أن الحراك الثوري، بكافة اشكالة من مواكب تنشيطية و مواكب مركزية و تنسيق بين اللجان و كتابة مواثيق، هو خلاصة اسهامهم و كيف لا و بعضهم يقتل و يسجن و الناجين منهم، أو سمهم الشهداء الاحياء، قد أدمنوا مواجهة البمبان الي درجة ان بعضهم يقوم بفتح العبوات التي تم الاستيلاء عليها اثناء امواكب سابقة قبل بداية المواكب كتسخينة للمواجهة و الاشتباك، هذه الشريحة تمثل ضمير غالبية السودانيين الذين يحلمون بوطن يصون الكرامة و يقدس المواطنة المتساوية.

و ايضا في معسكر الثورة هنالك الملايين في الداخل و الخارج لا يستطيعون الانخراط بشكل يومي في الحراك لعوامل مختلفة ليس من بينها قلة القناعة بضرورة و صيرورة التغيير، و بين هؤلاء تتصاعد نغمة الاحباط و الدعوة الي التفكير العقلاني الذي يجب أن يقود الي نهايات منطقية معروفة النتائج مسبقا، كما أن بين هؤلاء بعض الحالمين الذين يصورون الثورة السودانية كثورة للتحرر الوطني علي طريقة الستينات و بداية لهزيمة الامبريالية العالمية و نهاية لنموذج الدولة الرأسمالية.

للمحبطين الذين يخلطون بين ضرورة وجود صف وطني ثوري برؤية موحدة و قيادة موحدة و بين وجود تصورات كلية عن ما سيقود اليه الحراك الثوري، الدعوة لوحدة الرؤي و الاصطفاف الثوري موضوعية و مبررة اما البحث عن كاتلوج لنهايات الفعل الثوري فهذا ليس له وجود الا في افلام هوليود، الفعل الثوري اساسه القناعة بضرورة التغيير و اليقين بأن ليس هنالك نتيجة حتمية لمآلاته حتي و ان رسمنا له كل التصورات المسبقة.

اما بالنسبة لدعاة هزيمة الامبريالية العالمية فليس هنالك غضاضة في أن يؤمن الفرد باختلال في طبيعة النظام الرأسمالي العالمي الذي لامحالة سيقود الي علاقات تبعية و استتباع و استغلال و لكن هنالك غضاضة في أن يتصور الفرد أن السودانيين نيابة عن كافة شعوب الكرة الارضية هم المناط بهم مواجهة و هزيمة هذه التطلعات الامبريالية العالمية. هذا ليس من المنطق و ليس من العدل، فالثورة السودانية مثلها مثل غيرها من الحراكات الاجتماعية التي سعت الي تحرير شعوب بعنيها في سياقات دول قومية تسعي الي تقرير مصير الشعوب السودانية، و السبيل الموضوعي لهذا الهدف هو استيعاب طبيعة هذا النظام العالمي بكل تعقيداته الاقليمية و الدولية و العمل علي توظيف متناقضاته و تطلعاته لتحقيق ما يخدم أهداف الثورة السودانية بتقديم خطاب موضوعي يعبر عن تطلعات السودانيين و لا يقلل من سيادة البلاد في شيء.

باختصار من حق شباب السودان أن يحلم باستقرار و تحسن معيشي و فرص عمل و بناء اسرة، و اذا كانت محاربة الامبريالية العالمية هي هدف سامي للبعض و قد يتطلب ذلك عشرات الاعوام فليس من العدل أن يتم ذلك علي حساب الشعوب السودانية التي لم تحسم كل معاركها الداخلية التي يمكن الجزم بأن جلّها لا علاقة لها باي عوامل خارجية امبريالية اذا تخلي البعض عن أوهام تاثير الخارج علي كل شيء بلادنا. اما المدلّسون الذين سيقولون أن لا مجال لتحقيق اي اهداف تحرر جزئية للسودانيين دون تحرر كل شعوب العالم فهذا ليس فقط محض هراء بل في احسن الفروض هو جهل بطبيعة النظام العالمي و ما يتيح من فرص للحركة و لسنا في حاجة للحديث عن اسوأ الفروض في هذه السانحة.
بخلاف هلال و مريخ و عناء شعبي و حديث و حقيبة و زنق و ترزي بلدي و افرنج و غيرها، السودانيون ايضا الان مقّسمون بين ما هو معادي للثورة فقط لأن في تصوراتهم أن الثورة تهدد مصالحهم الآنية و هذا غير صحيح ففي حقيقة الأمر الثورة السودانية في اهدافها السامية (حرية، سلام و عدالة) تسعي الي فتح الفضاء العام و اعطاء الجميع الحق للتعبير و الدفاع عن مصالحهم و دفعها للأمام و في ذلك فهي تخدم مصالح الجميع. و لو علم الاسلاميين و الانتهازيين و حتي المنتفعين من وضعية اختطاف الدولة السودانية في المؤسسات النظامية من جيش و أمن و شرطة و دعم سريع أن الثورة السودانية الآن تمنحهم فرصة للتطهر و للتعافي و للشفاء من استغلال النفوذ و ادمان التسلط و توطين الظلم، بل أن الثورة تعطي فرصة للجميع للشفاء من الرغبة في الانتقام و الانخراط في مشروع عدالة انتقالية شاملة. اعتقاد أن النفوذ و السلطة كافيان لاستدامة نعم الحياة هو ايضا من علامات الجهل و التاريخ مليء بالقصص في هذا الشأن.
و بين من يعادون الثورة الآن من يعتقدون أنهم هم اصحاب الثورة لأنهم كانوا ضمن القوي التي حملت السلاح ووصلت الي السلطة عبر اتفاق سلام، و هؤلاء خيارارتهم اما التخلي الكامل عن كل القيم و المباديء التي من أجلها استشهد رفاقهم ومن ثم الانخراط الكامل في البحث عن فتات السلطة مع الانقلابيين و هذا طريق نهايته قصيرة أو العمل علي التفكير في كيفية أخراج البلاد من هذه الوهدة التي استمرارها كل يوم ليس الا ترجيح لكفة الحرب التي سوف لا تبقي و لاتذر.

أما في شأن الرجاء الأمل و خصوصا للذين يتماهون مع ثقافة الغرب و تاريخه و خطابه و يتأففون من هذه الانقسامات والتشرزم، كتابات شارلز ديكنز تخبرنا عن مدي البؤس و الفقر الذي عاست فيه هذه المدن المخملية التي يموت شبابنا في البحر المتوسط في السعي الي الوصول اليها، كما يمكن أن نذكر اصدقائنا الغربيين بأن حروبهم استمرت مئات السنين و امتدت الي كافة ارجاء الكرة الارضية و دمرت حياة شعوب لا علاقة لها بهذه الصراعات. خلاصة القول أن الانقسامات و التشرزم و الصراعات هي ظواهر طبيعية في مجتمع يمر بمخاض ميلاد و تخليق مشروع وطني و تسوية تاريخية تؤسس لدولة وطنية هذه المرة غير موروثة من المستعمر بل مصنوعة بدماء و عرق السودانيين، هذا لا يعني بالضرورة أن جل خلافاتنا ليست عبثية و ليس لها اي معني غير الغيرة و شخصنة العام و ضعف الخيال، و هذا ما يجب أن نعمل علي الكف عنه بتوطين العقلانية في طرائق تفكيرنا وفي تعاطينا مع الشأن العام، فهلا وحدنا الوجهة الثورية و تركنا سفاسف الأمور، بالمنسابة سفاسف دي من السفسفة و لمن شنو؟

بكري الجاك
18 فبراير 2022

تاريخ الخبر: 2022-02-19 15:22:09
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:19
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 54%

36 رياضيا في فريق اللاجئين بأولمبياد باريس

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-02 21:26:14
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 60%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية