أوكرانيا... صراع مفتوح وعصر جديد من العلاقات الدولية


نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في نقل المواجهة مع الغرب عموماً، ومع الولايات المتّحدة بشكل أخصّ، من الحدود الأوكرانية - الروسية إلى العمق الأوكراني، وتحديداً حتى حدود إقليمَي دونيتسك ولوغانسك اللذين أعلن الاعتراف بانفصالهما واستقلالهما في اجتماع مفتوح غطّته وسائل الإعلام مباشرة، وحضره الأعضاء الدائمون لمجلس الأمن القومي الروسي.

الاعتراف باستقلال الجمهوريتين أتى بعد خطاب مُتلفز لكلّ من رئيسي الإقليمين، طلبا فيه من الرئيس الروسي الاعتراف باستقلالهما وبإبرام اتفاقات صداقة وتعاون في مجال الدفاع والأمور العسكرية، بما في ذلك حماية مواطنيهم الذين يتطلعون إلى علاقات كاملة مع روسيا.

لقد وفّر مسار الأزمة الأوكرانية -بدءاً من الاحتجاجات الجماهيرية وتغيير النظام وبعدها الحرب المفتوحة في «دونباس» التي وضعت معاني ومفاهيم بروز الهويات أمام اختبار شديد- فرصة نادرة لروسيا لالتقاط لحظة تغيير الهوية. لقد أدّى عجز مجموعة النورماندي، المشكّلة من دول ألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وروسيا، عن تنفيذ اتفاقيات مينسك الأولى والثانية لعامي 2014 و2015 ووقف القتال، إلى تقسيم منطقة الدونباس التاريخية إلى قسمين يفصلهما خط مواجهة، وإتاحة المجال لدمج تدريجي للإقليمين المنفصلين في الهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية لروسيا، من خلال توزيع جوازات السفر الروسية، وإدخال الروبل كعملة محلية وإعادة توطين الشركات والتنسيق الأمني، بالتوازي مع استبعاد الحكومة الأوكرانية الإقليمين من فضائها السيادي بهدف زيادة تكاليف الحرب على روسيا. انعكست المسافة المادية والسياسية المتزايدة بين جزأي دونباس (الجزء الذي تسيطر عليه كييف من جهة والإقليمان المنفصلان من جهة أخرى) على مدى السنوات السابقة تسهيلاً في مسألة فرز الهويات وتشتيت مواقف السكان المحليين.

يغطي الحيّز الجغرافي للجمهوريتين الجديدتين، وفق الإعلان، الحدود الإدارية للإقليمين بما يتجاوز المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون، وبما يعيد التذكير بالشروط التي نصّ عليها مؤتمر مينسك، مما يعني أنّ المجال أضحى متاحاً أمام موسكو لمزيد من التوّغل في العمق الأوكراني وتنفيذ احتلال جزئي لمناطقها الشرقية، من مدينة خاركوف شمالاً حتى دنبّر وماريوبل جنوباً، ليتمّ الاتصال مع شبه جزيرة القرم والسيطرة على بحر آزوف وتحويله إلى بحر داخلي روسي يمكن إغلاقه أمام حركة الملاحة الغربية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ شروط التسوية السياسية اكتسبت بُعداً جديداً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا الأمن الدولي وبمستقبل القارة الأوروبية بشكل خاص.

فهل كانت الأزمة الأوكرانية خارج توقّعات الولايات المتّحدة والدول الغربية، أم أنّ هذه الدول أساءت تقدير ردّة الفعل الروسية، التي تبدو اليوم خارج السيطرة ومستعصيّة على الدبلوماسية لإعادة الأمور إلى نصابها؟


إنّ قراراً أميركياً واضحاً بعدم وجود أي طموح لإدخال أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبعدم الرغبة في نشر المزيد من المنظومات الصاروخية، كان كفيلاً بإحراج بوتين وتعديل مسار الأزمة. كما أنّ الإمعان الأميركي في وضع السيناريوهات العسكرية ونقل أجواء الحرب إلى أوروبا يُظهر إرادة واضحة في دفع روسيا للتّورط بالحرب مع أوكرانيا. لهذا السبب، تمّ إفشال اجتماع النورماندي الأخير لتنفيذ مقررات مينسك المتعلّقة بمنح الاستقلال الذاتي للإقليمين. ولهذا السبب أيضاً، لم تقم واشنطن والدول الأوروبية بأي مسعى لدى كييف لوقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية في الدونباس.

لقد تناقلت الصحف عن مسؤولين أميركيين أنّ الولايات المتّحدة أبلغت حلفاءها بأنّ العاصمة كييف ومدن خاركيف شمالاً ولاوديسا وخيرسون جنوباً، يمكن أن تكون هدفاً لغزو محتمل استناداً لقدرات القوى العسكرية المحتشدة على الحدود. وسبق ذلك إخلاء سفارة الولايات المتّحدة في كييف ونقل العمليات إلى مدينة لفيف القريبة من الحدود مع بولونيا. كما أبلغت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتّحدة في جنيف بثشبا كروكر، مجلس حقوق الإنسان، بأنّ لدى واشنطن معلومات حول إعداد موسكو قائمة بالأوكرانيين «الذين سيتم قتلهم أو إرسالهم إلى معسكرات بعد الاحتلال العسكري».


أهداف كثيرة تبدو منطقية لفهم أبعاد المناورة الأميركية:

أولاً، إخضاع السيطرة الأميركية على دول حلف «الناتو» لاختبار جديد بالتلويح بوجود خطر فعلي يهدد الأمن الأوروبي، ولا شيء أفضل من دفع روسيا إلى التورط في حرب مع أوكرانيا التي تجمع عدة ميزات تفاضلية تتصل بالأمن الأوروبي على مستوى الطاقة والاقتصاد.

ثانياً، وضع حدّ للصعود المطرد للعلاقات الروسية - الأوروبية، خصوصاً الاقتصادية مع ألمانيا، التي باتت ترفض الانصياع للإملاءات الأميركية، لا سيما فيما يتعلّق بالموقف من «نورد ستريم - 2». هذا الخط الذي تعده ألمانيا عاملاً أساسياً في استقرارها الاقتصادي بعد أن اتّخذت قرارها بالاستغناء عن الطاقة النووية ووقف استخدام الفحم الحجري.

ثالثاً، فرض عقوبات اقتصادية قاسية، تشارك بها أوروبا، على صادرات الغاز من روسيا لإرهاق اقتصادها وإفساح المجال لتنويع مصادر الطاقة الأوروبية بعيداً عن موسكو.




ماذا بعد؟

ماذا بعد استقلال الجمهوريتين وإعلان «الناتو» أنه ليس في وارد إرسال وحدات عسكرية للدفاع عن دولة ليست عضواً في الحلف، والاكتفاء بإرسال تعزيزات عسكرية؟ وماذا بعد فشل الدبلوماسية في اختراق الوضع القائم واستمرار عمليات إطلاق نار محدودة بين الجيش الأوكراني والانفصاليين في شرق البلاد، التي لن تلبث أن تتحوّل إلى حرب استنزاف لن تستطيع كييف تحمل تكلفتها على المستويات كافة؟ بمعنى آخر، تحوّلت أوكرانيا إلى حقل معركة لصراع دولي يشتبك فيه الاقتصادي بالأمني، وتقف عند تخومه كلّ من الولايات المتّحدة وروسيا، وتدفع أوروبا ثمناً باهظاً لاستمراره. والسؤال الآن لم يعد ما إذا كان سيتمّ المضي قدماً، ولكن متى، وإلى أي مدى؟ وهل يمكن أن يعني الانتقال إلى الدبلوماسية أقل من المطالبة بتغيير النظام وتنصيب فريق موالٍ للكرملين ووقف أي محاولة للانضمام للناتو والاعتراف بالجمهوريتين وتطبيق اتفاقات مينسك 2014؟

لقد رفع الكرملين مستوى المخاطر بشكل كبير، لدرجة لم يعدْ معها التراجع محتملاً ما لم يتمكّن من كسب شيء في المقابل، أقلّه الدفع باتّجاه المزيد من التنازلات الاستراتيجية فيما يتعلّق بالأمن الأوروبي ودور «الناتو».


حقيقة مسألة الطاقة:

اعتادت أوكرانيا أن تكون محطة رئيسية في نظام الطاقة الأوروبي، لكن الحال اليوم لم يعدْ كما كان عليه في العقد الأخير من القرن الماضي، حين كان معظم الغاز الروسي إلى أوروبا يمرّ عبر أراضيها. لقد قامت روسيا منذ ذلك الحين بتنويع الطرق بواسطة خط أنابيب (Yamal Europe Pipelines) عبر بيلاروسيا وبولندا، وخطوط أنابيب (Blue Stream) و(Turk Stream) إلى تركيا، وخط أنابيب (Nord Stream 1) إلى ألمانيا و(2 Nord Stream) الذي ينتظر التصديق، مما أدى إلى خفض نقل الغاز عبر أوكرانيا بنسبة 70% بين عامي 1998 و2021 من أكثر من 140 مليار متر مكعب في عام 1998 إلى أقل من 42 مليار متر مكعب في عام 2021. لقد خفّضت خطوط الأنابيب الجديدة عدد الدول التي تعتمد على الإمدادات عبر أوكرانيا. اليوم، أوكرانيا هي ممر عبور للغاز المتّجه إلى سلوفاكيا، وما بعده إلى النمسا وإيطاليا.

وقد خلصت ENTSOG (Europe’s national gas transmission system Operators) المنظّمة التي تنسّق مشغلي أنظمة نقل الغاز الوطنية في أوروبا، في تحليل حديث لها، إلى أنّه يمكن إدارة التأثيرات النهائية لانقطاع الإمدادات الأوكرانية، بافتراض وجود سوق تعمل بشكل جيد وتعاون إقليمي.

كتب نيكوس تسافوس (Nikos Tsafos) من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (The James R. Schlesinger chair in Energy and Geopolitics at the Center for Strategic and International Studies) في افتتاحية له: «سيؤثر الانقطاع المادي لتدفّق الغاز عبر أوكرانيا على سلوفاكيا والنمسا وإيطاليا، ولكلٍّ منها خيارات مختلفة للتعامل معها... إيطاليا لديها بدائل كثيرة كونها دولة بحرية، كما أنّ بولندا لديها خيارات بديلة أكثر من أي وقت مضى. وستكون مولدوفا في موقف أكثر صعوبة على الرغم من وصول وارداتها عبر طريق مختلف. وستتوقف قدرة هذه البلدان للوصول إلى البدائل على ظروف السوق العالمية وكمية الغاز المخزنة في أنحاء القارة الأوروبية». وأضاف تسافوس أنّ أمن الطاقة في أوكرانيا لا يزال يعتمد على دورها كدولة عبور، وأنّ ضمان الإمدادات الكافية سيكون أكثر صعوبة من دون هذا الدور، ومع ذلك قد لا يؤثّر القتال المحلي على تدفقات الغاز في حين أنّ الحرب الشاملة قد تستهدف البنيّة التحتيّة للغاز عن طريق الصدفة أو بقصد الحصول على مكاسب عسكرية.

لا يزال قطع طرق إمداد النفط والغاز عن أوروبا سلاحاً يمكن استخدامه لتحقيق أهداف سياسية، بدليل أنّ روسيا لم تلعب دوراً مطمئناً لمعالجة الذعر الذي اجتاح السوق. صحيح أنّ الاعتماد على مبيعات النفط والغاز لأوروبا هو أقل مما كان عليه خلال الحرب الباردة، حيث توجد الآن سوق عالمية للنفط وسوق غاز بديل في شمال شرقي آسيا، ولكنّ حجب المزيد من الإمدادات سيكون له كلفة باهظة على اقتصادها. لكنّ المسألة الأهم بالنسبة إلى روسيا هو أنّ هناك مقايضة دقيقة بين الحافز الاقتصادي للحفاظ على تدفق إمدادات الطاقة والحافز الأمني للتأكّد من عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» مطلقاً، وهي ترى نفسها في وضع ملائم تماماً لأنّ أوروبا تتّخذ خطوات واسعة للابتعاد عن الوقود الأحفوري، ولكنها في الوقت نفسه لا تجد بديلاً عن الغاز الروسي.



عقوبات وقيود وإلزامات

تعتمد أوروبا على روسيا بنحو 40% من غازها و25% من وارداتها النفطية. وبالتالي فإنّ أي اضطراب من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة الحالية. طبعاً يمكن للاتحاد الأوروبي التعامل مع وقف قصير الأجلّ لواردات الغاز الروسي، على الرغم مما يترتب على ذلك من «عواقب اقتصادية عميقة» وتدابير طارئة لتقييد الطلب الصناعي وصعوبة في الحصول على واردات إضافية من الغاز الطبيعي المسال. لكن إدارة الاقتصاد الأوروبي لعدة سنوات من دون الغاز الروسي تمثّل تحديّاً مختلفاً.

لقد زادت أوروبا وارداتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتّحدة وقطر ودول أخرى في السنوات الأخيرة. ففي عام 2020 انخفضت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز بنسبة 9%. ومع ذلك، ظلّت روسيا المورِّد الأكبر للاتحاد الأوروبي، حيث استحوذت على 43% من الغاز المستورد، تليها النرويج والجزائر. بالإضافة إلى ذلك، فقد عززت أوروبا مناعتها منذ أزمتي الطاقة في عامي 2006 و2009 واستثمرت المليارات في توسيع البنيّة التحتيّة التي تسمح لها باستيراد الغاز عن طريق السفن ونقل الوقود بسهولة أكبر عبر القارة، والاستفادة من واردات خطوط الأنابيب من النرويج وشمال أفريقيا وأذربيجان. بالإضافة إلى أحجام إضافية من الغاز الطبيعي المسال، لتحلّ محل الإمدادات من روسيا. لكن الحصول على جزيئات بالمقاس المطلوب لاستبدال الأحجام الروسية بالكامل أمر مكلف للغاية في أفضل الأحوال، وربما غير ممكن.

أما القيود على مسألة تعويض النقص فكثيرة، ومنها أنّ هناك حدوداً لمقدار إنتاج الغاز الطبيعي المسال ونقله، كما أنّ قدرة التسييل العالمية تُستخدم بالكامل تقريباً وكذلك سفن الغاز الطبيعي المسال. يقول رئيس وزراء النرويج، ثاني أكبر مورِّد لأوروبا، إنّ بلاده تقدّم الغاز الطبيعي بأقصى طاقتها ولا يمكنها تعويض أي إمدادات تحجبها روسيا. كما أنّه يمكن لقطر (أحد أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في العالم) إرسال بعض الغاز الإضافي إلى أوروبا، لكنّ الإمدادات الاحتياطية ستكون شحيحة بسبب الارتباط بعقود سابقة. كذلك، فإنّ اليابان مستعدة لتحويل بعض شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، ولكن السفن ستأتي من موانئ في الولايات المتّحدة، وليس من اليابان مباشرةً.

صحيح أنه يمكن للغرب أن يفرض مجموعة متنوعة من العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، بما في ذلك جعل شراء الدول والشركات للنفط والغاز من عملاقتي الطاقة «روسنفت» و«غازبروم» غير قانوني. وفي هذا الإطار، يقول كلّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة إنهما بصدد معاقبة الغاز الروسي في حالة حدوث غزو مع القدرة على تجنب «ألم قصير الأجل» في أسواق الطاقة الغربية. لكنّ ذلك لا يُلغي أن أي قيود ستُفرض على الغاز الروسي سترفع الأسعار في جميع أنحاء أوروبا، لذلك تبقى مسألة وقف شحنات الغاز من روسيا مجرد فكرة نظرية رغم قدرتها على التأثير حتى 50% على مداخيلها من العملة الصعبة.

إنّ أبرز الإجراءات التي قد يُقْدم عليها الغرب هو إحباط خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الذي يمتد تحت بحر البلطيق بطول 1225 كيلومتراً لمضاعفة صادرات الغاز الروسي إلى ألمانيا، والذي استغرق بناؤه خمس سنوات بكلفة 11 مليار دولار، وعُلّقت الموافقة عليه لأنّه لا يمتثل للقانون الألماني. هذا ما صرّح به المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، في 27 يناير (كانون الثاني): «أريد أن أكون واضحاً للغاية: إذا غزت روسيا أوكرانيا بطريقة أو بأخرى، فلن يتحرك (نورد ستريم 2) إلى الأمام».

مع ذلك، وعلى الرغم من الخطاب عالي النبرة في واشنطن، لا يمكن لألمانيا ببساطة إلغاء «نورد ستريم 2» لأنه منجز بالفعل، كما أن لديها أكثر من حافز لتشغيله بعد قرارها التخلص التدريجي من الطاقة النووية والفحم بالتوازي مما يجعلها أكثر اعتماداً على الغاز، وهذا ما سيجعل الروس يفكرون مليّاً في هامش الحركة المتاح أمامهم.


التداعيات على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

يوفر الصراع الروسي - الأوكراني المفتوح فرصاً لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما النفطية منها لتعزيز مواقعها في مجال العلاقات الدولية. فمن المنطقي أن تسعى المملكة العربية السعودية إلى وضع الطلبات الأميركية والأوروبية لزيادة إمدادات النفط لصالح تعزيز موقعها لدى الغرب. بدورها قطر، التي صنّفتها الولايات المتّحدة حليفاً رئيسياً من خارج «الناتو» في يناير 2022، ستطمح في المقابل للحصول على تنازلات أوروبية، قد يكون على رأس قائمتها تأجيل المفوضية الأوروبية تحقيقاً مدته أربع سنوات في استخدام قطر المزعوم لعقود طويلة الأجل لمنع تدفق الغاز إلى السوق الأوروبية الموحدة.

تركيا بدورها ستكون أيضاً جزءاً مهماً من المعادلة، كونها عضواً في «الناتو» ولها علاقات وثيقة بكلّ من روسيا وأوكرانيا. وسيعزز الصراع في أوكرانيا تنافس روسيا والغرب على جذب أنقرة، حيث تحرص واشنطن على أن تواصل أنقرة مبيعاتها من الأسلحة إلى كييف. طبعاً من غير المرجح أن تتحالف تركيا بشكل كامل مع الغرب ضد روسيا تجنباً لمزيد من التعقيدات، لكنّ هذه الديناميكيات ستؤدي بلا شك إلى سياسة خارجية تركية أكثر ثقة بالنفس، تحديداً في البحر الأبيض المتوسط وسوريا، وتخفيف حدّة الانتقادات الغربية لسلوك الرئيس رجب طيب إردوغان الداخلي.

في المقابل، على أوروبا أن تدرك أنّ العقوبات المرتقبة قد تدفع بموسكو إلى استخدام موقعها في ليبيا للرد، من خلال استغلال الصراع المتجدّد وزيادة تدفقات الهجرة إلى أوروبا. كما أنّ تصاعد الصراع في أوكرانيا قد يعيق المفاوضات بشأن سوريا بين روسيا والولايات المتّحدة، لا سيما في إحراز تقدم ولو متواضع في القضايا الإنسانية.

أحد الانعكاسات المهمة قد يكون في التأثير على مسار المفاوضات في فيينا التي لعبت روسيا دوراً بنّاءً في جولاتها الأخيرة، حيث عملت عن كثب مع الجهات الغربية لإعادة إيران إلى الامتثال. لكنّ الأزمة في أوكرانيا قد تدفع موسكو نحو نهج أكثر إرباكاً لتخفيف الضغط على طهران. من جانبها، قد تشعر إيران بأنّ التوترات المتصاعدة بين الولايات المتّحدة وروسيا وارتفاع أسعار النفط يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس ويزيد من نفوذها في المفاوضات.

وقد تتخذ دول شرق أوسطية أخرى مواقف أكثر تحفظاً في رهاناتها. فقد شهد العقد الماضي ازدهاراً في العلاقات الأمنية والاقتصادية بين روسيا والكثير من الدول في الشرق الأوسط، مدفوعاً بإحساس بتناقص الاهتمام الأميركي بالمنطقة.

من المحتمل أن تتخذ إسرائيل موقفاً براغماتياً من الصراع الأوكراني، رغم تحالفها العميق مع الولايات المتّحدة. فمنذ أن نشرت موسكو جيشها في سوريا، أصبح المسؤولون الإسرائيليون ينظرون إلى روسيا على أنها جارهم الجديد في الشمال الذي يعتمدون على تعاونه في شن ضربات جوية ضد أهداف إيرانية في العمق السوري.

تدفع أوكرانيا اليوم أثمان موقعها الجغرافي، على تخوم إمبراطورية صاعدة تحاول استعادة إرثها وتنشد تسليماً دولياً بدورها كقوة عظمى، وتحالف دولي، قادته الولايات المتّحدة ليتمدد على أنقاض إمبراطورية، أعلن منظّروه نهاية التاريخ بعد سقوطها. استفاد الرئيس الروسي من دروس الجيوبولتيك، التي لم تعنِ شيئاً لستالين من قبله بل كان يرفض تدريسها في الكليات العسكرية السوفياتية واستغل بنجاح كلّ نقاط الضعف المتاحة من مسألة القوميات، حتى الطاقة عصب الحياة والاقتصاد مروراً بالجغرافيا التي تتفرد قواته بميزات تفاضلية عليها.

ومع إعلان استقلال الجمهوريتين في الدونباس تدخل أوكرانيا مرحلة الرضوخ القسري لواقع جديد مفتوح على مزيد من التداعيات السياسية والأمنية، قد تكون أولى نتائجه القبول بدولة اتحادية وربما التعايش مع مشروع روسيا الموسعة في المستقبل.


نقاط أساسية

* حُوّلت أوكرانيا إلى حقل معركة لصراع دولي يشتبك فيه الاقتصادي بالأمني، وتقف عند تخومه كلّ من الولايات المتّحدة وروسيا وتدفع أوروبا ثمناً باهظاً لاستمراره

* رفع الكرملين مستوى المخاطر بشكل كبير لدرجة لم يعدْ معها التراجع محتملاً ما لم يتمكّن من كسب شيء في المقابل، أقلّه الدفع باتّجاه المزيد من التنازلات الاستراتيجية فيما يتعلّق بالأمن الأوروبي ودور «الناتو»

* المسألة الأهم بالنسبة لروسيا، أنّ هناك مقايضة دقيقة بين الحافز الاقتصادي للحفاظ على تدفق إمدادات الطاقة والحافز الأمني للتأكّد من عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو مطلقاً

* على الرغم من الخطاب العالي النبرة في واشنطن، لا يمكن لألمانيا ببساطة إلغاء «نورد ستريم 2»، لأنه منجز بالفعل، ولدى ألمانيا أكثر من حافز لتشغيله بعد قرارها التخلص التدريجي من الطاقة النووية والفحم

* من المنطقي أن تسعى دول عربية نفطية إلى وضع الطلبات الأميركية والأوروبية لزيادة إمدادات النفط لصالح تعزيز موقعها لدى الغرب

* يعزز الصراع في أوكرانيا تنافس روسيا والغرب على جذب أنقرة، حيث تحرص واشنطن على أن تواصل أنقرة مبيعاتها من الأسلحة لكييف

* إنّ العقوبات المرتقبة على روسيا قد تدفع بموسكو لاستخدام موقعها في ليبيا للرد من خلال استغلال الصراع المتجدّد وزيادة تدفقات الهجرة إلى أوروبا

* قد تشعر إيران أنّ التوترات المتصاعدة بين الولايات المتّحدة وروسيا وارتفاع أسعار النفط يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس ويزيد من نفوذها في المفاوضات

* من المحتمل أن تتخذ إسرائيل موقفاً براغماتياً من الصراع الأوكراني

* المسؤولون الإسرائيليون ينظرون إلى روسيا على أنها جارهم الجديد في الشمال الذي يعتمدون على تعاونه في شن ضربات جوية ضد أهداف إيرانية في العمق السوري

* استفاد بوتين من دروس الجيوبولتيك، التي لم تعنِ شيئاً لستالين من قبله بل كان يرفض تدريسها في الكليات العسكرية السوفياتية واستغل بنجاح كلّ نقاط الضعف المتاحة من مسألة القوميات حتى الطاقة عصب الحياة والاقتصاد مروراً بالجغرافيا التي تتفرد قواته بميزات تفاضلية عليها


تاريخ الخبر: 2022-02-24 18:21:57
المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 89%
الأهمية: 85%

آخر الأخبار حول العالم

فتح الباب أمام العروض السعودية لصفقة صلاح

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 09:21:52
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 65%

صباح الخير يا مصر..

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 09:21:43
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 60%

مظاهرة الوحدة الوطنية فى سوهاج لمساندة شعب فلسطين

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 09:21:42
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

وزير النقل: لا نتدخل في أسعار التذاكر الدولية - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-11 09:23:41
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 57%

سوء تمثيل!! – صحيفة التغيير السودانية , اخبار السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-11 09:22:58
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 51%

رسالة‏ ‏عيد‏ ‏القيامة‏ ‏المجيد

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-11 09:21:44
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 63%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية